(هذه القصيدة الطويلة كتبتها عام 1994 في أعقاب معاهدة وادي عربة.. بعد صمت طويل.) تعبٌ تناثرَ في شظايا النهرِ لَمْلَمْتُ السرابَ وصحتُ بالعطشى أنا الجريانُ والأسماكُ نائمةٌ بجوفي والهواءُ معلقٌ بين الأصابعِ والهوى نحلٌ يفرُّ إلى البياضِ جناحُه وجعُ التّذَكُّرِ في الخريفِ كأنه رقص الغمامْ. تعبٌ تناثرَ في ثنايا الرملِ ها قدحي على نار الهواجس في فمي جمرٌ وكفّي قشرةُ البلحِ المعتّقِ في فمِ التنّورِ ، حمّى التوتِ شهقاتٌ على جمرِ الوحامْ. الرّيح تعبث في أباريقي، وحلقي نصفه ذُرةٌ يراودُها الحمامُ ونصفهُ خطأ النساءِ، الرّيحُ فلسفةُ التّشفّي بالوجود وبالدّخان وأنت تنصهرين في شبقٍ نبيذاً لازوردياً، وريحُ سجائري طعم الشواء الآدمي، الطّير علقت الصراخ على شبابيكِ السماءِ، وأنت جمّعت النجومَ بخيمتي عنقودَ خمرٍ من إناثِ النهرِ، أنثى الخوخِ مفتاحُ الصبايا للبلوغِ ، ولوثةُ العِنّابِ بادرةُ التعرّفِ بالشفاهِ، وأنت مفتاحي .. وأنثى التّمر تجويفٌ عليه سريريَ الشبقيُّ، والأفلاك تذوي حين تنشر ريشها أنثى الحمامْ . الرّيح خارطة الخراب ولونها غبشٌ خرافيٌّ يذوب به حليب الرعدِ، هذا البرق جمع بعضه زيتاً فهلاّ جئتني مطراً لأنسى كم عطشتُ؟ الرّيح رقص الكون منتشياً بلون الموت هلاّ جئتني نغما لأنسى كم رقصت على جنون الخوف؟ هذا البرق قنديل لمنقار الحمامِ، الرّيح أودعت الحمام وصيّةً منذ اختفت ذات العماد، الرّيح علمت الحمام غرامها بالقتل فاندلقت دماء النّهرِ هلاّ جئتني نعساً لأنسى كم سهرت على ضجيج الرّيش ، هذا الرعد تصفيق لأجنحة الحمام وأنت رؤيا القلب غبّشها السرابُ أنا تحاصرني طبول الكرنفالِ، ضجيج هذا الأربعاء المرِّ، من يبغي صباحاً كي ينام!! أنا عصرت الليل خمراً في كؤوس الشعر، من يبغي جناحاً كي يطير إلى الحمامِ!! أنا ذبحت بداخلي كل الطيور البيض، من يبغي مياهاً كي يجفَّ!! أنا شربت سلالة الأملاحِ ها إني أنام على حواف النارِ والملح استوى قدراً على ياقوتتي، والملح بركان الدوالي.. الرّيح علمت الكواكب أن تسبح مرة للنارِ والأخرى لبركان الحمامِ فمن تهيّئُ زفتي للثلج؟ ها إني أفر إليه أذكر كم سجدت مع المجوسِ .. والملح بركان الدوالي، بعض ما في الرأس وجهكِ والزلازل بعضها خمرٌ لصوت الكونِ،، آتٍ،، والسماء تشققت وجعاً...وكان الصوت أسود كالتماع بياض هذا الكرنفال، الطّير علقت النهود على الكؤوسِ!! الطّير عافية الصخبْ.. الطّير خاتمة لتكفين الغضبْ.. الطّير آنية يذوب بها الذهبْ.. ذهبٌ يذوب على الموائد لا يبرّرهُ سوى دمنا ، ومفتاح الذنوب يذوب في غَبَشٍ من النّسيانِ، أصباغٌ تذوب على النّعاس فلا يرى غير اختلاط الرّيش بالأسرارِ .. يا أسرارُ هل أنت الحليب أم القرارُ؟ وأنت ذوّبتِ النعاس دماً بليل الأربعاء وأنت ترتسمين في وجع السهول الحمر، واحترقت يدي حين اشتهت شيئاً من الحناءِ..