الديوان » احمد علي سليمان عبد الرحيم » قراءة في أوراق الماضي (محوار مع مقلتي!)

يَا شَامَةَ وَجْهي ، يا أُمنِيتي ، يا جَوهرتي ،
يا آسرتي ، يا مَفْخَرتي: «يا ذي العَيْن»
أنتِ الدُّرةُ ، أنتِ الحُرةُ
أنتِ لعَلَّ وليتَ وكيف وماذا وأَينْ
أنتِ البَسْمَةُ ، أنت الأمل الدافئ في آناء الضَّـيْم
لأنكِ عَيْن
أنتِ النُّورُ ، وأَنْتِ الفَجْرُ
وأنتِ حَيَاتِي: يا ذِي العَيْن
وأنَا لفِراقِكِ مُلتاعٌ ، مَكْسُورُ الخَاطِرِ
باكِي العَين
وبكُلِ بُحُور الشعرِ بَكيْتُ
وتلظَيْتُ ، غزانِي الشَّينْ
بالبَحر الكامل ، كانَ بُكائي
وكذا بالوافر ، والمُتقارِب ، كُنتُ بَكَيتْ
وكذا بالرَّمَل بَكَيتْ ، وكذا بالهَزَج بَكَيتْ
وتَحَديْتُ بُحورَ الشعرِ ، وتَلَظَّيْتُ بوَزْنِ الجَمْرِ
وكذا عانَيْتُ بكل رَوي
وعَلا في قَلبي كلُّ دَوي
قافيةٌ تحْطِمُ قافِيَة أُخْرَى
لأعزيَ بالشعْرِ ـ جميع الشعر ـ ضِيَاءَ العَيْن
حتى بالشِّعْرِ الحُر المُوغِل في غَيَّابَةِ جُبِّ الزَّيْفِ
بَكَيْتُ العَيْن...
وكذا باللاشعر بَكَيتْ...
ما كنْتُ أفكِّر فِي هذا أَبَدًا
ما دار بخَلَدي ، لمْ يَطْرُقْ ـ يومًا ـ ذاكرتي...
أنْ أكتبَ لا شِعْرَ ، وأزعمَ أنِّي أكتُب شِعْرًا...
أنْ أمسَخَ شِعْرَ المُتنبي...
أنْ أطعَنَ بالكَلِمَات جَريرَ أو الخَنْساء...
أنْ أُوغِرَ بالألفاظ مَعِين زُهَيْرٍ وابْنِ المُقْرِي...
ولقدْ سَاءلتُ الماضيَ عنكِ مِرارًا...
فتجاهلني أولَ مَرة.... وتحداني ثانيَ مَرة....
فاستعطفتُ الماضيَ قلتُ: تمهلْ ، هذي ثالثُ مَرة...
مُذ وقعَ بعَيْن الشَّهم الحَين...
فإذا الماضي يضربُ كَفًّا فوق الكَفِّ بقسْوَة...
ويقولُ: تُسائلنِي عَنْ عينِكَ هَذي ، عَجَبًا...
مَا عِلمي؟ يا هذا قلْ لِي: ما تجربتي؟ من أعلمني؟...
أيامُ المِحنةِ وَلَّتْ تبكي... وكذا المُقلة تبكي
فاحملْ عينَك فوق جِبال الصَّمتْ...
ودع الماضيَ فِي حَيْرته...
واستقبلْ أمْركَ يا هذا ، وانهضْ فالأيامُ تَـمُـرُّ مُرورَ الطَيفْ
كُفَّ لعَلَّ ، وليت ، وأين ، وكيف....
طالعتُ الصورةَ يا عيني...
فتضايقْتُ كثيرًا جدًّا ، وتَململتُ ، وتَعَسرتْ...
وأخذتُ النفسَ بثورتها ، وأخذتُ الرُّوحَ بآهتها
وأخذتُ القلبَ بطعنته ، وبكيتُ كثيرًا ، وبكيتْ...
وطفقتُ أسائلُ أقلامي ، وكذا أرتادُ قراطيسي...
وأُحَاكِم في كل سُفور وجَلاء كُلَّ عُبوسي ، ومتاريسي...
وأُزمجرُ: أينَ حياتي يا أقوامي ، وأحاسيسي....
ثمَّ مشيتُ على آلامي ، حتى أدمتْني آلامي...
ومشيتُ كثيرًا فوق الأمل الدامي هذا ، ثمَّ مشيتْ...
جِسْرُ الأحزان وزورقُه ، والموجُ على حُزني يطفو...
وأنا المستهدفُ يا قومي...
والدمعُ إلى قلبي يهفو...
والصورةُ هذي في المرآة تُعذبُني...
تَكوي ـ في مَلهبة اللوعة ـ رُوحي...
ثمَّ تُعبئ في خَلجَاتِ النفسِ كُلَّ جُروحي...
وحَزِنْتُ على شعر الماضي المُوغِل في أعمَاقِي...
حيثُ الشمعةُ ، تتلو الشمْعَة...
لا حُزنَ على قلبي أَبَدًا...
فالقومُ ـ جميعًا ـ عُوَّادي...
فعلامَ الحزنُ؟ وفيمَ اللوعةُ؟ إني رجلٌ أحمِلُ زادي...
لو أظلمتِ الدنيا ، نُوري عندي..
والأصداءُ هنالِك خلفَ سَرابِ العُمْرِ تُنادي...
والخِلان على مَوعِدَةٍ ، وكذلك قلمُ الشِّعر يُنادي...
إنْ خذلَ الأهلُ ، فعِندي كُتُبِي...
هُم أَصحابي هُم خِلاني ، بلْ فِي ميْدانِ الحرب جِيادي...
بلْ ، واللهِ أراهُمْ أفضلَ فِي مِيزانِي مِنْ أصحابي...
عُدْتُ ـ بكل الذكرى ـ عشْرَ سِنِيْن...
فتذكَرْتُ حياتي الأولى...
وتقلدتُ يَراعي ، رُحْتُ أغني...
أُخفي كُلَّ مَرار الغُربة مِنْ قُدَّامِي
 إنَّ مَرارَ الغُربة يَكْوي كُلَّ ضُلوعِي...
يُطفئ ـ رغمَ الأنفِ ـ شُموعِي...
يُعْلِنُ ـ وَسْطَ الناس ـ جَميعِ الناسِ ، خُضُوعِي...
لا يجعلُ يَدِيَ الطُولَى أبَدًا...
فتذكرتُ الشاطِئَ في قريتنا ، عِنْد هُجُومِ العَصْرِ
والشَّصُّ الضاحِكُ في يديَ اليُمنَى يَرْمُق سَمَكة...
والتوتُ المُتَدلِّي في ماء النهرِ هُنَاكَ بأرضِ العُمْدة...
ناداني ذاكَ التُّوتُ بصوتٍ عالٍ يَخْرِقُ سَمْعَ الدُّنْيَا...
هيا أقبلْ ، اقطفْ واهرب ، فالعمدةُ في قَيْلُولَةِ صَيف...
فسمعتُ كلامَ التوتِ ، وسرتُ إليهِ بِسُرْعة...
وركبتُ لتوِّي تلكَ الشَجَرَة...
ويِحي ، ذهبتْ بِسَنَا عَقْلِي الفِكْرَة...
وكسَرْتُ الفرعَ بِسُرعة ، وكذا الغصنَ بِكُلِّ القوة...
مِسْكِينٌ غُصْنُ التُّوتةِ هَذي...
أحدَثَ عِند رُكوبي ضَجَّة ، وكذا عِنْدَ الكَسْرِ الصَّامِتِ ضَجَّة...
عند نزول التُوت كذلكَ ضَجَّة...
فصَحَتْ كلُّ كِلابِ العُمْدة...
ثُمَّ انهَالتْ ـ فورًا ـ فوقَ الظَّهْرِ السَّارِق سَوْطُ العُمْدة...
وأتى عند العُمْدَة في خَيْمَتِه جسمُ العُهْدة...
وعفا العُمدةُ لكنْ بعدَ ضَياعِ الوَقت...
وتَذكَّرتُ البَسْمَةَ في أَعْمَاقِ فؤادي...
واليومَ تحشرجَ صَوتُ البَسْمَةِ في أَعْمَاقي...
يُقْبِلُ رَمَضَانُ ، وَلا أدري...
أتظَلُّ الدَّمْعَةُ في عيْني...
وأُسائل نفسي: كيفَ يمرُّ الشهرُ علينا...
وتَمزَّقَ بين ضلوعي سُؤلي ، أبكي ألَمي...
وأُخبِّئ ـ في طيَّات فؤادي ـ كلَّ ظُنوني...
وأسيرُ فلا ألقى ـ خلفي ـ غيرَ دموعي...
والدمعةُ خلفَ الدمعةِ تبكي...
حتى الجفنُ حزينٌ يبكي...
يا عينُ تعَذَّبْتُ كثيرًا ، وتسامتْ في القَلْبِ البَلْوَى
وطفقتُ أُفتِّشُ ذاكرتي
وأُسَائِلُ عَاطِفتي دَومًا ، وأُعلل نفسي بالشَّكْوى
وأُناجي في الدرب الأملا ، وأُراجع كلَّ أحاسيسي...
لَكنِّي خَنقتْني النَّجْوَى
لم أسْبُرْ أغوارَ شَقَائِي...
وتبعثَرَ فِي الظِّل المَأوى
وغَدَتْ أحلامي أخيِلَةً
وخبَتْ في الأطلال نُجُومِي
وأصابتها تلكَ العَدوى
أمَّا الرُّوح فما أشقاها
عَرْقَلَ سَيْرَ الرُّوحِ طُمُوحِي...
شجَبَتْ رُوحي القَوْسُ العَطْوَى
وطوتْها الأوضاع الشَّجْوى...
قد كُنْتُ أعيش ، ولي أملٌ...
 يا عينُ تَدهْوَرَ ذاك الأمَلُ...
وأنا مُلقَىً فوقَ تِلال المِحْنَةِ أطفُو...
وَحْدِي أشْكُو...
وعلَى شَوْك سُهادي أَقْضِي عُمْري
وعلَى جَمْرِ خِيانَةِ صَحْبي أقضي عُمري...
وعلَى رَغم تحشرج قدمِي أخطُو
وعلَى صَرخة ألمي هذي ، أَصْبَحَ غَيْري يَجْنِي ثَمَرِي
وعلَى أناتِ جِراحي ، وعلَى مَرْأَىً مِنِّي يَلْهُو...
أمَّا الصَّحْبُ فخانوا عَهْدِي
وهجيرُ عمالتهم يسعى فوق جبيني ، وبِلا تقوى...
إنَّ نفاقَ صحابي يَسرقُ فجْرِي...
يَسرقُ كل الشعر المُلْقَى في ذاكِرتي...
يذبحُ عِزَّة نَفْسِي...
لا ينسى أنِّي ـ يومًا ـ كنتُ صريعَ العِزِّ...
يعتبرُ كلامي الفصلَ له هزلاً
هَلْ مثلي ـ يا مُتخرِّصُ ـ يلغو؟
آهٍ ، عَكَّر سُمُّ نفاقِك كُلَّ الجَو
وأراكَ لكل هُراءٍ تَرْنُو
وأنا بالدمعةِ أخلُو
وأُعبئ كل نحيبي في حَنْجَرةِ الوَهْمِ ، وأَدْعُو
أنْ يأخذَك الله بكل نفاقِك كي لا تزهو
ويُبددَ صوتُك في هذي الدنيا كي لا تتلو
إنَّ تلاوةَ مِثلِك تدعو الناسَ إلى الإلحَادْ
يا موتًا فوقَ جبينِ الأُمَّةِ يَجْثُو
لنْ تَسْلَمَ مِنْ ذنب المُقْلَةِ هذي أبدًا
أنت سفكتَ دِمَاءَ العَيْنِ
وماءَ العُمْرِ ونُورَ الهَدْيِ
وعِطْرَ الوَحْي وزادَ الطِّفْلِ
وحُبَّ الزوجِ وقُوتَ الأَهْلِ لتَسْمُو...
وسَمَوْتَ ، ولكنْ في بَوْتَقَة الوَحْل
وانْصَهَرَتْ كلُّ رماحِكَ في مهزلةِ الهَفْوَة
وغَرقْتَ ببحْرِ الغَبْوَة
وعلَتْ فوقَكَ ـ يا مغرورُ ـ الرَّغْوَة
وطغيتَ على الضعفاءِ كَثِيرًا
وكذا حَرَّفْتَ جَمَال الدَّعْوة...
وحُسِبْتَ ـ بكل الزيفِ المَاسِخ ـ مِنْ أعمِدَةِ الصَّحْوَة...
وزَعَمْتَ بأنَّك ـ في عالمنا ـ أُسْوَة
وأراكَ زَرَعْتَ الفَجْوَة
وذَبَحْتَ إِبَاءَ الصَفْوَةْ
وَأَتْيتَ فِعَالاً لا ترضَاهَا في الأَحلامِ ولا الأَزَماتِ النِّسْوَة...
دَمِّرْ مِينَاءَ صداقَتنا...
واغسلْ بالنار مَوَدَّتَنَا ، وأخوتنا ، وعلاقتنا...
واغرسْ أشرعةَ الوهم بنار الغُربة هذي
واذبحْ بالسكين الكاذب كل وريد عُذْري
إي واللهِ: كلَّ وريدٍ كانَ يضخُّ الدَّمَّ بقلب الكِبْرِ
وحْدَكَ تبقى كاليَربُوع أسيرَ السِّحْرِ
وانشُدْ في أوباشِكَ هذي خِلاًّ غَيْرِي...
ما عُدتُ قميصًا تلبسُه ساعةَ ترضى
ما عدتُ طعامًا تأكله ساعةَ جُوع ، يا قاتِلَنَا...
ما عدتُ شرابًا تشربُه ساعةَ عطشٍ حتى تُرْوَى...
فابحثْ عن مَرْكَبَةٍ أُخرى...
جَفِّفْ دَمْعَ الأفعى ، واصدقْ نفسَك
قبلَ مُناشدة الغير التقوى ، ناشدْ قلبَك...
لا تلبسْ ـ يا هذا ـ لُبسَة غيرِك...
ليسَ يُناسِبُ هذا المِعْطَفُ قدَّك...
ليسَ يُناسِبُ أبدًا دَوْرَك...
صدقني ، ليسَ يُناسِبُ حتى شكلك...
صَنَمُكَ هذا مُوسى يومًا سيُحطِّمُه ، سيدمرُه ، سيحرِّقُهُ...
خُذ غَليونًا وقَلنسُوَةَ ليُناسبكَ الدور...
واصعدْ خشبةَ مَسْرحِ مَنْ أَلَّهت...
خفِّف وطأكَ فوق أديمِ الأرضِ
أنتَ هَتَكْتَ العِرضْ ، وصَعَقْتَ دِمَاءَ الفَرض
وسفكتَ هَزيم الوَمض
وقتَلتَ هَتيفَ الفيض
حَرَّمْتَ علَيْنَا الغَمض
ربي يَحْرِمُكَ الحَوض
وأجدتَ فُنونَ الحَرْبِ ، وحِيَلَ البَأس...
وبذرتَ على دَربي ودُروب الناسِ الرِّجْس
وزعمتَ لنفسِكَ أنك فوق النَّقد
أتحوَّلَ قلبُك صخرًا عَبْرَ الدَّرس؟
سَاعَة قِيلَ لَكَ: الزمْ أدبَكَ ، كُنْ مُحْتَرَمًا
عُدْتَ إليْنا ، وبلاَ خَجَل تبكي مثْل الأُنثَى...
ورأيتُكَ مهزومَ النفسِ تُعَانِي...
ونصحتُك ساعتَها ، لكنْ لمْ تَسْمَعْ مِنْ كلماتي حَرْفَا...
آهٍ مِنْ أفعالِكَ هَذي ، إنَّكَ قد أحدثتَ الجَرْفَا...
