إنّي لا شيء وحديثي عابرٌ، مِثْلي، بين عابرينَ، لذلكَ أتحدّثُ عنكَ إنّي أتحدّث عنكَ لا عن ظلّكَ الجالسِ – وحيداً – تحت سكون الشجرةِ عند المفترَق حيث أعمدة تلغراف قديمة منزوعة الأسلاك، وعابرون يمرّونَ بِسَهْوِكَ ولا يلتفتون إنّي أتحدّث عنكَ لا عن خيالك الماثل أمام عينيّ أو منامي أتحدّث عنكَ لا عن المصباح الذي يرفع الظلَّ إلى مصافِ الساحرات اللواتي كُنّ ظلالاً ماكرة ولا عن الأعراقِ التي استخرجتها الأيدي الحاذقةُ من جوفِ الأرض، ولا عن المناجم التي كانت تُسمّى، في حياةٍ أخرى، ممالك الكدّ وأهراء الشقاء لم يبق أحدٌ لا أحد هنا سوى أنتَ ملاذ الهَاجرين بيوتهم إلى الأبد، لا أحد هنا، وملاذُكَ أنتَ مثل هذا الأرق الطويل لا أحد هنا يحبّ الحجَرَ أو يأنَس إلى برودتِه وصمتِه حتّى المناماتِ المُرعِبَةِ لم تُبقِ للحجَرِ معنىً حتّى الشجرة العاقر لم تثمر يوماً حصاة (ليس الوعر أرضاً خلاءً بل أبصار موحشة، أولعلّه الدربِ الذي لا يسلكُهُ عابرون فتقطنه لكي تؤنسك نفسُكَ وتهتدي بكَ إليها كأنّكَ العلامة، كأنّك رسم شعابٍ لوهمٍ يقطن بقاعَ الوهم، وإذ يهتدي إليك مطارِد الأثر والرحّالة والضالّ والظامئ والمنهوك، يضعكَ لغزاً في كتابه لكي يفسّر المفسّرون سرَّك الخالي من المَكْرِ المغطّى بالفضول). إنّي أتحدّث عنكَ، بفصاحةِ التوهّمِ، أنتَ وحدك الحقيقي، صامتٌ وباردٌ ومزهوّ بصمتِكَ وبَرْدِكَ، أنتَ وحدك الحقيقيّ وإذا أعيتنا الحيلةُ في أمرِ موتانا جئنا بتقوانا إليكَ ورِعينَ، مُطرقينَ، مضمومي الأيدي، متوسّلينَ أن تكون ملاذاً لذكرياتنا وحسراتنا وخشيتنا من كونكَ الملاذ الأخير (نسيرُ قُدُماً إليكَ باحثين عن العلامة التي بك صارت نُصُباً، نضع باقاتٍ وتذكارات وصوراً، ونضيف حجراً إلى الحجرِ وحصاةً إلى الحصاة، ونترك خبزاً وماءً، ونعود فرحينَ من حيث أتينا لا نحمل لكَ وللموتِ ضغينةً). إنّي أتحدّث عنكَ كما يتحدّث أحياءٌ عن أحياءٍ مثلهم وأتحدّث عن جوفِكَ الذي هو نارٌ خامدة، نارٌ باردة، عن ملمَسِكَ الخشِن الذي يشبه الضغائن الدفينة، ملمَسِكَ المخادِع الذي يسري خدراً في الجسم إنّي أتحدّث عنكَ أنتَ الحقيقي عن كتابك الغامض كالمتاهِ (قيلَ عن مَطْهَرٍ لم يذكره الله في كتابِه، عن شعوبٍ من الموتى هم عَتادُ العبورِ من الضفّة إلى الضفّة، وقيل إنّ ذكرهم جاء مقتَضباً في كتاب هو كتابك، عن كتابكَ الذي لا يُحصى المحفوظِ أجزاءً لا تحصى على أرففٍ متداعية في مكتبةٍ متداعية مؤلّفة من حجراتٍ لا تحصى، عن كتابكَ الذي اشتملَ على شعوبٍ من الأسماء، على شعوبٍ من النكراتِ التي لا أحد يعرف يقيناً، إلاّ الأبناء والزوجات، إذا كانت هنا حقاً، ومتى غادرت أو إلى أين غادرت، أسماء، هي أسماء غائبين، دوّنت فيه، بحسب الترتيب الأبجديّ، سيرهم مقتضبة نقلها الرواةُ عن "موسوعة الموتى(*)"، كتابك المتوالد في مجلّداتٍ صارت بيوتاً للعنكبوت التي صارت بيوتاً للغبار، سلسلة غليظة كسلاسل المساجين الغليظة تخترق أطرافَها السفليّة، وتشدّ وثاقها إلى حلقةٍ مثبتة في الجدار، وللزائر أن يقلّب صفحاتها بين هامش الضوء وهامش العتمة وإلاّ استحالت صفحاتها غباراً، عن كتابك الذي احتوى سيرةَ أبي، وسيرتي وسيرَ آخرين، مثلي، لم تكن لهم سيرٌ لكي تُكتَب، عن كتابِكَ الذي لا يُشبِه الكتبَ ورآه المفسّر في المنامِ، ورآه المفسّر في اليقظة، ورأى فيما رآه أنّه كتاب لم يُكتَب). إنّي أتحدّث عنكَ، لا عن الشواهد والجدران والبيوت والمزارات والصروح عن الحكمة الموروثة عن سلالتكَ الحجريّة أتحدّث عنكَ عن المأثور على قوسِ بابِك: هنا جانبُ الظلِّ رَحْبٌ وأبوابُه واسعةٌ والقاصدون كُثُرٌ وما من طريقٍ إليه كمنزلٍ ريفيّ وسطَ المروج لا درب يهتدي إلى بابهِ الضيّق المتوحّدِ فوق العتبة لا أنا ولا أنتَ ولا المُبصِرُ في منامِه ندري ما الخيالات المترائيّة عند مفترَقٍ قريبٍ بعيدٍ عائمٍ على صفحةِ السرابِ الذي ترفَعُه العيونُ المترقّبة المتعبة المتوهّمة: شخوصٌ نابتةٌ في الوعرِ كمخلوقاتِ التوهّم، ليست من الإنس وليست من الجنّ كأشجار سروٍ مُستنفَدٌ هواؤها كأعمدة تِلِغراف صامتة، كأناسٍ ليسوا مثلنا، نحن أرواح البيوت المطمئنّة، كأناسٍ ليسوا مثلكم، أنتم روّاد السُبُل الزائلة، بل كمِثْلِ المقيمين عند المفترق، جنبَ الطريق، أهل المزارات التي لا يقصدها إلاّ غرباءُ حاملين باقاتٍ وزاداً، وشموعاً توقَدُ مرّةً وحيدة لكي تأخذ الريحُ، إذا هبّت الريح، شُعلتَها، وتبقى، هناك، شموعاً كأعواد البلّور المطفأة سكينةٌ مُطبقةٌ يرجّها زعيق السيّارات المسرعة إلى حطامها إله ساذَجٌ إلهٌ ساذَجٌ ويافعٌ وميت إله ساَذَجٌ – ويافعٌ لأنّه ميت جَعَلتْ له الأيدي الغريبةُ مزاراً عند المفترق، كومة أحجار رُفِعَت، مُرتَجَلةً، بجنبِ الطريقِ، مطوّقة بباقات وعباراتٍ خُطّت على لوحٍ مُرتَجل، وصورة ما كانَ لبعض الوقت صورة – في إطارٍ مُرتَجَل لا أحد هنا، وهنا لا تُسمّى القبور – ولو مأهولةً بالموتى – تلك التي يخلّفها المسافرون قبوراً بل علامات لمسافرين سوف يمرّون بها من بعدهم ويتركون بجوارها قِربَةَ ماء وأطعمةً وأغطيةً وآثار أقدام، هنا لا تُسمّى المواكبُ إليها جنازاتٍ بل أسفار، لا تُسمّى القبور إلى جانبِ الطريق – ولو غير آهلةٍ – قبوراً بل مزارات (كأن يمرّ بها الغريبُ، عابرُ السبيل، ويتركُ بقربها منديلاً، أو شالاً، أو عقب سيكارة، أو حصاةً ينتقيها للذكرى، ويرمي بها فوق كومة الحصباء والأحجار لا ليخلّف أثراً بل ليمحو أثرا فلا المزار علامة ولا الحصاة ولا الغريب). بيوتٌ مُرتَجلةٌ في العراء لم تكتمل بعدُ ولم يقطنها بعدُ أحدْ لكنّها، منذ البَدءِ، مأهولة بشخصِ الذكريات (كأن لا يكون جدارٌ ومع ذلك، وبرغم بذلك، يُفتَحُ فيه بابٌ. كأن لا يكون أبٌ وأمّ وأبناء ومع ذلك، وبرغم ذلك، تكون أسرّة ومزهريات وكتب ومائدة. كأن لا تكون حجرة المعيشة ومع ذلك، وبرغم ذلك، تكون كَنَبات وإسكملة ولمبة وتلفزيون وأدراج لأوراق الرسائل ودفاتر اليوميّات وأرقام الهواتف والعناوين البريديّة وحساب البقّال وفاتورة الكهرباء وعلبة الأسبيرين والأقلام الحبر والرصاص وإخراج القيد العائلي وجواز السفر القديم وعلبة الملبّس والساعة القديمة وفردة القِرطين المتبقيّة بانتظار العثور على الأخرى، ومفكّرة الجيب، ومفاتيح كثيرة مبعثرة أو مضمومة في علاّقة ولا أحد يذكر الآن إذا كانت لأبوابٍ وأين هي هذه الأبواب...) ولا تُسمّى أضرحةً فلا مَن يرقد فيها مجرّد علاماتٍ يلتفت إليها العابر بسيّارته مُسرِعاً أو المارّ بها سائراً على القدمين، ساهياً، لا أشجار باسقة شاكيةً تحيط بها أو تظلّلها، لا شواهدَ لا أسماء لا أسوار لا شارات لا دروبَ أنصابُ عبورٍ خاطف إذ تمرّ بها مبتعداً تتضاءلُ رويداً قبل أن يحجبها عن عينيكَ المفترق قبل أن يحجبكَ عنها المفترق أنتَ لا شيءَ وحديثُكَ عابرٌ، مثلك، بين عابرين لذلك أتحدّث عنّي، أنا، العابرُ قليلاً في ظنِّك
هو كاتب وشاعر وصحفي ،ولد في صور (جنوب لبنان) في 13 / آب عام 1955 .
حصل على الإجازة التعليمية في الفلسفة العامة من الجامعة اللبنانية، وتابع دراسته العليا في باريس ...