صقر ذاب في سمك يطارده البياضُ، يذوب ثدي الزيت، أفراس تذوب أمام أجنحة الحمام ، الخيل حمّلت البياض نعاسَها الورديَّ واستلقتْ على ريشٍ من الصوّانِ، أسرجةٌ تذوب تذوب شهقات الزفير المرِّ في بحر يجدول ملحه سبعين عاما قادما، وتذوب أوطان تجدول دينها سبعين عاما قادما، وتذوب صحراء تجدول رملها… ها أنت ترتسمين في غصن من النارنجِ والأيتام حولك في المساء تذوب أزهارٌ تجدول عاشقيها، أنت والحبُّ المفاجئُ ترقدين على جفاف الموقد الشتويِّ والأشجار ثديٌ من حليب الدفء ذابت واستوت حمماً وإذ جنحت لبركان الحمام أنا جنحت إليكِ هاااااااااا إني أُزفُّ وريح عطري آخر البارود في ليلِ الغرام فهل أضمك قبل أن ينداح ضوءُ الريشِ هل أنساك قبل رحيل قافلة الكلامْ! كم كان يلزم كي أفرَّ من الغرامْ ! كم كان يلزم كي أذوبَ مع الزحامْ! كم كان يلزم كي أزيلَ قميصي الكاكيّ من ريح البنادق أرتدي ثوباً جديداً كي أزف إلى الحمامْ ! *** والحمامُ غبارٌ تدلّى على شرفة العمر غايتهُ ذرةُ القلب، زنّرني بوشاحٍ من الفلّ قبّلني ليلة العرس في شفتي واستراح على شاطئٍ من ذهولي. ثم راغ إلى دهشتي ، واستقر على الرمش راوغ جمرة عينيّ حتى استحالت غشاءً شفيفاً ومدّ أظافرَهُ في دماغي ليرسم لون البياض على حائطٍ لم يزل تحت جمجمتي أحمرا .. أحمرا .. أحمرا .. ثم طار إلى ساحتي في السماء، استباح علاي وأومأ لي أن أمدَّ يديَّ وأسقيه خمرا ، وأصلب كي تأكل الطّير رأسي !! سديمٌ تناسل ، أبحث عن بؤبؤي في الغبار فتبيضّ عيني ، وتسرقني مدنٌ كالحاتٌ شوارعُ بيضاءُ أقبيةٌ ناطحاتٌ من الرّيشِ صفٌّ من المزهرياتِ أبيضُ أبيضُ أبيضُ كفَّنَ وجه السّماء ومدّ رداء العروسِ كأن السّهول تجهِّزُ أعشابَها للجنازةِ أو للزّفافِ إلى جبلٍ غارقٍ في البياضِ ويأجوجُ ريشٌ تناسل من كل صوبٍ وجمّدَ ملح البحيرة حتى استوى الكون شاشاً يضمّد جرحَ العيونِ ويفجعُها بالبياضْ . والبياضُ سدىً لغسيل قزحْ. البياضُ انبهار يغلِّف رسماً على جُدُرِ الذاكرةْ. وأنا.... كنت دوماً فضاءً لقوسِ الشّموسِ وقرصِ الشفقْ. كيف أهفو إليه أنا الماردُ الآدميُّ الذي يرتدي الزعتريَّ ويركب ريح الحبقْ! هل بقيت أنا حين ضيعتُ لوني أنا الولد الفوضويُّ الذي يرقص الماعز الجبليّ على كتفيَّ ؟ وهل ظلَّ شيءٌ من القرمزيّ لأقذِفَهُ في البياضِ أنا الولد الفوضويُّ الذي كان من صرختي يسرق الضبعُ إكليلَهُ والوعول ابتساماتِها والغزال طمأنينة القلبِ ها إنني الولد النرجسيُّ الذي جاوز الحدّ في العشق لم تسرق الأغنيات صهيليَ بي رغبةٌ أن يكون سريريَ وعلٌ من البرِّ أركبه حين أغفو أنام على ظهره حين يهرب في جبلٍ مستباح المراعي لقد وَلَغَ الكلبُ في مزهريّاتِ هذي المدائنِ هاااااااااااااا إنني الشّنفرى كنت دوما أراني على جذوة الشمسِ كنت أراني على وبر العشبِ والقمر المستفزّ الضياءِ وفي حدقات النساء المليئة بالإرتعاشِ على صفحة الماءِ والرملِ والجمرِ والدمعِ والشهقاتِ وكنت أراني على ليلكِ الخيلِ ..