الديوان » مصر » محمود حسن اسماعيل » في وادي النسيان

عدد الابيات : 84

طباعة

جَدَثٌ بمدرجة الرياح مُعفّرُ

البُومُ ضَيفُ تُرابِه والقُبَّرُ

ذَاوِي الرُّسومِ مِنَ الْبلى فكأنَّهُ

أَثُرُ النّمال مشتْ عليه الأعْصُرُ

أو خطّ رملٍ أنشأتهُ بنانةٌ

لسطيح من ماضي الدّهور مُسَطّرُ

أو حكمةٌ مرقومةٌ في معبدٍ

مُتهدّم شابتْ عليه الأسطرُ

أو نقشةُ في حانةٍ مَهجورةٍ

ألجامُ صُفّاحٌ بها مُتبعثرُ

عبرتْ عليه الريحُ كاسفةَ الخُطا

موهونةً فوق الثرى تتعثّرُ

والليلُ أطرقَ واجماً فكأنّهُ الزّنجيُّ

في حلكِ الأثير يُفكّرُ

والنجمُ يخفقُ رحمةً فتخالهُ

عيناً من الغيب المسَتّرِ تنظرُ

والنيل حين جرى بجانبهِ سرتْ

في موجهِ البلوى وكادَ يزمجرُ

والعبقريّةُ أعولتْ مشدوهةً

ثكلى تَفجّعُ صوبَهُ وتحسّرُ

قالتْ وقد شهدته منبوذ الحمى

وحفيرُه في البيدِ أشأمُ أغبرُ

والسافياتُ شددنَ من أوصاله

قصبا تزفُّ بجانبيه فيضفرُ

ونشرن من أكفانه رغم البلى

طاراً عليهِ يدُ النسيم تُنقّرُ

وهزجن والبؤس المخلّد مائلٌ

كالأمس في حرم الردى يتبخترُ

وأقمن عرسًا ماج فوق ترابهِ

يلهو به جنُّ الفلاة ويسمرُ

يا قبرُ لي تحت الصفائح شاعرٌ

تاريخه من نحسهِ متفجّرُ

عبر الحياة فما صغت لنشيدهِ

أُذُنٌ ولا واستْه عينٌ تبصرُ

فكأنما ألحانهُ تأويهةٌ

في الليل ردّدها شجٍ متحيّرُ

أو دمعةٌ محنوقة وقفت على

شط الجفون سجينةً لا تعبرُ

أو دعوةٌ محبوسةٌ في مهجةٍ

جلّى هُداها في الدُّجى مستغفرُ

أو همسةٌ في الغاب تائهةُ الصدى

أبلى نُفاثتها الظلامُ المصحرُ

دنيا من النسيان أُلْقِيَ مهدُه

فيها وسوّيَ لحدُهُ المتهجّرُ

ونصيبهُ بعدَ الفناءِ مصفّقٌ

يهذي لراثٍ في المنابرِ يَهترُ

ومهلّلونَ لشاعرٍ مُترنّمٍ

يلغو بأسجاع البيان ويهذِرُ

يا قبرُ هدّ بِناكَ عن جنباتهِ

مَنْ قال نسلُ العبقرية يقبرُ

فا هتزّ مُرتاعًا وغمغم جاثياً

ومضى يهلّلُ نحوها ويكبّرُ

لا تجزعي فهُنا الخلودُ وسرّهُ

خافٍ على كلّ العقول مستّرُ

لا تحسبي قبب الرخام أظلّها

بالسّرو ريّانُ الفروع منضّرُ

نفضت بساحتها العطارُ جيوبُها

فالمسكُ يسطع تحتها والعنبرُ

وأحالها فنُّ المصوّر آيةً

سرتِ الحياةُ بها فكادت تطفرُ

ومضت بها التيجانُ تلمع في الدّجى

كسرى نزيلُ رحابها أو قيصرُ

أزكى ثرًى من حُفرةٍ مطموسةٍ

دفنت بها ميْتاً لديها عبقرُ

تذرى ويذرى العظم في هبواتها

والخلد من ذرّ التراب منوّرُ

هذا ربيبكِ أعظمٌ منسيّةٌ

رجفت لها في الخافقين الأدهرُ

في مهرجان الخالدين حديثه

نغمٌ على شفةِ الخلود معطّرُ

حشدت له الأهرام ذكراً لو عدا

فيها البِلى لصبا إليهِ المحشرُ

في كلّ محرابٍ بها وبنيّةٍ

شادٍ يرتّل لحنه ويكرّرُ

شعرٌ إذا ما القيد صلّ حديده

في ظلّها يُضرى لظاهُ فيصهرُ

هزّ الجنوب بثورةٍ صخابةٍ

يغلي بها صمت القصيد ويسعرُ

تسري فيرهبها الطغاة فتبري

كالموت لا تبطي ولا تتأخرُ

من راح ينكرُ حاسدًا أصداءها

هذا دمُ الشهداء منها يقطرُ

في دنشوايَ لها رنينٌ خالدٌ

زعجَ الزمانُ دويّهُ المتسعّرُ

سجدت لصرخته المشانق رهبةً

وارتاعَ من خفقانها المتجبّرُ

وأناملُ الجلاد ودّت رحمةً

لو كلّ أنملةٍ عليها خنجرُ

ترتدّ في عنق الذي يهوي بها

قدرا يذودُ عن البريءِ ويثأرُ