ولويْتَ ذراعَ الحرفِ ، فخلَّفَ حَرْفَا...
آهٍ ، قدْ حطَّمَكَ الفِلس
مِسْكِينٌ فِي عَقْلِكَ فِعْلاً ، أينَ العِلْمُ الجَمُّ تَوَلَّى؟
كيفَ نَسِيتَ بكل العَمْدِ ظَلامَ الرَّمس؟...
حتى كانتْ مِحْنَةُ عيني...
أدركتَ بأنَّك قد أذنَبت...
طاوعني: خَبِّئ حُزنَكَ في جُمْجُمَةِ اليَأس...
وأنا سوفَ أسيرُ بدربي وَحْدِي...
وأُواجه كلَّ رِيَاح الحَيْرَةِ وَحْدِي...
وسأصنعُ فجرَ الأمل الدامع وحدي...
وسأكشفُ كل نِفاق الصَّحب ، أيْضًا وَحْدِي...
وحْدِي سأحَطِّم كلَّ رِمَاح الغدر
وحدي سَوفَ أُذيقُكَ نارَ الحسرةِ بالأشعار
وتموتُ كما ماتَ أبو لهب كمَدًا...
وسأمحو زَيْفَكَ مِنْ أفئدِة النَّاس
فوراءك قلمي يا ابنَ سلول ، والدَّهْرُ طَوِيل
والصُّمتُ القاتلُ يذبحُ بَأسِي...
ويُعرقلُ في أعماقي هَمْسِي...
ويُسربلُ ـ في طيات المحنة ـ نفسي ...
وأسائلُ: كيف يسُود ضبابُ الزَّيف؟
وأحاربُ كلَّ خُيوطِ الطِّيف...
وأعزِّي عيني رغمَ سَرابِ الخَوف...
وأجففُ دمَها عبرَ جحيم الحَيف...
وأمُدُّ يَدِي مغتربًا ، مِثْلَ قُدوم الضَّيف...
وَأسَائِلُ: يَا عَيْني ، مَاذا حَلَّ ، وكيف؟
وَالحادثُ هذا فَجَّرَ عَبْر الليلِ الألمَا...
وَلَّدَ ـ فِي إحْسَاسِي ـ السَّأمَا...
أوجَدَ في وجهي السَّقَمَا...
حَوَّل إنسانِي صَنَمَا...
صَعَّدَ ـ عَبرَ الليلِ ـ الحُمَمَا...
أحدَثَ في الدرب الخَطبَ العَمَمَا...
حَطَّمَ في أجْواءِ الشِّعْر القَلَمَا...
أشمتَ فِيَّ اليومَ الغَنَما...
والعينُ تُعبِّئُ في جَعْبَتِهَا قَيْحَ ظُنونِي...
تَتَشَاءَمُ إنْ أبْكاني بعْضُ حَنِينِي...
وتُسائِلُنِي: أيْنَ يَقيني؟
وثباتي أينَ ، وأينَ سُكوني؟
ولماذا لمْ أمْحَقْ كُلَّ شُجُوني؟
وأجيبُ على عيني وَجِلاً:
صبرًا يا عينُ فهذا قَدَري...
ورجعْتُ بذاكرتي ، أبْكي كُلَّ شُؤونِي.........
وَشَردتُ بذهني خَلْفَ سَراب البَحر...
وعلمتُ بأنَّ العينَ تهاوتْ تحتَ رِماح القَهر...
والدمعُ الهادرُ ليسَ يُعيدُ لعيْني البِشْر....
والموجةُ بعدَ المَوجة تُغرقُ كل أريج الشِّعر...
والمِحنةُ تِلْوَ المحنة تَسْحَقُ في الأعماقِ الصَّبر...
والفرحةُ ماتتْ في أشلاءِ الهَجر...
والبسمةُ وئدتْ تحتَ سِنان الكيد هنالِكَ في أنقاضَ الغَدر...
والعينُ دمٌ ودموعٌ في طياتِ الليل...
والشعرُ يُزمجرُ إنْ عاتبني الوَيل...
حتى أغرقني السَّيل....
ودخلتُ الظُلمةَ وَحْدي
مَيْدَانُ صِراعٍ كانتْ ، وأنا فيها وَحْدي...
قد كنتُ الأعزلَ فِيهَا جَبْرًا ، وَبِلا خَيل...
قدْ كُنْتُ الأولَ في قَومي...
واليومَ على رغم الأنف مَكاني الذَّيل...
وأكِيلُ لقومي خيرًا قَدْرَ هواءِ الكَون...
يا ليتَ القومَ ـ اليومَ ـ يَكيلونَ بذاتِ الكَيل...
كلاَّ ، بلْ مالوا عنْ صَفي وتجاريبي كلَّ المَيل...
نالوا مِنِّي كُلَّ النَّيل...
قَلَّبْتُ الذاكرةَ الثَّكْلَى...
وَفجَّرْتُ العاطفةَ الخجْلَى...
وَطعَنْتُ المهزلةَ العَجْلى...
وفحَصْتُ يَواقِيتَ الأمل بقوُة...
وحَقنْتُ دمَ الأحداث ودمعَ الهُوَّة...
وعلى آلامي أمسَى غيري يشربُ قَهْوَة...
ويُضخِّم فِي أخطائي ، ولهُ قَسْوَة....
وعَلِمْتُ بأنَّ لكلِ جَوادٍ كَبْوَة...
وكذا العالِمُ ـ رغمَ وُجودِ العِلم ـ تُراودُه الهَفْوَة...
وخلوتُ بنفسي ـ بعضَ الوقت ـ وحيدًا...
فوجدتُ فؤادي يَعشقُ ظِل الخَلْوَة...
فقرأتُ سُطورًا تُغْري في أوراقِ الخَلْوَة....
وتَذَكَّرْتُ حياتي الأُولى...
في كُتَّاب القرْيَة ، كنتُ أُحِبُ الذكرَ كثيرًا...
أتلو ، أتعلمُ ، وأرتل ، كانَ العُمْرُ قريرًا...
وكذا قلبي كانَ قريرًا...
والقرآنُ العذبُ المُغدِقُ كانَ سَمِيرًا...
والدربُ المُوْصِلُ للآمال العَذبة كانَ يسيرًا...
والجسمُ الناحلُ في أجواء الغُربة كان صَغِيرًا...
«وابنُ بشيرٍ ، وابنُ العِتْرِ ، وهادي
وابنُ الخَضْر ، وخامسُهم كانَ فُؤادي»
كانوا كُلَّ حَياتي ، كلَّ صِحابي ، كُلَّ عَتادي...
والعَريفُ الطيبُ كانَ رشارًا فوقَ رشادِ...
كنتُ أذوبُ إذا نظرتْ عينَاه إليَّا...
وله صوتٌ يملأ كل الناس دَوِيَّا...
وإذا عاتبَ يومًا طِفْلاً كَان حَفِيَّا...
لا يَلْطِمُ وجهًا أبدًا...
لا يشْتِمُ أُمًّا أبدًا...
لا يلْعنُ دهرًا أبدًا...
لا يتضايقُ مِنْ نِسْياني للآياتِ ، وَرَبِّي...
بل كان يُرَكِّز: كيفَ خروجُ الحرفِ بغيرِ لُحُون...
ويركِّز كيف نرتلُ آيَ اللهِ بغير لحون...
والعَرَقُ اللافحُ يَطوي كلَّ شُجون...
وله كل نهاية شهْرٍ بعضُ قروش...
مسكينٌ يا عَرِّيفَ القرْيَة...
مَنْ يَمحقُ باسم المَولى هذي الفِرْيَة...
وأبي يدفعُ هذا المالَ ، ويمضي...
ويقولُ العريفُ الصابر: «ربي أكرمْ»
وتقولُ الدمعةُ في عيني: «أنا فِي مرية»
يا عريفَ القرية: خُذها عَشْرَ دراهمَ مَعْدُودات...
بيع كتابُ الله ببعضِ قُروش...
ودعائي أنْ يحفظك المَوْلى...
هي خيرٌ في الميزان لكم مِن أي عُروش...
والعِربيدون السِّكيرون لهم في المَصْرِفُ كلُّ المَال...
ولكم أتعَسُ حَال...
والواحدُ منكم لا يجدُ القُوت...
والعِربيدون لهم في الناس كُروش ، أي كُروش...
حاشاك العَربدةُ عريفي ، أنت شَريف
وأراكَ بما يحوي صَدرُك هذا عَفًّا...
فاقت عِفتُك العِفَة...
بل فاقتْ في عِزَّتها كُلَّ عَفِيف....
قلبُك مِنْ كل الأحقاد نَظِيف...
لا تحْزنْ ، أنتَ تُعلِّمُ نَشْأً ذِكْرَ الله...
لا تَغْضَبْ إنْ فاتكَ ـ في هذا الدربِ ـ الجَاه...
لا تُكثر مِنْ نَصَب العَمَلِ الآه...
دعْ قطعانَ البَشَر ، مَهَاةً تنطحُ شَاه...
وإذا اغتابكَ منهم غِرٌّ ، فاملأ باسْتِرْجَاعِكَ فَاه...
إنَّ كتابَ الله بصدركَ ، يكفي هذا ، إي وَالله...
وسَيجزيكَ الله الحُسْنَى ، خيرُ جزاءٍ تتلقَّاه....
لن يُحزيك الله المولى ، إي واللهْ
كنت الأكرم ، عشت الأسمى وولياً يعبد مولاه
وأَعُودُ لعيني أَذكرُ وضعًا يُحْزِنُ يُزْري...
حيثُ الجُرحُ النَّازفُ عُمْري...
فأعزيها ، والكلماتُ ثكالى مِثْلُ الجَمْرِ....
فأعودُ بذاكرتي أقرأ في صَفَحاتِ العُمْر ...
أتذكرُ بَقَّالَ القرْيَة....في «كَفْرِ سُليمان البَحَري»
«عباسٌ» يبذلُ كلَّ الخَيْرِ...
ويُريدُ مُقابلَ هذا عند رحيل الشَهْرِ...
وأنا تُرسلُني أُمِّي ، آخذُ مِنْ عباسٍ مَطلوباتِ اليَوم...
وعلى رغم عُبوسِ الإسْم يَبَشُّ بِوجهي...
مِعْطَاءٌ يا عباسُ ، ورجلٌ فوقَ الوَصف....
ورقيقٌ تَبذلُ للأطفال العَطف...
وأعودُ لأُمِّي أحملُ ما أعطاني فَورًا...
وأعودُ لعباسٍ مِنْ خَلفِ الأُمِّ سَرِيعًا...
آخُذُ حَلْوَى ...
لكنِّي لم تأمرْني بالحَلوَى أمي هذي المَرَّة...
ويُصَدِّقُ عباسُ الدَّعْوَى...
آكل ما أعطاني عباسُ وأمضي...
وإذا رحل الشهر تعالى خطْبِي
قد كنتُ أُعبِّئُ كل الماضي فِي ذاكرتي...
أَتَذكَّرُ أنِّي كنتُ أرى بعُيوني هذي دربي...
وأرى الأفكارَ العذبةَ تعدو صَوْبي...
وأرى حُبِّي...
لكنِّي كُنْتُ صَغيرًا ، لا أَدري حَجْمَ الذَّنْبِ...
أحْبَبْتُ القريةَ حُبًّا جَمًّا...
فهُنالكَ كانتْ كُل حياتي الأُولى...
وهنالك كانتْ أُمي وأبي جَنْبي...
والناسُ جميعًا صحْبي...
والفرحةُ ـ كلُّ الفرحة ـ تسكنُ قلبي...
والعيشُ يُرفرفُ عذْبًا مِثْلَ الشَّهد...
ولهُ عطرٌ رطبٌ رَخْوٌ مِثل الوَرْد...
الفترةُ هَذي لا أنسَاهَا أبَدًا...
إنَّ المَاضِيَ هذا يَسْعَى فوقَ سَمَاءِ المَجْدِ...
كانَ العُمْرُ يُزَمْجِرُ مثل الرَعْدِ...
ويُسافرُ في دُنيا الناس ، ويَقْطَعُ كُلَّ البُعْدِ...
وأطالعُ في أوراق المَاضي بعضَ الحُرْقَة...
قلتُ أعيشُ على هامِشِها ، أصْبرُ حتى أدخلَ قَبْرِي...
قَدْ كُنْتُ أُصَاحِبُ بَعْضَ الرفْقَة...
غَشتْهَا بَعْضُ الزُّرْقَة...
حيثُ أحالتْ بيني والأصحابِ الفُرْقَة...
فمشيتُ بعيدًا عنهم ، كانتْ أصْعَبَ شُقَّة...
ودموعُ فِراقِ الصَّحْبِ تزيدُ الخَفْقَة...
والقلبُ تناءتْ عنه العَزْمَة...
وطوتْهُ الظُّلْمَة...
فتناثَر في أرجاء المحْنَة ، مِثْلَ النَّسْمَة...
لم يتحملْ بأسَ الهَجْمَة...
ليتَ القلبَ تماسكَ بعضَ الوقتِ
ليَعْبُرَ هذي الأزمَة...
وطفقتُ أُداعبُ كل خُيوطِ نُجومِ المَاضِي...
يا هذا الحاضرُ ، هلْ جرَّبْتَ دَلالَ النَّجْمَة...
تَبدو هذي النجمةُ في الآفاق
تُجَمِّلُ كل سَراب الغَيْمَة...
آهٍ ، قد حَرَقَ نفاقُ الصحب قماشَ الخَيْمَة...
والنجْمَةُ تَسألُ في الآفاق طُيورًا قد أزتَّها الهِّمَة...
تسْتَصْرِخُ: أينَ الأُمَّة؟؟
أينَ صَلاحُ الدِّين؟ وأينَ النَّخوة؟ أَيْنَ الذِّمَّة؟
 بل أينَ رجالُ صلاح الدِّين جَمِيعًا؟
مَنْ يَغْسِلُ عَارَ الصَّدْمَة؟
«حِطِّينُ» تَناءتْ في كَوكَبةِ الظُّلْمَة...
وطوتْها في الدرب سَحائِبُ ضخمَة...
ومحتْها مِنْ عالمنا فعْلاً...
محقتْها ـ رغمَ الأنفِ ـ طُلُولُ العَتْمَة...
أصحابُ صلاح الدين تناءَوْا ، يا للوَصْمَة...
وانتُهِكتْ في أرض الدار الحُرْمَة...
آهٍ كيف المَهْربُ مِنْ مأزقنا هذا؟ قُولوا...
قولوا: كيف نصيرُ رجالاً؟
كيف نُرَجِّعُ مِنْ ظُلمات الليل الأخرسِ هذا هَدْيًا وَلَّى؟
أو كيف نهُزُّ الأرض بدَمِنا ، بجماجمنا ، وكتائبنا؟
نُرْجِعُ أرضًا سُلبتْ مِنَّا ، نرجع مجدًا وَلَّى ومَضَى...
أنا عندي الحَلُّ ، وربِّ العَرْشِ ، وليسَ سِواه...
الهِنْدِيُّ الصارمُ يمحو هذه الغُمَّة...
هذا السيفُ محاها أولَ مَرة ، وكذا يمحوها ثانِي مَرة...
للدَّوْر الألفِ أقولُ: السيفُ القاصلُ يمحو الغُمة...
وسيُسعد كل فؤادٍ كان يتوقُ إلى الحُرِّيَة...
وسيشفي صُدورَ القوْم العُزلِ في بَيْداءِ الاسْتِضْعَافْ
وسيمحقُ كُلَّ إسافْ ، وسيُهلِك من أعداء المَوْلَى بالآلاف...
وسيُذهب غيظ قلوبٍ تتمنى ذَبْحَ الإِرجَاف...
ويُعذِّب ربُّ الناس بأيدي الحق مَنِ استَعلى...
لكن ، أينَ رجالٌ تحملُ هذا الصارمَ؟ قولوا: أين؟
قولُوا: كيفَ بُلوغُ القِمَّة؟
لا ألقاكُم ـ بعد نذيري هذا ـ مَوتَى...
وَدَعُوكُمْ مِنْ أعذارٍ تَبْدُو ضَخْمَة...
ودَعُوكم مِنْ كلماتٍ خَجْلَى....
مُتجردةٍ تبدو فَخْمَة
لا ألقاكم ـ بعد وَعيدي هذا ـ هَلْكَى...
ودَعُوكم مِنْ قولتِكم: «هذي قِسْمَة»
إنَّ مَعِين الحَقِّ يُنادي:
فيخاطبُكم: هذي بئسَ التُّهْمَة...
لا ألقاكم ـ بعد كلامي هذا ـ صَرْعَى...
ودعوكم يا أقوامي مِنْ أغلال اللُّقْمَة...
مَكْفولٌ هذا القوتُ ، وربِّ الكَعْبَة...
ويُطاردُ صاحبهُ القوتُ ، ولو في البُرج العالي...
والبيتُ له ربٌّ يحميه ، تخلُّوا عَنْ خيْبتكم هَذي...
والمبدأُ منتصرٌ حتْمًا ، رغم أُنوفِ نِفاقِ القوم...
أغلالُ اللقمَة ليْسَتْ عُذرًا...
لن تنفعَكُم هذي الكلمةُ أبَدًا...
فذروها في قاموسِ الخَذْلِ تُسلِّي مَنْ صَاغُوهَا...
وتُرفِّهُ مَنْ عبدوها ، وكذاكَ تُسَامِرُ مَنْ جعلوها عُذرًا...
يا أغلالَ اللقمة كُفِّي ، قد بددتِ القِيَمَ العُليَا...
وكذلك يا أقوامُ دعوكم مِنْ أغلال اللقمَة...
قد كنتم ـ يومًا ـ جيلاً يضربُ في أسماعِ الدُنيا المَثَلا...
كنتم جيلاً يَغلبُ مَنْ عاداهُ ، ويزهو...
كنتم جيلاً لا ينتصرُ عليه عدوٌّ أبَدًا...
لا يعبدُ لاتًا أو عُزَّى...
وكذلكَ لا يَعْبُدُ شِعْرَى ...
وإذا افتخرَ عبيدُ الشِّعْرى...
أسمعَهُم بالصوتِ الهادر صوتَ الوحْي ونُورَ التقوى...
وأحال الدنيا أذنًا تسمعُ منه «السَّجْدة» بل و«البَقَرةَ»
و«الأعراف» كذلك ثمَّ «الشُّعَرَا»
ماتَ الجيلُ الشَّهْمُ المَرْجُو...
ودَّعَ هذي الدنيا مُنْذُ قُرونٍ مَرَّتْ تَتْرَى...
ذاك الجيلُ العالي الهِّمَّة...
جِيلٌ كانتْ تستهويه الحِكْمَة...
يتسامَى فِي أفلاكِ الرَّحْمَة...
يَرْعَى ـ واللهِ ـ حُقوقَ النَّاسِ جميعًا...
ويُحقق آمال الدنيا وِفقَ شريعة ربِّ الناس...
يَرْعَى ـ رغمَ سَعِير الحالِ ـ الحُرْمَة...
يَزْرَعُ في آفاق الكَوْن البَسْمَة...
وله رغمَ ظلام الليل ، وظُلمِ الناسِ ، وقصفِ الرعدِ
وبأسِ الكيدِ العَزْمَة...
لا يلهثُ خلفَ سَراب الدُّنيا...
ليستْ تَستعبده هِمَمُ الأرض السُّفْلى...
ليس يُفَرِّغُ كل الطاقة في مَطْعُومِ البَطْن
لا يسعى خلَف الرِّمَّة...
لا يطمعُ مِنْ هذي الدنيا فِي شَيء أبَدًا...
لا يطمعُ في أموالٍ تَفْنَى...
أو أغنامٍ تُرْعىَ...
أو أبناءٍ ليس لديهم مِنْ آياتِ اللهِ نَصِيب...
حتى ليسَ لديهم حِكْمَة...
لا يَطمعُ مِنْ هذي الدنيا في جَرْعَةِ ماءٍ أو قَضْمَة...
بلْ يَطمعُ في مَرضَاةِ اللهِ ، ونِعْمَ الهِمَّة
أَتذكرُ مِنْ صَفَحَاتِ المَاضي صَفْحَةَ أُمِّي...
وأنا بينَ يديها مِثلُ الزَّهْرة...
طِفلٌ قد داهَمَهُ المَرَضُ ، وعَانَى...
واحْتَارَ أطبَّاءُ الأرض وقالُوا:
لنْ يَحْيَا هذا الطفلُ كثيرًا...
فاحفُر يا لَحَّادُ الحُفْرَة...
وَارِ السَوْأةَ ، لا تأخذْكَ العَبْرَة...
إنَّ الطِّبَّ عَلِيلٌ هذي المَرَّة...
قالتْ أمِّي: حَاول يا دكتورُ ، ودَوِّنْ بعضَ القَطْرَة...
هذا طفلي الأوحدُ ، صَدِّقْ ، وأنا قبلُ أعاني حَسْرَة...
فأنا ـ قبل رَحيلِ غُلامي ـ ثَكْلَى...
مَا بَالُك إنْ فارق طفلي هذي الدنيا؟
قَدِّرْ يا دكتورُ شُعُورِي ، وارحَمْ ضعفي ، فأنا لَـهْفَى...
وأراكَ بعِلمِكَ هذا ، في مَشْفاكَ الحُلوةِ هذي
أستاذًاً للطبِّ ، وعَلَمًا مِنْ أعلام الخَيْر ، وصاحبَ خِبْرَة...
قدِّر ما أَطلبُهُ مِنكَ ، فإنَّ فؤادي قد حَرَقَتْهُ الجَمْرَة...
ودُموعِي كَثُرَتْ فوقَ شِراع الأمل المُعْتِم هذا...
وسرابُ الدمع يُحَرِّقُ زورقَ سَفري...
ذبحتْ قلبي يا أستاذَ الطبِّ العَبْرَة...
خنقتْني الثَّوْرَة...
لو كان الأمرُ إلىَّ لجَفَّتْ بئرُ صِرَاعِي...
ولَـمَا أحنيْتُ لشبح الجَزَعِ ذِراعِي...
ولَـمَا أحرقْتُ يَرَاعِي...
ولَـمَا مَزَّقْتُ شِرَاعِي...
ولنالتْ مِنِّي الدنيا كُلَّ الطبِّ ومَا لَمْ تَعْلَم...
ولكانَ العلم النابعُ مَنِّي أوديةَ شُعَاعٍ
تَضْربُ يا أستاذ الطب هنالكَ في أوديةِ شُعَاع...
لكنِّي أَمَةٌ عَزْلَى ، ليستْ تملك شيئًا يُذكر...
والأمرُ جميعًا يا دكتورَ الطب لربِّي الأكبر...
أكبرُ مِنْ كل الكَون ، وكل الناس ، وكل الدنيا...
لا يُشبهُه أحدٌ أبدًا ، لا يشبهه شيءٌ أبدًا...
وعلى العرشِ اللهُ المُوْلَى...
خلق الناسَ ، وخلق الدنيا...
فلهُ الخلقُ ، وله الأمْرُ
وأبو طفلي خَلْفَ الباب يُنادي
وأنا امْرأةٌ قد سَبقتْني ـ دون العِلم ـ الضَّرَّة...
وأخيرًا ، لك تقديري ، وتحياتي...
لكنَّ طبيبَ المَشْفَى قد أخذتْهُ الثَّورة...
واندفع يُجَرِّعُ أمِّي وأبي
كلَّ الأمل الكامن في أعطافِ القَلب...
ويُزمجرُ: ليسَ لديَّ الحِيلةُ صِدقًا...
خانتْ حالة هذا الطفل خزينة طِبِّي...
لا أعرفُ عنْ حالتِه شيئًا...
كيفَ أُحرِّرُ عنه كلامًا؟ قُولُوا...
كيف أُحررُ عن حالتِهِ تلكَ النَّشْرَة...
وأضافَ بِصَوْتٍ هادِي النَّبْرَة:
لَنْ يبقى هذا الطفلُ بهذي الدنيا فَتْرَة...
فتحجَّرَ قلبُ الأمِّ ، وأصبحَ مِثلَ الصَّخْرة...
وأضافت أمي: يا دكتورُ تمهَّلْ ، أعدِ النَّظْرَة...
وأضاف أبي: قَدَرُ الله المَوْلى أحْلَى
مِنْ كلماتِكَ هذي المُرَّة
سوف نُفَتِّشُ في أعماق الأرض نُريدُ الطِّب
وسنلتمِسُ العِلم هنا وهناك
فاطمسْ مِنْ كُرَّاسِكَ هذي الفكرَة...
واهدأ نفسًا ، واَمْحُ السَّوْرة...
إنِّي رجُلٌ ، فِلْذةُ كبدي بينَ يديكَ ضَحِيَّة...
وأُقَدِرُ تعبَك يا دكتورُ كثيرًا
وكذا أحترمُ الطبَّ ، وأشهدُ أنَّ العلم مُحِقٌّ جدًّا
لكن فوقَ الطبِّ ، وفوق العلم ، وفوق الدنيا والأكوانِ
وفوقَ الأرض وفوقَ سماءِ الكون وفوق العرش الرب...
أنا لستُ أقول بأنَّ الله المولى ، في كُلِّ مَكانْ
لكنْ أقصد أنَّ الله يُقدر أجلَ المرء
إنْ عاشَ ابني ، فلأنَّ الله المَوْلى قَدَّرَ هذَا
وكذا إنْ مَاتَ فربُّ الناس مُقَدِّرُ هذا
فارفعْ يا دكتور القلمَا...
جففْ يا متعدٍ هذي الصُحُفَا
نزِّهْ نفسَكَ وامحقْ هذا الزَيْفَا
واقبلْ أشواقِي وتحياتِي اللهفَى ....
يا عَيْني المَاثِلَةَ أمامي ، في آبار الحُمْرَة...
حُمْرَةُ دَمٍ ، حُمْرَةُ دَمْعٍ ، يَا وَيْحَ الحُمْرَة...
مَرَضِي الأولُ أعيا طِبَّ الأرض
أعيا حتى كُل رجال العِلم...
أعيا مَرَضِي مَنْ يَعْتقدُ الصَّلب...
مَنْ عبدوا غيْرَ الله المَوْلَى...
كُلَّ طبيبٍ أو شَمَّاسٍ قد قَتَلَتْهُ الشُّهْرَة...
أعياهُم وتَجَاربَهُم مَرَضِي هَذا...
وعَقَاقيرُ الطِّبِّ جَمِيعًا فَشَلَتْ....
وكذا أدويَةُ الطبِّ جميعًا عَجَزتْ...
وعِلاجَاتُ الجَدِّ الأكبَر...
والمِسْتِكَةُ كذا والعَنْبَر...
والرَّدَّةُ ، والعُشْبُ البَرِّي...
وتَعَاويذُ السِّفر الأول....
وتَرانيمٌ فِي مأتمهَا...
وأغاني الإصحاح الأوحَد...
وكذا وَصَفَاتُ الحَاخَام الأعظَمْ...
وتهَاوتْ كلُّ أساطين الطِّبِّ ، وفشَلَتْ....
سقطتْ كلُّ دعاوي الطب الماثل مِثْلَ هَتِيفِ الغَيث
أعيا كلَّ الناس بلا استثناءٍ مَرَضِي...
واليوم تعاني من آلام الحادث عيني
ويُريدُ الطبُّ علاج المقلة ، لكن تأبى
ويُعيدُ الجِسْمُ الكَرَّة...
والعَيْنُ اليُسرى ـ في الآلام ـ تعيش السَّهْرَة...
يَا عينُ كفاني حُزنًا ، قلبي ذابَ ، وذابتْ رُوحي...
ويحَ العين ، أليسَ تُحِبُّ «الأوكيوفينَ» دواء؟
ما أعتى هذي القطْرَة...
أإذا مَرِضَ الناس تَدَاوُوا؟
وأنا في الآهاتِ أجُرُّ العَثْرَة؟
أيعيش الغير العُمْرَ سَعِيدًا ،
وأنا في سَكراتِ الحَسْرَة؟
أيمُوتُ الصَّوتُ على شَفَتِي؟
وأنا وحْدِي تَحْتَ سِيَاطِ القَطْرَة؟
وأنا أيضَا تحْتَ عذاب العُسْرَة؟
لله الأمْرُ ، أيَا عَيْني...
وكفانِي في أشجاني مُكْثَا
وكفانِي في ظُلماتي حَيْرَة...
أَتذكَّرُ كلَّ الماضي ، أسألُ كل شكاة: مَاذا العِّلَّة؟
وأسَطِّرُ كلَّ حُروفي الخَجْلَى فِي أوراقِي...
وَأعبِّئُ حُزْني في أعماق السَّلَّة....
في سلة أحزاني كمْ ، مِنْ أوراقٍ كَلْمَى تَلْهُو...
رغم دِماءٍ تنزفُ مِنْهَا تلهُو...
ثُمَّ تهبُّ سريعًا تعدو...
تَصرخُ في طابور الحَمْقَى....
تَسألُ: أين الصحبُ تناءوْا؟ أينَ الثُّلَّة؟
كيفَ الصاحبُ خانَ العَهْدَ ، وخانَ القِبْلَة؟
يا هذي الأوراقُ كفاكِ صُرَاخًا...
إنَّ رفاقَكِ باتُوا سَيْفًا
يذبحُ نُورَ الحَقِّ ، ويَشْرَبُ دَمْعَ الطِّفْلَة...
غدروا ، لعبُوا بالإسْلام ، وسَلَبُوا...
أكلوا ـ بالآياتِ ـ وشَرِبُوا...
أَخَذوا بالترتيل ونَهَبُوا...
باتَ شِعَارُ التقوى عُمْلَة...
والخيرُ صريعٌ فوق نفاق القومِ الحَمْقَى...
ليس هنالكَ مِنْ خِلانٍ أو أصحَاب...
وكذا ليسَ هنالك خُلَّة....
ذهبت رِيحُ الحق بِدار نفاق الصَّحب...
عُبدَ اللاتُ ، وعُبد إسَافُ وهُبلُ...
وكذا يَعبوبُ ونائلةٌ...
وَمَنَاةُ الثالثةُ الأخْرَى...
عُبدَ العُزى الأكبرُ ، رَغمَ أنوفِ رجالِ الحَق...
عَضَلَتْ بالإنسان الثُّقلة...
وطغَتْ «عَبْلَة»
صرنا في أدمغة شعوب العالم مُثْلَة...
أخذتْنا عن آيات كتاب الله الغفلة...
وأضعنا في الدرب هُويتَنَا ، وأضعنا كلَّ شهامتنا ،
وأضعنا كلَّ مروءتنا ، وأضعنا نورَ خلافتِنا ،
وأضعنا الأرضَ وكلَّ الأمَّة ، يومَ أضعْنا المِلَّة...
باتَ البَاطِلُ حقًّاً ، صِرْنَا للأعداءِ الكَلأَ...
أراني بكيتُكِ بالدمِ والدمع يا مقلتي ، كم بذلتُ الكثيرْ...
ذرفتُ الدموع أعزي فؤادي بما نالني مِن أسى
مع الحزن قدمتُ دمعَ الإباء القريرْ...
أعزي بدمعي مصيرًا مريرًا محا أمتي...
على «البوسنة» انساب دمعُ الضمير الكسيرْ...
وأغرق «بُروما» التي تستجيرْ...
وأغرق طوفانُ دمعيَ «كشميرَ» حتى انتهى
حَزِنْتُ كثيرًا على المُبعدين مِن المسلمينْ...
هنالك ضاعوا بـ «مرج الزهورْ»...
و«موستارُ» يقلقني جُرحُها...
وليست تُعَدُّ دموعي على (الوطن اليَعربي الكبير)
وقد أحرقته سهامُ الفتن
يُفتش عن دربه في الظلام فلا يهتدي
ويلبس بُرْنُسَ أهل الغروب لكي يُكرموه
ويغسل بالذل وجهَ الكرامة ثم يَخُورْ
ويُرضي العبيدَ ومَن نسبوا للمليكِ الولدْ
ويكْرم أهلَ الخنا والزنا ، وأهلَ الغواية مَن أفسدوا
وأهلَ التهتكِ مَن شوهوا كل حسن بدا
وأهلَ الفنون من الهازلينَ ، من الراقصينَ دعاةِ الفُجور
ويقتلُ أهلَ الهداية أهلَ السماحة مَن آمنوا
ومَن رفضوا الذل لم يرضخوا
ومَن للشياطين لم يَركَنوا
ومَن أخلصوا دينهم في الورى للعلي القديرْ
فلم يعبدوا غيره أبدًا
ولم يُجْرموا ، ولم يُشْركوا ، ولم يُفسدوا
ولكنهم تبعوا المصطفى
وساروا على نهجه المستنيرْ
أراني بكيتُ على إرث هذا النبيِّ
وقد أصبح اليومَ بين الأنام كمثلِ الغريبْ
بكيتُ الشريعة في جُل شعري الكئيبِ الحزينْ
وسجلتُ دمعي شعورًا وشعرًا بعزمٍ جهيرْ
 وغيري يُسَخر أشعاره للخنا
يُسطرها لتكون وقودًا لأهل الغِنا
ليَحرقَ في الناس ما عندهم مِن بقايا الحيا
ويرفعَ شأنَ المُكاء الحقيرْ
ويعلو الهُراءُ ، ويسمو الضلالُ ، ويحيا الصفيرْ
لأن المشاعر أمست تُباع لأهل الفنون
وأمستْ سبيلاً لتدمير أهل الهُدى
وأمستْ تُهيِّئُ مَن يجتبيها لنار السعيرْ
كذلك أمست تُباع وتُشرى بسوق العبيد جميعُ الذممْ
ومَن يجهل الحق يكدح في هذه السوق حتى يبيعْ
ويُنصَب فوق العبيد الجياعِ المَزادْ
ويأتي الجميعُ لكي يأكلوا
وبعد الطعام سيشربُ كل الأنام مياهَ الغديرْ
ويدخل نارَ الشياطين مَن لا يبيعْ
يُصب عليه العذابُ الشديدْ
ويُحرم مِن كل خير رفيع
وتنظر في الأفق لستَ ترى
سوى جَوْقة يَقرعون الطبولْ
وبعضَ العبيد بأيديهمُ البوق كي ينفخوا
وبعض الأصاغر في ذلةٍ يحرقون البخور
ومَن كان ينكح أمًّا له بعد موتِ أبيهِ
يقولُ له اليَوْمَ: أنتَ أبي
وأنت الملاكُ ، وأنتَ المَلاذُ ، وأنتَ الحِمى ، بل وأنت المُجيرْ
وأنتَ بأخذ مكان أبي عند أمي جديرْ
وليتكَ جئتَ مِن الأمس كي نستريحْ
ألا إنَّ ذلك هزلُ العبيدْ
وقولٌ عن الزيف لم يختلفْ
وزورٌ دنيءٌ خسيسٌ خطيرْ
ولو قال رهط لفرعونَ: «لا»
وقدَّم بعد الكلام الفِعالْ
وقدَّم في الحرب بعض الرجالْ
وقدَّم عند النزال الدماءَ ، وبعضَ الحياة
يمينًا لعاد إلى رشده ، وأدركَ بأسَ صنيع الإباءْ
ولـمَّـا يُصرح «أنا ربكم» ، وليس على الأرض لي من نظيرْ
ولـمَّـا يقلْ: «ما علمت لكم من إلهْ»
فليس لكم أن تقولوا: سِوايَ الإلهْ
ومَن خالفَ الأمر يلقَ جزاهْ
أطاع الجميعُ ، ولم يُنكروا
ومن قال: لا ، ذاق أعتى مصيرْ
وساد الفراعنُ مِن يومها
وذاق العبيدُ سُمومَ الطغاة
لأن العبيد يُحبون أي حياة
أطاعوا لأن التزلفَ للظُّلم سَمْتُ العبيدْ
ولا يرتضي الجَوْرَ والقهر إلا الذليلُ الحقيرْ
وقالوا لنا: «نحن مستضعفون»
ولم نقْوَ بعدُ على حربهِ
وليس لدينا الرجالاتُ حتى يكون النفيرْ
وليس لدينا العتادُ المكافئُ للمجرمينْ
وإن لقاء الفراعين أمرٌ علينا عسيرْ
وحربٌ ضروس ستُودي بنا
ولن ترحمَ اليومَ فينا النساءْ ، ولن ترحمَ اليوم حتى الصغيرْ
فهوِّن عليكَ ، وكن مُنصفًا
وزيِّنْ كلامكَ بالمنطق العدل ، لا تنفعلْ
وأعطِ اليراعةَ بعض الشهيق وبعضَ الزفيرْ
ودعنا نحللُ أمرَ الخروج على مَن طغى
ومَن قال: إني إلهٌ لكم
وإني أنا الرب ليس سواي
فقلتُ: تريدون أن تُفحمونا
بأنَّ الخروجَ عليه ابتداعٌ مُبيرْ
وأن الإطاعة رغم الأنوف له واجبة
أقول: خسئتُم ، وردي عليكم يسيرٌ يسيرْ
لأني أسائل ما فَرْعَنَه؟ وما ألَّـهَه؟
ولا أسمعُ اليوم منكم جوابًا يثيرُ الهممْ
أسائل: أين زئيرُ الرجال؟ وأين الفئام؟
وأينَ الحنيفةُ يومَ انجمعتُم لديه ضُحَىً؟
ونادى عليكم: أنا ربكم ، وإني الإله
وزاد: سأهدي جميعَ الأنام سبيلَ الرشادْ
وأسأل: أين الجوابُ الجهير؟
وأينَ الرجالُ ترد عليه ، تقول بأنكَ لستَ الإلهْ؟
ولكن ربَّ السماوات والأرض ربُّ الجميعْ
له الخلق والأمر معبودُنا ، وليسَ سواهْ
تبارك ربُّ الوجود الإلهُ القديرْ
وما دمتَ تزعمُ أنك فينا إلهٌ كفرت
وكنتَ على الله أنتَ الجريء ، وكنتَ على النار أنت الجَسورْ
ولكنكم قد ركعتُم له ، وصفقتُمُ للضلالِ المُبينْ
وغركُمُ بالمليكِ الغَرورْ
رضيتُم بما قد رآه لكم ، سبيلَ الرشادِ كما يَدَّعي
وضاعت على الدرب آمالُكم
كأنَّ الديارَ على فِسقها
أقامت ، ولم تكُ يومًا تثورْ
وما كان «يُوسُفُ» فيها العزيز
وما كان شرعُ الإله بأرضي يَسودْ
يمينًا يضيعُ بِذلِّ العبيد القرارْ
ويُفلتُ ممن يحب الرشادَ الإباءْ
وتغدو الكرامةُ في الصدر نارًا تفورْ
ويسعى الأُباةُ لإنقاذ مَن آمنوا
ولكنَّ بأس القيود عنيفٌ عَتِيُّ المِراسْ
ويَسعد في الدار مَن عربدوا
وينتحرُ الأملُ المستطاب
لأن العبيد لدكِّ الحصون ، وقَطع الرقاب ، وسَفْكِ الدماءِ ،
وسبْي النساء ، وقتْل البريء ، وحرْق الضحايا ، وهتْك العهودِ ،
وتدميرِ دنيا اليتامى تسيرُ تسيرْ
وتبكي الديارُ لأن العبيد لأعدائهم أسلموها
وتشكو الشريعةُ مَن لسواد عُيون العِدا بدّلوها
وتشكو الخلافةُ كل الشياطين مَن زيفوها
وتشكو العقيدة مَن شيدوا الأضرحة
ومَن في الديار أقاموا الضلال مَقام الشريعة
ومَن حاربوا في الأنام الهُدى
ومَن عاملوا الخلْقَ فيها كمثل الحَميرْ
وتشكو المحاريبُ مَن أعرضوا
ومَن تركوها فلم يَعمَرُوهَا
ويشكو الكتابُ لربِّ السماء الذين طَغَوا
ولم يقرأوا فيهِ باسم المليك
ولم يَدْرسوه لمرضاة رب عفو غفور
ويشكو البريء مِن الناس ظُلمَ المُسئ
ويُمعن في الظلم مَن أجرموا
وليس يتوبُ مِن الذنب مَن أذنبوا
ويخترعُ الجائرُ المستبدُّ السببْ
ليُخربَ بيتَ التقي الفقيرْ
يُقدِّمه لقمة للعظيم الهمام الكبير
وبعدَ المؤامرة المُفتراة يقول: «كَفى»
ويُعلن توْبًا من الذنب ، لكنه لا يتوبْ
لأن الضمير طواهُ العَمى ، وأمسى المُعربدُ لا يستشيرْ
طُعِنْتُ أيا مُقلتي في الصديقُ
وعانيتُ يا عينُ غدر الرفيقْ ، وأحنى إبائي تخلي الشقيقْ
فلم ألقَ حتى سراب الرحم ، ولم ألقَ حتى بُخار الإخاءْ
يُـحاربني اليوم بعضُ دمي ، ويَحرق قلبي الشقيقُ الغَدورْ
يُحاسبني أنني مُسْلم ، ويَضرب في الأرض ضربَ البعيرْ
ويَعْتَدُّ بالمال دون حَيا
ولستَ شقيقي كما تدعي ، لأن شقيقي التقيُّ البصيرْ
شقيقي الذي يعرف الحق ، يحيا لهُ ، يُضحّي لهُ ، يموتُ لهُ
شقيقي الذي لا يخاف العِدا
شقيقي الذي درهمي درهمُهْ ، ودينارُه في يميني إذا رُمْتُهُ
شقيقي الذي عِلمُه بالعقيدة نورٌ لهُ
شقيقي الذي إنْ بُليتُ أتاني كمثل النسيمْ
شقيقي الذي يبتغي رفعتي بين كل الورى
وخيبتَ ظني ، وما كنتَ قط كما قد ذكرتْ
فأنتَ على الغير ظل ظليل ، ولكن عليَّ كمثل الحَرورْ
وتزعم أن الذي بيننا يزولُ يزولُ كأنْ لم يكنْ
تريد الذي ما حلمتُ به ، وتُنْشِدُ بيتًا بأقصى النجومْ
لأن الدعيَّ بأحوال قلبيَ ليس الخبيرْ
ألا فالتمسْ في الخزايا شقيقًا سوايْ
ولا يخدعنَّكَ صمتي الطويلُ ، فإني حيالكَ في الله كلي غضبْ
ولستُ أراني حقودًا عليكَ ، ودنياكَ ليست بقلبي الشكورْ
لأني أتوق إلى جنة الخُلد عند الجليلْ
طعامي هناك وشربي إذنْ ، ومثلُك أعلافُه مِن شعيرْ
ولا أقبلُ اليومَ منكَ التزلفَ إني كريمْ
ومرحى بكَ اليومَ إما أخًا مسْلمًا ، وإما شقيقًا يُراعي الرحمْ
ولا مرحبًا بالدعيِّ الأثيمْ
ومَن هو للمجرمين الظهيرْ
لأن الجبانَ الخذولَ مَعيبٌ ، يَبيعُ الشقيقَ ، يَخون العشيرْ
فلا تفتكرْ لحْظة بالإخاء الوشيكْ
فأمُّكَ ما ولدتْني لمثلكَ يا أفعوانُ إذا جُعتَ بَعضَ فَطِيرْ
وزدْ في الدراهيم حتى تزورَ القُبورْ
فلا خيرَ فيكَ ، لأنْكَ لم تستفد مِن كلام البشيرِ النذيرْ
لفظتُكَ بين الأنام سرابًا يزولْ
وبعدُ أعودُ إلى مقلتي
أغَيِّرُ بَحْري وترنيمتي ، وأنساكَ أنتَ نَسِيتَ الوِصالْ
مُقلتي الحزينةُ الكئيبةُ المقالْ
تَعلَّمِي الثباتَ مِن مواقفِ الرجالْ
وكفكفي لذوعةَ الجدالْ
وذكّري الفؤاد بالمآلْ
وفتنة الصراطِ والسؤالْ
وأغلقي بَوابة النقاشِ عن أرائك الضِّرارْ
وجَوْقةِ الفرارْ
وصولةِ الفراعن الكِبارْ
وذلة الفئام تحت أرجُل الكِفَارْ
وضيعةِ الصِّغارْ
ودولةِ الفرعون في حضيضِ الانحدارْ
فأسدلي يا مُقلتي الستارْ
على الخوارج الذين لم يَضُمُّهم قرارْ
وأجملي الكلامَ عن شواعر البلاط ، لأننا نعيشُ يا حبيبتي
في آخر الزمانْ ، نعم نعيشُ في أتونِ الانحطاط
فهؤلاء فوق هامة الضلالْ
يَكتبْنَ شعرَهن بالمَضا والانضباط
وبَسمةُ الفرعون للخليلة المناط
والكل في رباط
شماعةُ الحجَّاج فَلَّهَا التعللُ المَقيتْ
مسكينُ يا (سعيدُ) مِن مَنارة رُمِيتْ
وبعد فترة وجيزة نُسيتْ
ولو أطعتَ مَن طغى بَقِيتْ
ولو رضختَ للضلال ما ابتُلِيتْ
وما حُرمتَ عنده المَبيتْ
ولا الطعامَ ، كلا ، ولا الشرابْ
لأنه والحالُ هذه كريمْ
وأنتَ منه قد كُفيتْ
خسئتَ يا (حَجّاجُ) مِن هَبِيتْ
يا مَن تُقَطع الرقابَ دون خوفِ القارعة
وتأخذُ البريء بالمُسئْ
وعندكَ الجنودُ سيفُهم في الفتنة الوَكِيتْ
يَا ويلَهم ومثلِهم من ربنا المُقِيتْ
يا مُقلتي رأيْتُ في زماننا الكثيرْ
رأيتُ حَرْبةً في جَبهة الصغيرْ
رأيتُ كيفَ يُحْرق الجنينْ
وكيف تَسْفِكُ الدماءَ في الدُّنا أصابعُ العبيدْ
وكيف يَدَّعون بعدها بأنهم حمائمُ السلامْ
وكيف يَسرقُ الظلومُ فرحةَ المُوَحِّد الفقيرْ
وكيف يَنسجُ الزُّيوفَ والفسادَ في الورى مُستشرِقٌ حقيرْ
وكيف يَقمع الهُدى منافقٌ في كفره يَسِيرْ
وكيف ذِمةٌ تُباع في متاهة الهجيرْ
ويوأدُ المسكينُ والحنيفُ والأسيرْ
وكيف يَدفنُ الطغيانُ جُبَّةَ التقيِّ المُستجيرْ
وقد علا في أرضه الزئيرْ
وأهله يَستصرخون جَوْقة الحَمِيرْ
مِن الذين يُشركون بالإلهْ
مِن الذين يَعبدون غيرَ ربنا القديرْ
مِن الذين يَزعمون أنهم مُلوك الآخرة
وسادةُ الورى ، وساسةُ الأمم
مِن الذين يَزعمون أنهم على هُدى الرشاد
ويبرأ الرشادُ ممن أشركوا
 كذاك موسى مِنَ العبيد قد بَرِئْ
والأنبياءُ كلهم تبرأوا مِن الذين أشركوا
بالواحدِ الكبيرْ
يا مقلتي رأيتُ في زماننا الفنونَ بالورى تمورْ
تُروِّجُ الفسادَ في الدنا ، وعُصبةُ الرشادِ تستجيرْ
والعُهر كم أضل مِن فتاة تستحي ، وكم أضلَّ مِن غلامْ
والرقصُ في زماننا وفيرْ
وكأسُه تدورْ
تحطمُ الرشادَ والجمالَ والهُدى
وتقتلُ الضميرْ
في خِدرها كانت تعيشُ كل غادةٍ بعِزِّها
واليوم في الورى تبيعُ عِرضها القريرْ
بالدرهم الحقيرْ
وسوأةٌ تكشفتْ أمام أعين النساء والرجالْ
وبِيعَ للمُريد حُسنها الجهيرْ
وفوق هامة الجمال مشهدٌ عطيرْ
وأصبح الخنا وظيفة تُرادُ في زماننا المَريرْ
والبوسنويةُ انتهى من الوجود صوتُها
وودعتْ قبل الوفاة طفلَها ، وزوجَها ، وعِرضَها
وزايلتْ كرامةً تأصلتْ
وأسلمتْ ضميرَها لموتها
والمُسْلمات فوقهن صُبَّتِ المِحنْ
ومَن يوحد المليك في زماننا مُهانْ
وفي الديار تعزفُ القِيانْ
وتضربُ الدفوفَ خلف ظل الصولجانْ
ويُمسكُ السياطَ مَن يبيعُ دينَهُ
ومَن يُعبِّئ الكُؤوسْ
مِن الذين إن قَضَوْا على الذي عليه لا ، لنْ يدخلوا لجِنانْ
لأنهم يؤلهون غيرَ ربنا
حياتُهم بأسرها على الضلالِ أُسستْ
قلوبُهم مَنزوعةُ الحنانْ
وغِلظة الطباع ديدنُ الجبانْ
وجفوةُ النفوس والفسوق فوق هامة الظلوم مَعْلَمَانْ
ومسرحُ الحياة للقرود والذئاب والعبيد مِهْرَجانْ
والسادة الكِبارُ غارقون في الخمور والطبولْ
يلفُّهم في ثوبه الدخانْ
هم يُفصحون عن مُرادهم لمَن يُريدْ
فعندهم في كل مجلسٍ وحانةٍ كلامْ
وقولُهم في غاية البيانْ
ودونهم فوق الأرائكِ البغيضة الحِسانْ
ويُنْشِد العبيدُ في مزابل اللئامْ
أنشودةَ التزلف الرخيصْ
وتَقرعُ الأصابعُ الدفوفْ
أيدي غُواتنا لا تعرف السِّنانْ
لكنها لـمَن طغى تُعبئ الدِّنانْ
وفي براعةٍ وخفةٍ تُزخرف الكِعابَ للذئابْ
وتُسدلُ الستارَ عن تطلع العبيدْ
لكل مجرم في ليلةٍ خمريةٍ ثمانْ
وأُعلنت نِخاسة الحَريم والعِيالْ
في غابةٍ للحُر في أصقاعها الدمارْ
وللعفيفةِ التقيةِ الهَوانْ
مزابل التاريخ كم فيها من العُتاة
مِن الذين بدلوا شريعة الإلهْ
وحرفوا كلامه وهديه بلا حياءْ
وحاربوا كتابه وهديه بلا مِرَاءْ
وقاتلوا عباده ومَن له أطاعْ
حقًّا هم الجُناة ، ومَن سواهُمُ نراهُمُ الجُناة؟
مِن الذين سلموا الديارَ للعبيد
وأخلفوا الوعود
وبعدها خانوا الجميعَ عامدين والعُهود
ودمروا ببأسهم كتائبَ التقاة
وأفسدوا البقاعَ والنفوسَ بالفنونْ
وأحرقوا شموسَ عزنا المَهيبْ
وأصبحوا على الحنيفة العَلِيّة الطغاة
ولم يُراعُوا حُرمةً لمؤمن ضعيفْ
كلا ، ولـمَّـا يرحموا كآبةَ الصغيرْ
فشوهوا طلاوة الحياة
وسَمموا الغِذاءَ والغِطاءَ والكِساءَ والدواءْ
ولوثوا ـ يا ويلهم ـ حلاوة المياهْ
وذبَّحوا فئامهم كأنها شياهْ
وسائلي يا مقلتي عمّا جنوه دُورَنا وقَومَنا
وسائلي بُيوتنا والبَرَّ والفلاة
وصدقي جواب كل هؤلاء أنهم بُغَاة
وأنهم عند انتصار الحق يلبَسُون لُبْسَةَ الهُداة
وأنهم قُمامةٌ يَفوحُ مِن خلالها الأذى
وأنهم لِمَن يبيعُ دينه رفاقْ
وأنهم على المُوحدين نارْ
وعندما تكلموا ترهلتْ قواعدُ النُّحاة
لأنهم يا مُقلتي قوالبٌ مُترجمة
وخيبةٌ على الأنام ألقيتْ
ولا احترامَ عندهم لسُمعة الدعاة
طعامُهم لحومُ مَن يُوحد المليك
ويشربون مِن دماء مَن يُتابع النبي
ويرفعون أهلَ وحدة الوجودْ
وعندهم في الاعتزال نبرةٌ علتْ
وإن بدتْ لصالح الطغيان معركة
كانوا بها مِن أشجع الرُّماة
رماهُمُ المليكُ بالعَمى
وصيَّر العزيزُ دُروهم ومالَهم وأرضهَم غنيمةً لمن هَداهُ باردة
ودمّر القَويُّ كيدَهم ، وكيدَ مَن وراءهم سعى
وحطمَ المُعِز كل قوة بها يُدمّرون عزة الذي لربه أنابْ
­مُقْلَتي الحبيبة ُ النديةُ الجمالْ
تُحرّق الدموعُ وجنتي ، لأنني مسربلٌ مُكبلٌ حزينْ
ويقتل العذابُ خاطري في مَفرق الطريقْ
إما نظرتُ في اليمين راعني القلقْ
وإن نظرتُ في الشمال هالني تنطعُ الرفاقْ
وفي زماننا على الأشاوشِ العِظام ، تجرأ العِيالْ
مِن الذين لا رشادَ عندهم ولا ضميرْ
مِن الذين يشربون همة الشهيدْ
مِن الذين يسحقون كل بسمةٍ تُراودُ اليتيمْ
مِن الذين يأكلون طينة الوبالْ
ويَمْحقون كل عزمة تُرصِّع الجبينْ
ويَشتهون أن يُلوثوا البرئْ
ويَنبشون قبر (صاحب الجمالْ)
ويَصرفون عن كلامه في الأرض كلها العبيدْ
­لكي تجهَّزَ الديارُ والنفوسُ والقِفارُ للعبيدْ
لكي يَروقَ للطغيان أنْ يُنوّع الفساد ، ويُتْخِمَ البلادَ بالعَتاد
لكي يكافئ المنافقون جَوْقة الفنون ، مِن الذين عُهرهم نما
لكي تكون طُعمةُ الصغير حفنةً يسفها مِن أخبث الرمالْ
يلوثون سُمعة الشهيد ، لم يخافُوا الآخرة
ويكسرون عظْمه علانية
وينسلون لحمه والجيدَ بالمُدى ، ويسلخون جلدَه بلا حياءْ
ويفقأون عينَهُ ، يُحصلون قُوْتَهم كما ادعَوْا
ويَجْدعون أنفه لكي تكون حِلْية رخيصة لعاهرة
ويُتْرعون صدره بظلمهم والغش والخبالْ
ويملأون جوفه بالاحتيالْ
ويحملون للعدا رُفاتَهُ مدفوعةَ الحسابْ
لأنهم يا مقلتي مَعَاولُ الفساد ، وجَوْقَةٌ تُعَبِّئُ السمومَ في الكُتبْ
منافقون يرفعون راية الرياءْ
و(ابن السَّلول) فارسٌ لديهمُ مُهابْ
وخلفه بين الجموع يُطفئ السنا (مُسيلمة)
وعنده (سجاحُ) تنسج الضلال ، وتنفخُ الجحيمَ فوق طلعة الهلالْ
و(الخير) في غياهب السُّجون ثابتُ اليقينْ
يستنصرُ المليكَ ، لا يخافُ مَن طغى
ولا يموتُ ـ إن دعا موحدٌ إلهَه ـ الأملُ
ولا تضيع عند ربنا أجورُ مَن عَمِل
ولا يُخيِّبُ المليكُ مَن دعاهُ مخلصًا
وعندما (أُمية) افترى ، دعا الجليلَ ضارعًا مستنصرًا (بِلالْ)
وربنا استجابَ للمُوحد المشردِ المعذب الأسيرْ
وأرسل (الصِّدِّيقَ) رحمةً يفوحُ مِن دُجى الهلاك عطرُها الجميلْ
والطاهرُ البريء «مخلصٌ» تلوكُه الذئابْ
يُخمِّشون في وحشية جراحَه ليشربوا الدماءْ
لم يَعْلموا مِن الكتاب آيةً تُوحد المليكْ
لم يفقهوا مِن الحديث رُوحَه مِن نبعه الأصيلْ
حتى إذا تكلموا اعتراهُمُ العَثَارُ والهُزالْ
لم يَعْرِفوا الحرامَ ويحَهم مِن الحلالْ
وبالشِّمَال يأكلون قُوتَ مَن غفا مِن القطيعْ
وبالشمال يشربون مَاء مَن علا نحيبُه المُريعْ
وبالشمال يَسْفكونَ عِزة العباقرة
كأنهم ـ يا ويحهم ـ على الذين أسلموا أكاسرة
كذاك هم تعودوا أن يَذْبحوا بعلمهم مروءةَ الرجالْ
لم يُدْركوا حقوق أهل المعرفة ، مِن الذين أدَّبوا الطغاة
والعلمُ في مجلَّداتهم له شَذًىً يَفوحْ
فهؤلاء لم يُدَلِّسوا لصالح العُتاة
ولم ينافقوا لنيْل درهمٍ زهيدْ ، أو مركبٍ فريدْ
لأنهم يا قومنا عِبادُ ذي الجلالْ
لم يأكلوا على حساب دينهم ، لم ينهبوا نَضَارةَ الهُدى
لم يشربوا دموعَ مَن يؤزُّهُ هجيرُ الانفعالْ
لم يعبأوا بما يزخرفُ الرعاةُ مِن صُنوف الاحتفالْ
ولم يُضللوا بما ارتأوه جيْلنَا المضيعَ الحقوقْ
ولم يُتوِّهوا يا مقلتي العَوامْ ، ولم يُلمِّعوا بالزيف غُرَّةَ المَقالْ
صاغوا الهدايةَ التي مِن السماء أُنزلتْ ، بإذن ربنا المليكْ
على الرسول المصطفى نَبيِّهِ الأمينْ
وأخلصوا ولاءهم للواحد القديرْ
وكان مِن لوازم السرور عندهم شهادةٌ عزيزةٌ يَسوقُها القَدَرْ
يزفها رضا الإله عن عباده بساحة القتالْ
تحمَّلوا العذابَ في سبيل ذلك الهدف ، وصاحبوا الشَّظَفْ
وشُرِّدوا وجُوِّعوا وزُلْزلوا ، وفي الجحيم أُهبطوا
وهذه (الأهواءُ) لا تُسْعِفُكُم ، ولا اعتبارَ (بالمخاذم) التي مِن خلفها النِّصالْ
ونسألُ الإلهَ أنْ يُعِيْنَنَا على التُّقى لأننا مُعذبونَ نشتكي
يا رب جُدْ على الدعاة بالهنا
ومُتعةِ الحياة في جِوار مَن أناب
ولذةِ الطعام والشراب في رطوبة الرخاءْ
وبَهجةِ النعيم في جوار مَن تشوقه القِيَم
ونخوةِ الإباء في نضارة النضالْ
وعزةِ المَضاء في التشامخ الجهيرْ
لأنهم يُبلِّغُون دعوة المليكِ مِن شروق شمسه إلى الزوالْ
و(صاحب الجمال) بينهم يقود جمعَهم في المَوكب الكبيرْ
مُعطرَ الجبين في يمينه يَراعةٌ تذودْ
وفي يساره دَوَاتُهُ ، والحِبرُ مِن دمهْ
وفي النُّهى إرهاصةُ العطاء تنفعلْ
وفي الفؤاد هِمّة تضاءلتْ بسَفحها الجبالْ
وفي الضمير عَزمةٌ يفوحُ مِن عبيرها الأريجْ
وفي ترفِّع العظيم (مخلص) تعففٌ بديعْ
وفي إبائه تعاظمٌ حماه عن تذلل العبيدْ
والنيل مِن شموخه مُحَالْ
لأنه فوق اليراع يحملُ الصعودَ للعُلا ، ويَرفعُ القرآنَ عاليا
وفوق رأسه دماؤه يبيعُها ، يريدُ جنة الكريم ربنا
يَبيعُ روحه رخيصةً ، كذا يبيعُ نفسَهُ ، والمُشتري هُوَ الرحيمْ
و(صاحب الجمال) بعد جولةٍ وجولةٍ وجولةٍ شهيد
يُودِّعُ الحياة والعَناءَ والشقاءَ والعذابَ والفَنَا
بإذن ربه سيدخل الجنانَ في دَلالْ
وسوف يشربُ الرَّدَى عدُّوه اللدودْ
ويسألُ المليكُ مَن يرشُّ لَحدَه بنارِ مَنْ بَغَى
وسوف تسقطُ الوجوهُ يومَها مِن ذِلَة السُّؤالْ
فـ (صاحبُ الجمال) يا عِيالُ لمْ يَمُتْ
أقول ذلك الكلام كي تُخففوا هجومَكم ، وتَحْقِنُوا سُعاركمْ
أقوله لتلْفِظوا لحومَ أهل العِلم مِن بُطونكمْ
أقوله لتعلموا بأن مَنْ يموتُ في سبيل ربه يعيشْ
أقوله لتُقلعوا عنِ الجدال والعِراك والنقاش والمِحِالْ
أقوله ، ولا أخاف مَنْ يخصكم بماله الوفيرْ ، والمنصب الكبيرْ
ويُغرق العميلَ والخؤونَ والجَهولَ بالنوالْ
أقول: إن (صاحب الجمال) في عُيوننا مَصُونْ
كلامُه الصحيحُ في قلوبنا فداؤهُ المُهَجْ      
بغيظكم موتوا وأعلنوا الحِدادْ    
وكل مكر سيئٍ بأهله يحيقْ       
وعند ربهم سيُجمع الخصومُ يا غثاءْ
(شَايْلُوكُ) بِيدِهِ السِّكِينْ...
ويُريدُ اللحم لينهشهُ
وكذلك (فِرعَونُ) الطاغِي...
يعدُو خلْفَ سَرابِ الوَهمْ...
وأراهُ بكل بِطانتِهِ ، يَنفخُ أعفانًا في المَسْرَى...
ويُعربدُ في الأرض ويلهو...
ويَؤزُّ بدعواهُ المَلأَ...
وأرى (قارونَ) يُؤيدُهُ...
أمَّا (هَامَانُ) وفرقتُهُ ، فإِلَى الإِنسانيِّةِ يدعُو...
وبآلام العَجَزَةِ يلهو....
وعلى أنَّات الضَعَفَةِ عَزَفَتْ فِرقَةُ هَامَانَ
اللحْنَ العُذْريَّ طويلا...
وعلى أشلاء القتلى ، وعلى الأكبَاد الحَرَّى
يَقْعُدُ هَامَانُ ويخطُو...
أإلى هذا الحَدِّ وصلْنَا؟
وإلى هذا الدَرْك نَزَلْنا؟
سَلِّمْ يَا ربِّ مِنَ الشيطان ومِنْ عُبَّادِ ضَلالَتِهِ.....
والمَاضي الحَاضرُ يَقْطفُ مِنْ أزهارِ الخَوف...
فعَلَى الخوفِ نَبيتُ ونصْحُو...
وعَلى الخوفِ نمُوتُ ونحْيَا...
لمْ نخشَ الله ولمْ نتَّقِهِ...
ولذا خِفْنَا كُلَّ النَّاس...
تركيبةُ هذا الخوفِ تُخالِطُ دَمَنا وترائِبَنا...
والخوفُ يُعَرْبدُ في الأذهان بكُل سَبيلْ...
وَالْخوفُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوَلَدِ وَبَيْنَ أَبِيهِ
والخوفُ يُفَرِّقُ بين الأبّ وبنيه...
والخوفُ يُفرِّقُ بين الأخ وأخيه....
تعِسَ الخوفُ وتَعِسَ الخائفُ ماذا بَعد...
جاءَ الإنسانُ إلى دُنيانا هَذي مَرَّة...
ولسوفَ يُفارقُ هذي الدُّنيا أيضًا مَرَّة....
فِيمَ الخَوْفُ؟ لمَاذا لا ينتحِرُ الخَوف؟
واللغةُ العربيةُ تَصرخُ فينا: أينَ جَمالُ الحَرف؟
كيف تركتُم عربيتكم؟ كيف سَخِرْتم مِنْ أحرُفِهَا؟
كيف هَتَكتمُ عَفْويَّتها؟ كيفَ طَعنْتُم عربيتَكم؟
كيف قبلتُم هذا الضَعفْ؟
كيف تركتُم لُغَةَ (جريرٍ) و(المُتَنَبِّي)؟
و(الخَنْسَاءِ)؟ وكيفَ طواكُم هذا الخَسف؟
كيف رضِيتُم غيرَ لِسان العَرَبِ الفُصْحَى؟
كيف تنكرتُم للنَحْو العَربيِّ العَذبْ؟
كيف هَجَرتُم كُلَّ عَروض الشِّعر؟
كيف نَهَرْتُم كُلَّ بَريءٍ دَافَعَ عَنْهَا؟
كيف ذبحتُم كلَّ لِسَانٍ فَذٍّ فَحْلٍ؟ كَيفْ؟
بل كيف محقْتُم حَنفيَّتكم ، وشربتُم دَمَ (أصحابِ الكَهفْ)؟
كيف تخليْتُم ـ يا قومي ـ عن عِزتكم؟
كيف تركتُم ظِلَّ الرُّمْح ، وَحَدَّ السَّيفْ؟
يومَ تركتُم حنفيتكمْ فلمَاذا لم يَبْقَ العُرفْ؟
دمعي في الفَلَوَات تَحَدَّرَ رغمَ الأنفْ...
وأنا اللغةُ العَزْلَى أبَدًا....
ودمي فِي أورِدَتِي جَفْ.......
وأحاول جاهدة أن أنصحكم
وأحاول أن أبعد عنكم كل ركيك لأعالجكم
وأحاول أن أرشدكم
أَتَذكرُ مِنْ صَفَحاتِ الماضي الذابلِ هذا الطِّفل...
لحَظاتُ العُمْر الراحل تحتَ تُراب الأرض....
والأملُ المُتحشْرجُ أبدًا في شُريان الكَون...
وأسائلُ نفسي ، كيف يَضيعُ الأصلْ؟
قد كُنتُ على فِطْرةِ ربِّي...
وحياتي في زَورقها تسعَى.....
وأنا أحيا وسْط الصَّحْب ، ووسْطَ الخَلقْ....
وكذلكَ أحْيا بيْنَ الأهلْ....
أستمتعُ بجمال الظِّلِ ، وأشْدو...
وأُداعِبُ في القَريةِ صَحْبِي.......
وأعُودُ إلى بيْت الأُسْرَة أَعدو ،
إنْ حانتْ سَاعَاتُ الأكلْ ،
أو فاجَأني عَبْرَ اللعِبِ اللَّيلْ....
حتى في مَدرستي ألهُو ،
وأُحدِّثُ كُلَّ أساتذتي ،
لا أخشى بَأسَ وظيفتهمْ ، أو حتى حَجْمَ عُقوبتِهم....
والأدبُ الجَمُّ رفيقي في التعبيرِ ، وفي التفسِير...
فأُعَبِّرُ عن نفسي ـ دومًا ـ فِي حُريَّة....
وأُودِّعُ كل لهيب الخَوْف الصامت مثْل الوَثَنِ على حَنْجَرتي....
وأوضِّحُ رأيي في جُرْأَة...
حتى إنْ كلَّفَنِي ذلك رُوحِي....
فأَحَبَّ أساتذتي كُلَّ كلامي ، وتَعَابيري...
عَلَّمنِي ذلك (عَرِّيفُ القريةِ) ثُمَّ (أبِي)...
ولقد أشقتْنِي تجربتي هذي جدًّا...
كنتُ أُقابلُ في مَفْخرة أصحابَ أبي ،
كُنتُ أُحدِّثُهم عَنْ نفسي...
كانَ الواحد منهم يَفْرحُ أني في استقبال فَضيلته....
كان أَبي يَفتخرُ بقوة عَزْمي عند نُزول الضيفْ...
مثْلي ـ فِيما أفعلُ ـ مِثلُ جميع الطِّفلْ...
سِتُ سنينٍ مَرَّتْ مِنْ أيام العُمْر الواجمِ تَجْري...
وأنا ـ خلف سِنِي العُمْر الثائر ـ أجْري...
هل كنتُ أظنُّ بأنِي ـ يومًا ـ سَوْفَ أُسابقُ عُمري؟
لكنْ أقدامُ العُمْرِ الراحلِ ليْسَتْ تَعْرِفُ «هَلْ».....
أَتذكرُ مِنْ أيَّام العُمْرِ الذاهبِ يومًا لَيْسَ يُفارِقُ عيني...
يومَ كتبْتُ الشِّعرَ أُعبِّرُ عنْ آلامِي ،
عنْ تجربتي ، وأعبِّرُ عن أيام حياتي....
وتعَسَّرَ شِعري بينَ أنامِلِ قلمِي...
وتعالتْ صَيْحةُ دمعي ، يا ويحَ الدمع...
وبُحورُ الشعر تُعرقلُ كل جوادٍ ، ليسَ يُجِيدُ الشِّعر...
ولهَا أخذٌ بالألبَابِ شَديدُ الوَقع....
يُلْهبُ ظَهْرَ غَليظِ الطَّبع...
إنَّ الشِّعْر رَهيبُ الفَحْوَى...
أخشى مِن رهبتِه ـ يومًا ـ أنْ يَنتحرَ النَّبعْ...
وأُفتشُ فِي أرْوِقة الشعرِ عَنِ الخِلاَّن...
وأفتشُ في رحم الكلماتِ النَّشْوى...
لا ألقى شِعرًا ، أو أدبا...
وكتبتُ شُعوري شِعْرا...
حتى طالعْتُ عروضَ الشِّعر....
ذهبَ الظمَأ ، وأفطرَ قلمي ، وانقَشَعَ الرَّوع...
وكتبْتُ كثيرًا ، وكثيرا....
وسَمِعْتُ نصائحَ أستاذي...
فقرأتُ كثيرًا جدًّا ، ثم قرأت...
وزرعتُ الشِّعْرَ بأرض الشعرِ...
فأثمَرَ في تجربتي الحَرَّى كُلَّ الزَّرع...
حتى كانَ الحادثُ هذا ، فتحديْتُ جميع الشِّعر...
قلتُ: يَمينًا أكتُبُ في تعْزِيَةِ العَين...
وعلى كل بحور الشعر كتبْتُ شُعوري ، بلْ والدَّمع...
كانت هذي أولَ مَرَّة ، وكذلكَ هِي آخرُ مَرَّة...
أولُ مَرة: أكتبُ فيها شعرَ النثرِ ، ونثرَ الشِّعر...
وأقدِّم أسَفِي للشُّعراءِ وللأشعارِ...
ويكفي هذا مِن أوراق الماضي الضارب في طَيَّاتِ العُمْر...
وكذلك في طيَّات القلبِ ، وجَوْفِ الصَّدْر....
يكفي ما قدمتُ من الأشعار لمن يقرأها
يكفي أنْ كانت أشعاري ترجمة لسني العمْر
وتذكرتُ حَياةَ المعهدِ ، في بَلَدٍ تُشبِهُ قَريتنا...
حيثُ نشاطٌ يملأ كل الجوِّ عبِيرا...
وتلاميذي هُمْ أصحابي ، وأحبائي...
فلهُم كنْتُ «أبَشُّ» كثيرا ،
ولخاطِرهم أملأ أرضَ الفَصْلِ حَرِيرا...
ويُحبون لقائِي دومًا...
وإذا قُلتُ: اسْتمِعُوا ، اسْتمَعُوا...
ورأيتُ الجَوَّ هنَاك يصيخُ الأُذنَا...
ورأيتُ كذاكَ الصَّمْتَ وفِيرا...
يا أولادَ المَعْهَدِ كُنتم زادًا للمستقبلِ أبَدا.....
زادًا لَسْتُ أراهُ يَسِيرا...
كنتُ أُعَطِّركُم تَعطِيرا...
كنتُ أراكُم أفضلَ ما في (المَعْهَدِ) حَقَّا...
أسمَى مَا فِي (المَعْهَدِ) أنتَم صِدْقَا ...
أطْيَبُ قومٍ أنتُم عِرْقَا....
كنتُ أراكم رغمَ ضغُوطِ الواقع هذا عُدةَ مُسْتَقْبلِنَا الحَالِكْ
وصناديدَ الفِكر ، بكم تتحرَّرُ كلُّ عُقولِ النَّاس...
وجَهابذةَ الأدب القاطِع أرضًا نَحْوَ البَأسْ...
ورياحينَ الأرض الظمْأى...
كنتُ أراكم ـ رغمَ تَحَدِّي الدنيا ـ فَوْقَ الرَّأس...
كنتُ أُرسِّخُ في أذهان كثير منكم أنَّا أَسْرَى....
وكذا الدارُ سليبةُ مَنْ نهبوها ، فِي غَفْلتنا...
في غَفلة أجدادٍ أيضًا كانوا يَنْتَسِبُون إلينا...
فَوَرِثْنَا الرَّايةَ في قِيعان الأرضِ عليها العَار...
وشربْنا الذلَّ كُئوسًا مَلأى ، وكذاك شَرِبْنا النار...
رقصَ الشيطانُ أمام الكل ، فقالَ الجيلُ السابقُ: يا مَولانا...
والآن سنبذلُ دَمنا يا أولادي في إرْجَاع الحقِّ الضائِع مِنَّا...
ماذا قلتُم؟ فأجابوني: نحنُ وراءك يا هادِينا...
كنتُ أراكم يا أولادي ، وعليكُم هَالةُ أنْوَار...
كنتُ أرى شعلتَكم أزهى مِن جَوْهَرةِ المَاس...
وبَذلتُ لكم تجربتي والخِبراتِ الجَمَّة...
وبَذلتُ إبائي ، والإحسَاس...
ورجوتُ اللهَ يُباركُ فيكم ، يَجْعَلكم ربي فِي القِمَّة...
يجعلُ كلَّ غُلامٍ منكم لجميع الخلق النِّبْرَاس...
كان الخوفُ وبَاءً فيكم يُعدي...
فزرعتُ مكانَ الخوفِ القاتلِ جُرأة...
وغرستُ شجاعةَ نفسٍ تَسْحَقُ ذلَّ الجُبن...
دَوَّنْتُ العِزَّةَ فوقَ جبينِ الواحدِ منكم...
ثَمَّ بَذَرْتُ شُموخِي فِي القِرطَاس...
وحَرثْتُ الأرضَ مِرارًا ، وبلا مِقْيَاس...
لأُسجِّلَ في دِيوان الواحدِ منكم حُبَّ الحَق....
وكُرْهَ الباطلِ ، صارَ الواحدُ منكم صَلبًا كالمِتْرَاس...
غيرِي كانَ يُرسِّخُ حبَّ عِبادةِ غَيْرِ الله...
ومحبةِ ظِلِّ قُبور المَوْتى...
والنُّسكَ لغير اللهِ المَوْلَى...
وكذا دعوةَ غيرِ المَوْلى...
غَيرِي كانَ يُؤصلُ حُبَّ المَوْلِدِ ، والأَوراد...
 كان يُروِّجُ في الأولاد لحُبِّ البدعَة...
وكذا يدعو للأورادِ الشيطانيَّة...
بلْ كانَ يُمهِّدُ للدَّجَال الأَعْوَر، يا للجَهل...
وحدي كنتُ أُحطِّمُ كلَّ أباطيل الصَّرْعَى...
ودعاوى الباطلِ هذي بالفَاس....
ويَئِسْتُ مِنَ الإصْلاح...
مِسكينٌ قلمي هَذا ، مَوءودٌ قَلْبي هَذا...
يَطلبُ ماءً فِي النارْ ، يَغْسِلُ بالحق وجوهًا جللها العَارْ...
فتَركْتُ المعهدَ ، والأولادَ جميعًا لمَّا حطَّمني اليَاس...
وفررتُ بديني ، مِنْ شَيْطانٍ يَتعقبُنِي...
وتَذكرتُ السُّوقَ يُجاورُ في قريتنا بَيْتِي...
وأنا أقصدُ سُوقَ القرية ، أبغي زادَ الدُّنيا...
زادُ الدنيا سَبَبُ شَقَاءِ الإنسَانيَّة...
دخَلَ الشيطانُ لآدمَ يا نفسي مِنْ هذا البَاب...
أغراهُ بأكل ثِمارِ الشَّجَرة...
وَسْوَسَ فِي إغراءٍ فَوْري...
وتظاهرَ بالنُّصحِ ، وقال نصحتْ...
قاتلَ ربُّ النَّاس النُّصْحْ...
أحدثَ هذا النُّصْحُ جراحًا شَتَّى...
كانت جُرحًا يسعى خلفَ ظِلالِ الجُرحْ...
والإِبْلِيسُ عليْهِ اللعْنَة...
أمْسَكَ فِي الأزمةِ بالرُّمحْ...
أحدَثَ في دُنيانا البَلْوى...
واستعبَدَ أجناسًا شَتَّى...
وتمادَى في كيْل المَدحْ...
زادُ الدنيا كانَ السَبَبا...
وكذا الدنيا كانت سَبَبا...
سَبباً في تَخميشِ القَرحْ...
سُوقٌ هذي الدنيا حقَّا...
يُشبهُ في منظرهِ سُوقَ القريةِ مثلَ الصَّرح...
أذهَبُ سوقَ القرية وحْدي...
آخذُ مِنْ إنتَاجِ الأرض...
ثمَّ على الدراجة أعدو ، أقطعُ أرضًا حتى البَيت...
ذكرى سُوق القرية هذي في أخيِلَتي مثل الصُّبح...
وتذكرتُ البحرَ بمَهْبِطِ رأسِي...
وكأني أخطِفُ مِنْ ذاكرة البحرِ الموج....
حتى ليَكادَ بريقُ الرمل على سَاحِلِهِ يطفو...
ويداعبُ كلَّ صخورٍ تاهتْ قد ألقاها البَحر...
يا ليت البحرَ تمادى في تدليلِ الصَّخر..
لكَأنَّ البحرَ جوادٌ ، والأحجار السَّرْجْ...
يندمجُ البحرُ بقلب الصَّخر...
ما أحلى ذاكَ الدَّمجْ...
والماضي الماثلُ فوقَ رَمَادِ التَّلْ...
ينسابُ قتيلاً في هَمَزات خريرِ المَاءْ...
يأتي الإعْصَار يُضمِّخُهُ بدماء الثَّلجْ...
وأقابلُ ـ عند البحر ـ عشِيقًا ألجمه العِشقْ...
ملاَّحٌ تاهَ ببحر التِّيه ، وأغْمَدَ سيفَ هَواه....
أشمتَ فيه نُسُورَ البَحرْ...
أشمتَ فيه كذلك كلَّ ذِئاب البَحرْ...
وغشى المَلاحَ سحابٌ يحمِلُ نُورَ الحَقْ....
فَرمَى المِجْدافَ ، وقامَ بوجهٍ طَلقْ...
وتنسَّكَ دهرًا ، ثمَّ طواهُ العُمقْ....
وانجرفَ سريعًا في تَيَّار الصِّدقْ...
وتحررَ مِنْ عَبْديَّةِ غيْر اللهِ ، وَودَّعَ غُلَّ الرِّقْ...
أدركَ حَجْمَ الفَرقْ...
ثُمَّ تذكرَ ماضِيَ أمسٍ وَلَّى ، فتناولَ أقلامَ الشِّعرْ...
وكذلك داعبَ كل قوافي الشعر ، فبكى ـ بالشعر ـ الهَدْي.
وبكى بالشعر النُّورَ ، وهاجَ وأرعدَ يبكي ألمًا كُلَّ الخَلقْ...
وكذلك يبكي الحق ، وأخيرًا يبكي تِيهًا أغرَقَ أرضَ الشَّرقْ...
مُقْلَة الآمال آذتْنِي الجِراحْ...
وطيوفُ الشعر في قلبي غَفَتْ...
والأغاريدُ الصِّحَاحْ...
إنَّمَا الآلامُ تُزكيها تعَاوِيذُ الشِّفَاهْ...
كيفَ هذا الحزنُ في قلبي نَمَا؟
كيفَ صارَ الحُرُّ كالكَلأ المُبَاحْ؟
يَشربُ الأتراحَ مِنْ بعدِ النُّواحْ...
وتجرُّ العائداتُ إباءه وكيانَهُ ،
فيُعانِي ، ليسَ يَسمعُهُ صديقٌ أو حَبيبْ ،
ثُمَّ يبكي ، ليس يُبْصِرُهُ خليلٌ أو رَفِيقْ...
وإذا أحشاؤهُ كَلْمَى تُعانِقُها البِطَاحْ...
فيقولُ الرَمْلُ مَرْحَى بالذي
عارضَ الكُلَّ ودَوَّى كالرِّيَاحْ...
رفضَ الذُّلَّ ، ولمْ يَرْضَ الخَنَا...
مَزَّقَ الإغْرَاءَ: عمدًا والرَّخَا ،
جاءهُ المَالُ وفيرًا كالمَطَرْ ،
فرماهُ ، واعتلَى مَتْنَ الصَّلاحْ...
وعلى أحلامِهِ رَفَع اللوا:
رايةَ التوحيد ، والهَدْي الشِّريفْ
لكنَّ الرايةَ في قوم سُكَارَى
مِنْ بَريق المالِ حَاكَوا ألفَ بُهتانٍ صُراحْ ،
وكذا حاكوا مِنَ الزُّورِ البَواحْ
أَلفَ تضليلٍ يُغشي كُلَّ أَنوار الصَّباحْ
فامْشِ في الأنوار وَحْدَكَ يا صَديقِي
إنَّمَا الكلُّ ضبابٌ وسَرابٌ يا رفيقِي ...
ضيَّعَ الأجدادُ مِنْ قبلُ عُرى المجدِ العَريقِ...
وكذا الأحفادُ يَجتثونَ آمَادَ الطرِيقِ...
مُقْلَةَ الأحلام ، مَاذا سيقولُ الناسُ عَنِّي؟
سيقولُ القومُ: إنِّي بعْتُ عَيني
لسرابِ الشِّعرِ ، والآهاتُ تمثيلٌ مُقَفَّى...
أيُّها العينُ ، هُراءٌ ما يُقالْ
وتخاريفٌ تُداجي ، وأباطيلُ يُحَليها الضلالْ
وهُراءاتٌ كعزيفِ الجنِّ أو هَزْلِ العِيَالْ...
إنَّما نُورٌ بعينٍ يتجلَّى ، ويُغنِي ،
أخذتْهُ الرِّيحُ والأهْوالُ مِنِّي...
فرثيتُ العينَ بالشعرِ
لأنَّ الشِّعرَ مِضماري وفَنِّي
وعلى جَمْر دمائي وسُهَادِي
عشتُ أيامًا يُغَطي مِنْ أسَاهَا العَجْزُ وَجْهِي ،
وأنا في الكرب وحدي....
أيها العينُ أجيبي عَنْ سُؤالِي:
ما يقولُ الناسُ طيبِّهُم وسيئهُم أيا عيناهُ عنِّي؟
إنَّ في أعماقهم سُؤلاً يُداجِي
ويُحابي ، ويُناغِي ، وأنا مِن حُسْنِ ظَنِّي
أحسَبُ الغدار منهم مِنْ صِحَابي
سيقولُ الناسُ: هل بالشعر يُشرَى كلُّ شَي؟
هلْ بهذا الشعر تَبني في دُنا الأقوام بَيْتًا؟
هل سيأكلُ مَنْ تعولُ ـ اليومَ ـ شِعْرا؟
هل تُغطيهم مِنَ البَرْدِ الرَّهيبِ ببيْتِ شِعر؟
هل تكيلُ المَالَ للأولاد بالوزْنِ العَروضِي؟
وصُواعُ الشعر هذا هل سَيكفي
للذي تحتاجُ زوجُكَ مِنْ رِيَاش؟
هَل ستُسْكِنُ الأَولادَ والزوجاتِ في أبياتِ شِعر؟
أيها العينُ أجيبي كلَّ هذا في وضوح ، لا تُكَنِّي:
إنَّ هذا كلَّهُ زورٌ ، وإنْ لاحَ سَنَاهْ ،
وضلالٌ وانحرافٌ كأباطيل الغُفَاة ،
أو كآثارٍ على الرَّمْل لأسرابِ الشِّيَاة...
إنَّ هذا الشرعَ أكسيرُ الحَيَاة...
عِزةٌ أنْ يَخْرُجَ ابني للحياة
ليقول لجمع الحلق نصاً محتواه: هذه الأبيات غنَّاها أبي
هذه الألحانُ ألفها بريشتِهِ ومِغْزلِهِ ومِنْجَلِهِ أبي
ذلك الإيقاعُ طرَّزهُ ونمَّقَهُ وزخرفَهُ وهذبه أبي
ثمَّ يصغي من يريد الحق غضاً للفتَى....
فيقولُ العاقِلُ المقدامُ منهم: يَرحَمُ اللهُ أَباك.....
وسيأتي غيرهُ في التوِّ مسرورًا يُهَنِّي...
إنَّني أسألُ في عِتابٍ منْ يُداجي:
مَا يُريدُ بعد هذا المجدِ في دُنياهُ شبلي؟
أيريدُ العيشَ في القَصْر المَشِيد؟
أيريدُ المالَ والعِزَّ التلِيد؟
أمْ يُريدُ الوَحْلَ في قعْرِ التَدَنِّي؟
قدْ نسَجْتُ الشِّعْرَ جِلبابًا لهُ ،
وقصيدي في المَعَالِي والسَّجَايَا صُغْتُهُ ،
كلُّ هذا المجد قدْ طرَّزتُهُ ، وكذا الإشراقُ قدْ دَبَّجْتُهُ...
بعذابي ودعائي ودُموعي ودمي نَمَّقْتُهُ...
لو أردتُ المالَ بالشعر لضاعفتُ الغِنَى ،
ولمَّا كانَ افتقاري للبرايا مَعْلَما...
إنَّ هذا الأمرَ سهلٌ هَيِّنٌ
غيرَ أنِّي عَنْ حياتي كنتُ قدْ بَاعَدْتُهُ.......
أَيها العينُ كفاني ما أُلاقي مِنْ هَوَانْ....
كم دَفقتُ الحقَّ كالزلزال في سَمْعِ الجَبَانْ ،
وبذرتُ النُّورَ في كل مَكانْ....
يَشْهدُ الأقوامُ هذا والزَّمَانْ...
لَمْ أَخُنْ عَهْدِي ، وإنْ خَانَ الرِّفَاق...
وطعنتُ الغَدْرَ ـ جَهْرًا ـ بالسِّنَان ،
وشربتُ المُرَّ مِمَّنْ نافقُوا...
فتَخِذْتُ الصَّمْتَ سَيْفًا بعدَما بُح اللِّسَانْ...
ثم في قِرطاس شِعْري يَزرعُ النُّورَ البَيَانْ...
وترش النارَ فوق قِرطاسِي القِيَانْ...
وأريجُ الشِّعْر يَغلِي في الجِفانْ ،
بعدمَا آنَ الآوان ، وتوارت صَرختي في ظلام الصولجانْ
آهِ ، قد عزَّ الإباءُ ، وطابَ للدُّودِ الحِمَى ،
واستأسدَ السِّنُّوْرُ فِي دُنْيَا الوَرى ،
وَ«أَبيسُ» يَذبحُهُ الخُوارُ بِلاَ عُرَى ،
واسترجلت في ساحنا الغِيدُ الحِسَان ،
والناسُ قد باعوا الجِنَان ،
ورضُوا بعَيْشِ الذُّلِّ ، وانجَابَ الأَمَانْ...
وإذا بالعِلْم مَقْطُوعُ الوَريد ،
بَعدما دِيسَت بكل ضَرواةٍ قِيعَانُه...
وإذا بالدَّابَةِ العَجْفَاءِ تأكلُ فِي الهُدَى
وكذاكَ تلتهِمُ الفطاحِلَ مَنْ مَضَوا ،
وتَدوسُ مِنْسَأةَ البَيَانْ والأضاحيكُ توارت بعدما عزَّ الحنانْ
وأقولُ: مَاذا يا دجاجلةَ الهَوانْ...
الحق سوفَ يُبيدُكم وبِرغْم طَنطَنةِ الجَبَانْ......
وأنا أُسائلُ فِكرتي وقَريحتي:
فأقول:ُ مَاذا خلفَ أشرعةِ القَضَا؟
مَاذا تُخبِئُ ـ يا تُرى ـ أيَّامُنَا؟
حتى مَتى في الدار يَنْعِقُ يا تُرى هذا الجَراد؟
وإلى مَتى أفعَالُ أغربةِ الهَوَان؟
مُقلةَ الخيراتِ ، يا عِزاً مَضَى:
أعلِني بقضاءِ مَوْلانا الرِّضَا ،
واستسلِمِي للهِ ، كُونِي قُدْوةً ،
لا تَقْنُطِي أَبدًا فإنَّكِ فِي الرَّزايا صَابِرة ،
فاستفيقي من كوابيس العذاب الجائرة
أنت في الدنيا إباءٌ ومَضَا...
فلمَاذا لا تُحبِّينَ القَضَا؟
إنَّمَا الآمالُ في الدنيا سَبيلْ...
والأماني مُقبلاتٌ ، ليْسَ يَكفِيها الفَضَا...
فلمَاذا الحزنُ دومًا ، والجَوَى؟
عَيْنُ كُفِّي الدَّمْعَ هذا واصمدي ، إنَّمَا العُمْرُ مَضَى...
كنتُ فِي المَاضي أحِنُّ إلى البَقَا ،
وأُسَلِّي النفسَ وَسْط الصَّحبِ لا ألقَى عَنَا...
كنتُ أتركُ مَنْ أساءَ ولمْ يكُنْ مُترفِقَا...
كُنتُ أحيا للجميع كشَمْعَةٍ تَهْوَى السَّنَا ،
وأزخرفُ الظِلَّ الظليلَ على جِدار شِبيبَتِي ،
وأعطرُ الذكرى بمِسْكِ المُلْتقى
كانَ حبي للحياة مُتوجًا بترفُعي...
فأرى الجميعَ بكل نفسٍ راضية...
وأُحِبُ في دنيا الأنام جمَالَها ،
وأمتعُ العينَ ، وأشدو للحَياة...
إنَّ نَجْمَ العُمْر صَعْبُ المُرْتَقَى...
فَلِذَا آثرتُ سُكْنَى خَيْمَتِي...
بعد أنْ عَزَّ اللِّقَا...
كيفَ يا قلبي الذبيحُ تَحَوَّلَتْ بِكَ هِمَّتِي
أصبحتُ كَمًّا مُهْمَلا
وعلى جبين الحُرِّ تنفعلُ الكآبةُ والبُكَا...
يا نفسُ هلْ لك مَوئِلٌ؟
قولي: وهل لك فِي الرزايا صَدْرُ خِلٍّ لَيْسَ يَخْذُلُ مَنْ أَحَبْ؟
آهِ مَا أقسَى جوابَك عبرَ هالاتِ الشَّقَا...
يا نفسُ ماضِي العُمْرِ ولَّى ، فاصْمُدِي...
كنتِ خيرَ النَّاسِ حَزْمًا وإباء واحتمالاً ومَضَا ،
فإذا بالحَزْم ولَّى ، وإذا بالعَزْمِ أرداه الأَسَى ،
وإذا بالكهْفِ ضاقتْ سَاحَتُهْ ،
وَإذَا بالكَون أَمسى ظُلَّمَا ،
وإذا بالكوخ أضحى أضيَقَا ،
وإذا بالكيد أودَى بالصِّحَاب وبالرَّخَا ،
وإذا بالحُزن يَبني قلعةً فِي مُهْجَتَي ،
وإذا الحَاضرُ سيفٌ ليسَ يَرحمُ بَائسًا ومُضَيَّقَا ،
وإذا بالصَّحْب آسادٌ تُمزِّقُني بدونِ هَوادةٍ ،
وإذا بالجُرحِ أمْسَى أعْمَقَا....
أيُّها المَاضِي رَحَلْتَ ، فهلْ تَرى لك عَوْدَةٌ؟
أمْ قد فَقَدتَ ببحر حُزني المَرْفَأ؟
اسْبَحْ إليَّ إذا عَدِمْتَ الزَورقَا...
ابحثْ ـ فدتْكَ الروحُ ـ عَنِّي تَلْقَنِي
في مَأزقٍ صَعْبٍ يُدمرُني ، ويُرسلُ في الدَّياجي مَأْزقَا...
أبدًا تُداهمُني الخطوبُ ، وليس يَسمعُني الوَرى ،
وكأنني «رُخٌّ» بأيدي مَنْ طَغَى
يَترفع الشِّطْرنجُ عنْ تجريحِ مَنْ قد أسلَمُوا...
لكنِ الصَّخْرُ الذي في قلب خِلِّي ليْسَ يَسمعُ صَرْخَتِي...
يَتقاسمُ الأصحابُ عِرضِي في الوَرَى
وعديمُ الوُدِّ منهم قد أبادَ البَيْدَقَا...
ثمَّ أقبلَ مِنْ جَحِيم الَّليلِ يلبَسُ خُوذَةً ،
وتَوارَى فِي نِفاقٍ باهِتٍ...
ثمَّ بَاغَتَنِي بضربةِ غادرٍ ، واستباحَ الفَيْلَقَا ،
ثمَّ مِنْ غِلٍّ يُقطِّعُ قلبَه
حَطَّمَ النُّورَ الزكيَّ المُشْرِقَا ،
وأزالَ العَزْمَ ، واجتَثَّ الضِّيَا...
آهِ مِنْ حِرْباءَ تُظْهِرُ حُبَّنَا
ثمَّ تُضمِرُ في سُويداء الفؤاد لهيبَها المُتَحَرِّقَا....
إيه يا دنيا فغري غيرنا
نحن أدركنا في الدياجي سَيرَنا
وقطارُ الرحمة أركبُه ، بعدَ الفجْرِ إلىَ الكُلِّيَّة...
وله مَرْأًى عذبٌ عذبْ...
فالأقوامُ كمِثْلِ السِّربْ...
وأقابلُ رُفَقَاءَ الدَّربْ...
مِشْوارُ حياةٍ مُزدهرٌ ، يَذْهَبُ في مَسْرَدِهَا الكَرب...
وكفاحٌ لا يخبو أبدًا ، مِثلُ النَّجمْ....
والعُمْرُ على هَامِش دربي....
يَهْزأُ بالمَلهَاة الكُبْرَى
لا يَعرفُ أبْعَادَ الخَطب...
عشْرةُ أعوامٍ يا قَومِي:
أدرسُ فيها لُغَة الغَرب...
وتعلَّمتُ حَيَاة الجِّدْ...
كمْ أغرتْنِي فِتَنُ الدُّنْيَا...
وتحداني فيها الرَّيبْ...
بيْنَ ذَواتِ الكَعْبِ العَالي...
وكِعَابٍ أَتقَنَّ فُنُونَ العُجبْ...
بِعْنَ الدِّينَ ، وبعْنَ التَّقْوَى ،
وتعلمْن ضُروبَ الحُبْ ،
وأسرْنَ العَزْمَة واللُّبْ...
هنَّ نِتَاجُ البِيئَةِ هَذي...
يومَ تخلَّى عَنْ تربيةِ البِنْتِ الأَب ،
قدَّمَها في سُوق الهَزْلِ نظيرَ دراهمَ مَعْدُوداتْ...
والمجتمعُ الغارقُ في آبارِ الذَنبْ...
والكُبَراءُ ومعبوداتٌ شَتَّى ، عُبِدَتْ في سَاحَاتِ العُريْ...
يومَ تنازلَ عَنْ توجيه فتاةِ الجيلِ شُيوخُ العِلم...
يومَ امتلأتْ بالعفن الفنيِّ دماغُ فتاةِ الجيلْ...
عجبًا: كيفَ يُباعُ العِرضُ ليُمْلأَ بالأموالِ الجيبْ...
ونَصحتُ كثيرًا ، لكِني لمْ يُسمعْ لِي...
قيلَ تكلَّمْ سَنةً ، لنْ تلقَى مَنْ يَسْمَعُ لكْ...
كانَ نذيري يَملأُ نفسي ، لكني آثرتُ الصَّمتْ...
قلتُ لنفسي: كُفِّي هذا ، وتخلِّي عَنْ نُصْحِ الرَّكبْ...
فالمَوْجَةُ عارمةٌ تلفَحُ مَنْ يَقتربُ ويدنو...
إنِّي أزعمُ أنَّ دمارًا سَوفَ يُزيلُ الفتنةَ هَذِي...
لكِنْ ، في طيَّاتِ الغَيبْ...
سُنَنٌ لا تتخَلَّفُ أبدًا ، تأخذُ مَنْ أَفْسَدَ بالغَصْبْ...
تَنصِبُ ميزانًا للخَلقْ...
وتُحاسبُهم: فردًا فردا...
عشتُ الأربعةَ مِنَ الأعوام ، وسِرْتُ بقلبٍ عَطبْ...
وضَعَتْ كارثةُ الآثام بقلبي رِيحَ الحَربْ...
ومَشيْتُ ، وكُلِّي ذَنبْ...
وتجندلَ ـ عبرَ صِراع القِيَم ـ الأَرجُ العَذبْ...
وتحطَّمَ في آماد الوَهْم العُمْرُ الرَّطبْ...
وغزا قلبي رغمَ صِبَاهُ الشَّيبْ...
وصَدقْتُ ، وغيري أتقَنَ فَنَّ الكِذبْ...
سَمَّنْتُ ضُروعًا مُلِئَتْ بالأخلاقِ العُلْيَا...
ثمَّ لغَيْري طَابَ الحَلبْ...
وأُريقَ دمي في طُرقاتِ الكَيدْ...
وحَلا للسَّافِكِ دمِّي النَّدبْ...
عجبًا: كيفَ يموتُ الليثُ ، ويَعلو في دُنيانا الضَّب؟...
وتَذكَرتُ هِوَايَةَ صَيْدي ، بعدَ العَصْرِ ، وحتى اللَّيلْ...
ومعي الوالدُ ، آخذُ شِصِّي ، أجلسُ فوق جُذوعِ السَّروْ...
أضعُ الطُّعْمَ ، وآخذ في تَسليَةِ النَّفسْ....
فإذا وُضعَ الشِّصُ بماءِ التُّرعَةِ قالتْ شَفَتِي: باسمِ الله...
أوقاتٌ كان رَفِيقَ النفسِ عَلى هَامَتِها الشَّدْوْ...
فإذا اصطادَ الشصُّ تعَالىَ ، أخذ الشِّصَّ الزَهوْ...
وأفقْتُ ، فلا يأخذُني السَّهوْ...
فإذا ذكرتْ شَفَتِي عِرضَ أُناسٍ ، قالَ الوالدُ: هذا لَغوْ...
فإذا اصطادتْ شِصُّ الوالد ، أخفى ما أعطاهُ المَوْلَى...
كانَ يخافُ العَين ، فيرى أنَّ العَيْنَ تُعكِّرُ صفْوَ العُمرْ...
وتُعكِّر نَظَرَ العِين ْ، وتُعكِّرُ كلَّ صَفَاءِ الجَوْ...
بلْ واللهِ تُعكِّر حتى صَوْتَ الصَّفوْ...
بلْ وتُبدِّدُ ما أُعطِينا ، لا نَضْمَنُ مَعَها النَّجوْ...
وشربْتُ ـ صغيرًا ـ مِنْ أخلاقِ الوَالِدِ كُلَّ طِباعِ البَدوْ...
ونَهَلْتُ مَعينَ الحَفوْ...
عَلَّمني الجِّدَّ إباءُ أبِي ، جَنَّبَنِي فِي العَزَمَاتِ الَّلهوْ...
فنشأتُ عِصَامِيًّا صَلْدا...
حتى لو كنتُ بعيدًا عَنْ راحلتي ، عَنْ أَغنامي ،
عنْ أرض الرَّعْيِّ ، وعن رُمْحي والدَّلوْ...
وأخذتُ الهَدْيَ بما أُوتيَ عَقلي مِنْ قُوة....
لمْ أعرفْ طبعَ الأنثى أبدا...
وعلى أقراني كنتُ الأولَ دَومًا ، ما كانَ لغَيري الشَّأو...
وأُحبُ الفَرَسَ وصوتَ الخَيلِ ، وإنْ لمْ أغْزُ...
لكن نفسي ـ أبدًا ـ لَهفَى...
وتُحدث قلبي بالغَزو....
هلْ ذاكرةُ الشعر تُخبِّئُ هَذا...
وجواب سؤالي هذا: إِي ، لا غَرو...
لكنِّي لا أحفظُ شِعْرِي ،
أَجْهَدُ فيهِ ، وأُعطرُهُ ، وأهندِسُهُ ، وأرتِّبُهُ ،
وأنمقُهُ ، وأزخرفُهُ ، لكنْ أبدًا لا أحفظُهُ.....
وذكرتُ طفولةَ مَنْ يَنتقمُ مِنَ الحيوان ، بِغَيْرِ هَوادَة....
والنفسُ العُدوانيَّةُ فيه تُثيرُ الضِّحْكَة....
صاحبُنا يَذْبَحُ قطًّا ،
أو يقتُل طيرًا، يَنْسِجُ حَبْكَة...
أو يَرمي فوق مياه النهرِ الشَّبَكَة....
يَصطادُ كثيرًا مِنْ أسْمَاك النَّهر...
يرمي الأسماكَ سريعًا ، واحدةً تِلْوَ الأخْرَى...
تبقَى ـ في جَعبته ـ سَمَكة...
يَأخُذها ليُقطِّعَها بالسِّكِّين...
أو يَضربُ كَلبًا يَتعقبُهُ...
يضعُ الأغلالَ بأرجُلِهِ ، ويُمزقُه في الأحشاءِ بشَوْكة...
أو يُوقِدُ نارًا ليُحرِّقَهُ ، ثمَّ يقومُ بدفْنِ الفَحمْ...
ويُكبِّرُ أربعَ مِثْلَ إِمَام الحَيِّ...
أو يَشنُقُه حيًّا بالأحبالِ ، ويَضربُ بالكُرباج الجُثَّة...
أو يَقطعُ مِنْهُ الَّلحْمَ الزائدَ في أعضاءِ الجِسم...
عَجَبًا: كَيفَ يُنظِّمُ هذي الحَبْكَة؟
عجبًا ، عجبًا ، طِفْلٌ يَفعَلُ هَذا؟
عجبًا ، طِفلٌ فِي رقَّتِهِ مِثْلُ الزهرةِ يَفعلُ هذا؟
يجري خلفَ البَطَّةْ ، يَقذفُها بالحجر البَاغِي...
فإذا مَا جُرحِتْ عَالجَهَا ، وإذا ما كُسِرَتْ طبَّبَها...
وإذا سَلِمَتْ مِن ضَرْبَتِه ، نادَى رُفقاءَ جَريمَتهِ...
وزَّعَهُم بجهاتٍ شَتَّى ، أعطاهُم أحْجَارَ الخُطَّة...
وجَرَى خلف البَطَّة...
فإذا مَا مَاتَت غَسَّلَهَا...
ثمَّ غَشَتْهُ التَّقْوى فَوْرًا...
فيُكَفِّنُها ، ويُلَحِّدُهَا...
وإذا كانَ لديهِ ضَحَايَا أُخرَى...
ألقَى البَطَّةَ فوْقَ السِّكَة...
أو أسْكَنَهَا جَوْفَ البِرْكَة...
عجبًا: طِفلٌ مِثْلُ الوردةِ يَفعَلُ هَذا؟
يَمضُغُ عَيْنَ البَطَّةِ مِثْلَ العِلْكَة....
لوْ لمْ أفعلْ هذا ، ما صَدَّقْتُ ، ولو في الرُّؤْيَا...
حتى لو قالوا: يَحْدُثُ هذا في الأحلامِ لقالتْ عينِي كُفُّوا...
هذي حقًّا بِئْسَ الإِفْكَة.....
رمضانُ الماضي مَرَّ ، وعيني في آفاق الكَربْ...
وصيامُ بقيةِ شَهْري كانَ مَعَ الأحزانْ
وأتى رَمضانُ القادمُ مِنْ طيَّاتِ الغَيبْ...
لكن واأسَفَى مَا زالَ العَيبْ...
لم تذهبْ آلامي أبدًا ، لكن ذهبَتْ عيني...
ورأيتُ الدنيا: نِصفًا فِي غيَّابَة جُبْ...
أقصِدُ في واحةِ ماءٍ تبكي الدنيا...
والنصْفُ الآخرُ مُحترِقُ الأحشَاءْ...
يا ويحَ العينِ مَضَتْ مِنْ غيْر مَضَاءْ...
والقلبُ الدامعُ ـ رغمَ الأُلفَة هذي ـ يَبكي...
يا ماضِيْ العُمْرِ تمَهَّل ، ارحلْ ، دَعْنِي وحْدي...
دَعْني في الدَّمْعَة وحْدي...
دعني لكروبي وحدي...
إنَّ الرحمَنَ مُعَوِّضُني...
وأنا أطمَعُ في (جَنَّاتٍ عند المولى ، كم فيها أنهار تَجْرِي...)
ولِذَا يَا شِعْرُ فإنِّي أبْذلُ صَبْرِي...
وأسَلِّمُ للمَوْلَى أمْرِي...
ما كُنْتُ أُريدُ خِتامَ قصيدِي هَذا بِالأَحْزَانْ...
لكنِّي ـ دومًا ـ أَصْدُقُ فِي شِعْري...
ومَصيري هذا مِنْ تجربتي ، أَجْرَعُهُ وحْدي...
أحْزانُ الغُربة هذي لحْدي...
مَطبوعٌ فيهَا مُنذُ المَهْدِ...
عفوًا يا عِطْرَ الشِّعرِ فَذَا مِنْ سُهْدِي....
عُذرًا يا عَيْنُ وعفوًا: أنتِ قَضيتِ علَى تَرنيمَةِ عُمْرِي...
قَدرُ المَوْلى لا تلتاعي سوفَ نُعوَّضُ يا آنسَتِي ...
قدرُ اللهِ ، وإنِّي راضٍ ، وأُسلِّمُ أمْرِي...
لكنْ حُزْنٌ داهَمَ قلبي ، ثمَّ عذابٌ حَطَّمَ قَلَمِي...
غلَبَ الحُزْنُ مِدَادَ القلمِ...
رفعَ الكربُ لِواءً مِثْلَ العَلَمِ...
والناسُ سرابٌ حوْلي....
والشعرُ يُعاني مِنِّي....
والأوزانُ تُعاني مِنْ أفكارٍ  تَذْبَحُ قلمي...
يا تيَّارَ الوَهْم ، ويا ميعادَ شُجُونِي...
هذا قدَرَي ، مِمَّا كسبَتْ يدُ مَحْزُونٍ في دنيا الخَلقْ....
يا هذا الشِّعْرُ الحُرُّ ، إليْكَ وَداعِي...
قد كانت هذي أولَّ مَرَّة....
وأكررُ ثانية: هذي كانتْ أولَ مَرَّة...
وأراهَا آخرَ مَرَّة....
بَرئتْ مِنْكَ دواتِي الخَجْلَى
بَرئتْ مِنكَ يَرَاعَةُ شِعْرِي...
برئتْ مِنْكَ شُمُوعُ الأَملِ الدامع عِنْدَ بُزوغ الفَجْرِ...
برئت مِن أوزانكَ هذي إيقاعاتي وقتَ السَحَرِ...
برئت منكَ شَكاتي النشوَى عند العَصْرِ...
آخِرُ يومٍ أكتبُ فيه الشِّعْرَ الحُرْ...
وكذلك آخرُ دَمْعٍ أبذُلُهُ بالشِّعرِ الحُرِ...
ودمي لنْ أكتبَهُ ـ صدقًا ـ بالشِّعر الحرِ...
إنِّ الشِّعرَ الحقَ بَريءٌ مِنْ لاشِعْرِي هذا...
عُذرًا ، يا عنترة الشِّعرِ ، ويا مُتنبي...
فالعينُ الحَرَّى تلكَ رِدَائِي...
لا تسألْنِي يا عنترةَ الشعرِ ـ هُنا ـ عَنْ  ذَنْبي...
وأعودُ إلى الأشعارِ أُكرِّرُ أسَفِي ، وكذاكَ أُكرِّرُ عُذْري...
وخِتامًا يا شعرُ إليكَ شَكَاتِي ، وتَحِيَّاتِي...
صَدِّقْني ، كانتْ هَذي ـ يومًا ـ زَلَّة...
لنْ يُصْبِحَ شِعْرِي مُثْلَة...
لنْ أسمحَ ـ أبدًا ـ بكتابةِ شِعْرِ الذِّلَّة...
لنْ أتمادَى في سِرداب الشِّعْر الحُر...
وسَوْفَ أُطِلُّ على نافذةِ الشِّعْرِ العَرِبي...
وسأحْيَا أُنْشِدُ شِعْرَ العَرَبِ.......                                                         مهما كاد قساة القلب ومنعوا شعري....
وحفيدٌ من أحفادي سيغني شعري...
وسينشره في طبعات شتى.....
ويحققه وينقحه ويبين للناس المعنى....
وسيشرح كل غوامضه....
وأنا منتظرٌ في قبري....
وأقدِّم للجهبذ شكري....
أني لم أستصحب بعد وفاتي شعري...
لم يدفن في لحدي شعري....
هذا يكفيني يا قومي...
وإلى اللقيا يوم النشر.....

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن احمد علي سليمان عبد الرحيم

احمد علي سليمان عبد الرحيم

1954

قصيدة

احمد علي سليمان عبد الرحيم ولد سنة 1963 في بورسعيد لاسانس اداب لغة انجليزية يقوم بتدريس اللغة الانجليزيه لجيمع المراحل هاوي للشعر العربي من 40 سنة له دواوين 24

المزيد عن احمد علي سليمان عبد الرحيم

أضف شرح او معلومة