أهرب من غابة الزّنْزَلَخْتِ إلى غابةِ الإنفلاتِ الذي يرتديني وأمضي لراعي الوعول أراني وأُلبِسُهُ التاجَ ، أمنحهُ صولجاني إمارةَ هذي الجبالِ وعرشَ الكواكبِ شيخ الرعاة أنا للقصيدةِ حين تلوذُ بجوفي طقوسٌ من الرملِ طقسٌ يشدُّ الغيوم الى دفتري في المساءِ وطقسٌ يجفّفُ وقتي ويتركني كومةً من نحاسٍ طقوسٌ تعيدُ اعتقالي بزنزانةِ النهرِ آآآآآآآآآه أنا الوعلُ زنزانةُ الملحِ يحبسُني النهرُ فيها وزنزانةُ الملح دوّامةٌ تستفيقُ على وجعي كل يوم فأصرخُ أصرخُ أصرخُ يا أيها النهرُ لا تحتفلْ بالحمامِ وغسِّلهُ كي تعرفَ اللوْنَ يا أيها "السيسبانُ" يسيلُ لعابُ الحمامِ احمراراً فيرسمُ خطاً غريباً على الريشِ والريشُ أسودُ أسودُ أسودُ فأنا أعرف الأبيضَ الريشَ كم كنتُ أهذي على الملحِ ها إنني أُبصرُ اللونَ جيْداً ودائرةُ الماء تعرف لون الحمامِ فغسّلهُ جيداً ولا تحتفلْ سوف يقصون ماءك عنكَ وسوف تسيلُ النهودُ عن النخلِ يقصون عنّيَ من يتثنى ذراعي عليها وهذا الحمامُ سَيسّاقطُ الملحُ عن ريشهِ حين يستكملُ اللونُ دورتَهُ سوف تبصرَ دائرةُ الماء كلّ المجرّاتِ يا أيها النهرُ ما زال ماؤك أحمرَ أحمرَ أحمرَ كم من زمانٍ سيلزمُنا كي نقيمَ عزاءَ العصافيرِ أو نستعيدَ على فرحٍ كرنفالَ الخُضارْ! وكم كان يلزمنا كي نكفّنَ قتلى الحروب ونمسحَ جوّافةَ النهرِ من أرجوانِ الدماءِ الحمامُ استباحَ بيادرَ أحلامِنا كم من النمل يلزمنا كي نعيدَ الحبوب إلى روزنا الذكرياتِ؟ ويا روزنا لا تبوحي بما وشوشتنا العصافيرُ عن نسوةٍ كنّ بدّلنَ أثوابهنَّ وراءَ النهارِ استرحتِ قليلاً على الشّالِ ضوءٌ تسرّبَ من روزنا القمحِ بي رغبة أن أراك من السّطحِ عاريةً تهربين عن الضّوءِ قبل سقوطِ عيوني إلى أسفلِ الشّالِ كم من نهارٍ سأحتاج حتى أعيدك نحو اشتهائي لأعرف كم تشبهين البنفسجَ والروزنا تفتح الدّرب ليستْ تميّز شكلَ الحمامِ فيا أيها النهرُ كيفَ أقشّرُ جلديَ عن لونهِ الزعتريِّ وأدهنُهُ زهرَ لوتِسَ حين أنامُ على مرجلٍ من حرير!!! وحين تسلّقتُ سلّمَ هذا الغبارِ المثيرْ!! وحين تصير الثعابينُ أوردةً تحتَ جلدي وحين تعلّمت مشي الحمامِ وطبع النعامِ وحين يصير الذي لا يصير!! وكم كان يلزمنا كي نزيلَ لحاءَ البواريدِ عن لحمنا !! واللحاءَ الدخانيَّ عن شجر اللوزِ ثم نفيق قليلاً نداعب شَعرَ النساءِ لكي نستفزَّ الأنوثةَ بي شهوةٌ أن أمد يديَّ ولكنْكِ تهذينَ من ذكرياتِ الحروبِ فيعتمُ فيك السّفرجلُ بي صرخةٌ أن تثورَ البراكينُ في الذّاكرةْ. فتميّزُ أشجارُنا بين لون النهارِ وبين غمامةِ هذا البياضِ الذي أحرق الحقل حين رأتْ لونَهُ سنبلةْ. هل تميّزُ أشجارُنا بين لون النهارِ وبين غمامةِ هذا البياضِ الذي أحرق الحقل حين رأتْ لونَهُ سنبلةْ ؟
عاطف علي الفرّاية شاعر وكاتب مسرحي، من مواليد الكرك- الأردن 1964م،حصل على بكالوريوس لغة عربيّة من جامعة بيروت العربيّة عام1992م.
له عدة اصدارت منها:
حنجرة غير مستعارة: ديوان شعر 1993 منشورات ...