تخذوا الحمامَ إلى الحمامِ وسيلةً

شنعاءَ واهتاجوا هناك وزمجروا

نصبوا مشانقهم لنا فكأنّنا

قطعانُ شاءٍ في المجازر تُنحرُ

ولو انّها نطقت لصاحت في الورى

كيدٌ لمصر وحويةٌ لا تغفرُ

إن كان بطشهم تكبّر عاتياً

فالله والوطن المفدى أكبرُ

قمْ عاشقَ النيلِ استفقْ فصباحهُ

حيرانُ في الشّطينِ أغينُ أصفرُ

صديانُ ما نقع الندى لغليلهِ

شوقاً ولا روّاهُ موجٌ يزخرُ

لهفانُ ينتظر الذي غنى له

ويصيح في نور الخميل ويزأرُ

أينَ الندى والسلسل المسكوب من

نغمٌ صداُ بلا آثامٍ يُسكرُ

أين البلابل في الضحى مسحورةً

بالشدو أنطقها الربيع المزهرُ

من شاعرٍ نهب الضحى وأذاعهُ

لحناً يغردُ في الربى ويصَفّرُ

ما شدّ أوتارًا له أو أرغناً

بل كان شطّي في يديه المزهرُ

ولهٌ بمصر وهزةٌ في قلبهِ

بغرامها كاللجّ راحت تهدرُ

وهوًى أحال الشرق قلباً ثانياً

في صدرهِ بِأسَى النوازل يشعرُ

سلْ غادة اليابان كيفَ أهاجها

في الروع عن ضافي الثياب تُشمّرُ

تمضي بمشتعلِ السّنان فإن قسا

تأسو جراحات السنان وتجبرُ

واسمع نشيد الأرز في لبنانِهِ

بردى يكاد بسحرهِ يتخدّرُ

والحور منتفض الغدائر راقصٌ

نشوانُ من رجع الغِناء مُطيّرُ

شادٍ بأظلالِ الجزيرةِ ساجلتْ

ألحانَهُ تحت الصنوبر دمّرُ

أسرى إلى الدنيا الجديدة صوتُهُ

فاهتزّ من طربٍ لديها المهجرُ

واسَى النزيل بها فكاد غريبها

يعييهِ للوطن الحبيب تذكّرُ

سل عنه في يوم الإمام خريدةً

وضحُ الهدى من صفحتيها مُسفرُ

فزعت إلى القبر الطهور وقلبها

جزعاً عليه من المحاجرِ يقطرُ

بالأمسِ علّمها التصبّرَ في الأسى

وطحت بها البلوى فكيف تصبّرُ

هتفت به يا موقظ الإسلام قُمْ

فالشرق بعدك واهنٌ متعثّرُ

كادت مآذنهُ تميد قبابها

وأَذانُها يَرثي ويهوي المنبرُ

يا ومضةً من كاملٍ قد أشرقتْ

فيضاً مِنَ النعش الطهور يُحدّرُ

هاجت على أوتار شاعره لظًى

متخشّعاً يخفي اللهيب ويسترُ

تذكو فيرهبها الجلال فتستحي

فتدسّ أنفاس الضرام وتضمرُ

الشعلة الأولى بوادٍ مظلمٍ

هالاتها من أصغريهِ تنوّرُ

قلبٌ كأنّ النيل أرضعهُ الندى

في المهد قدسيُّ الشغاف مطهّرُ

فإذا يجنّ لمصر تحسبه الصبا

في فجرها فوق الخمائل تخطرُ

وإذا يثور لها تخالُ مروجها

غيلاً يهيج على ثراه القسورُ

مجنون بالأوطان تحت لسانهِ

وجنانهِ نبعٌ لها متفجّرُ

إن الجنون بمصر أروعُ حكمةٍ

يوحى بها شرع الوفاء ويأمرُ

قم عاتب الأوطان حافظُ هاتفاً

بهواه إن جنانها متحجّرُ

شعرٌ إذا ينساهُ شعبُكَ جاحداً

فالنيل في يوم الفخار سيذكرُ

خبلَ الحزانى حين رنّ لبُؤسهم

غرباءَ بالعَوْدِ المفاجيء بشّروا

يأسو وأجراحُ الزمان دفينةٌ

كسرائرٍ في قلبه لا تنشرُ

أذكى أسايَ ولم أر الشادي به

لكنّهُ نسبُ الجحود مؤصّرُ

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن محمود حسن اسماعيل

avatar

محمود حسن اسماعيل حساب موثق

مصر

poet-mahmoud-hassan-ismail@

36

قصيدة

399

متابعين

شاعر وأديب مصري، ينتمي إلى المدرسة الرومانسية، عده النقاد واحدا من أبرز الشعراء المجددين.ولد محمود بن حسن إسماعيل 1910م في بلدة النخيلة بمركز أبو تيج، في محافظة أسيوط.التحق بكُتاب البلدة، ...

المزيد عن محمود حسن اسماعيل

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة