وإني أحبك رغم الشتاء
يكنز من الثلج زوابع هوجاء
في قفص صدرٍ منذور
منذ أحقاب ودهور
قربانًا مسجى على مذبح الشقاء
آه يا أسيرتي الكسيرة الحوراء
كل الأحاسيس تجمدت بأعماقي حدّ الفناء
وحبكٌ نابضٌ كالوجع، متوهجٌ بلا انتهاء
كأعمدة الخلقِ في أقاصي السماء
حيث تولد النجوم…
حيث تغرب الأنواء
وإني أحبك رغم الشتاء
وما فيهِ من حزنٍ سقيم النداء
يبعث في الروح شهوة النهاية
على هيئة حلمٍ بالسقوط الساحر
من شفير الهاوية
تماماً كمقتلِ الصعاليك الملطخ بالدم والخِراء
في الملاحم الحزينة ومآسي الشعراء!
مغرياً بالتردي الشاعري من جبل شاهق
مثل تهاوي النسر المنكسر
أجنحة تالفةً في ظلامٍ بلا انتهاء!
وإني أحبك رغم الشتاء
مقيمًا مثل أجنةٍ تأبى الخروج والولادة
إلى هجيرٍ أقفر من واحاتِ السعادة
يتلهى كالعفاريت بالتهام لحوم الأبرياء!
وإني أحبكِ رغم الشتاء
المتناسل في الروح مثل الفقراء
زاحفًا مثل هراطقة عراةٍ تستجدي يد العطاء
مضمرةً نوايا السوء كالسمّ في عسل الرياء
لتسرق من معاطفنا الرثّة المثقوبة الذكريات
ما تبقى من الحنين…
ما تبقى من دفء الضياء
فما بمقدور الرجل المهزوم نزفهُ من هبات
سوى كنوزٍ زجاجية، من شظايا البكاء؟!
هل كنّا فاسدين في زيّ الأتقياء
لنحرم من درب الهداية للسماء؟
متبخرين مثل البيد من ماء الصلاح
حد التشرنقِ بوشاح الظلمة كالأشباح
كائناتٍ معتمةِ السحنة والأتراح
لا يقطرُ من هالتنا ظلُّ مصباح!
وإني أحبك رغم الشتاء
يغزو القلب بلا رحمة
كمستعمرٍ تحكمهُ النقمة
مدججٍ بوهم التفوق والاستعلاء
مثل وحوش الغربِ وجيوشهم البيضاء!
يدفن الروح الرازحة تحت الغمّة
بجباليدٍ صامتةٍ بلا أصداء
سارقةً من حقائب الضمير
نعماء الشفقة والنقاء
مغتصبةً من جرار المُحيّا
كلّ ما تبقى من ماء الحياء
***
كانت أدمعك نجماتٍ من ضياء
تهدي ضلال الروح في الظلماء
بيد أني ما أضمرت لك يومًا الإيذاء
ولم أعمد الإساءة لضفائرك السوداء
ما قصدت مثل الجاحدين للسماء
استسقاء غيمكِ في ليالي الخفاء
حد جفافكِ بلا رجاء، خرقةً بالية
بلون الخريف وظمأ الصحراء!
كنت تقولين بأني "الجليد"،
وما لي من سبيل للشفاء!
وأني أسير عزلةٍ لا تعكرها أشباح الحكماء،
مثل فاكهةٍ متعفنةٍ جافة، في تابوت مومياء
مثل آلهةٍ لا تعرفُ عاطفة
مثل أصنام لا تجيب دعاءً أو تلبي نداء
ومثلي في كتب الأمثلة، مثالُ آلةٍ بلهاء!
مجرد ماكينة مبرمجة على مداهنة الظلماء
بيد أني لست الجليد، ولست الحديد
ولست الصقيع لسنابل قمحك البيضاء
ولست كل ما عدا ذلك من أسماء
ولست شيئًا من دنيوي الأشياء
جلّ ما في الأمر أني حلمُ عقلٍ وحيد…
أنا المجهول في غابة الشياطين والأنبياء!
أعلم أني محاربٌ مخذول،
في قلب الرمضاء
بلا سيف أو بندقية
بلا عصبة من الأوفياء
لذا تدفعين خطيئة انهزامي
كما تجبى الضرائب من الفقراء!
جلّ ما في الأمر أني أرتكن إليك
كلما هطلت أمطار السماء
أنتِ وجهة بوصلتي الوحيدة
في السراء والضراء…
مثلاً بمثلٍ وسواءً بسواء
لذا تلوّثك سمومي المستنقعية الخضراء
تفسد طهرك المجنح بملائكي الضياء
كما تفسد ليلة عرسٍ براءة فتاةٍ عذراء!
ربما تنفلتُ الكلمة الجارحة الزعراء
مثل الكلاب المسعورة
لتفاجئ كبدك الحرى
مثل العطش الغادر بطريد الصحراء
مدوّيةً بشظايا الغيظ والإستهزاء
تنسلُّ من أحاسيس قهري وانفجاري
إزاء أحاجي أبي الهول المسحورة
والأزمنة الحبلى بالروث والخواء
ربما تسقط الكلمة مثل الأسقف المنهارة
لتحول ما بيننا، وتكسر جسرنا،
أمطارًا منهمرة، من مطارق انكساري
لا لقصد مني بتمزيق الهوى إربًا وأشلاء
بقنابل يدوية الأحرفِ ملغومةً بوحلِ الهُراء
ولكنما أضرار جانبية من وطيس حرب أفكاري!
مثلي مثل المنتج المعطوب في مصنع الحياة،
ما شفي طين فخّاري، من قمائن ناري
لذا أثور كالأحرار المنهزمين،
جراء الأمور التافهة الصغيرة
ومثل كائنٍ من نار، مصنفٍ في خانة الشياطين
أغتذي شمس الظهيرة
حالمًا بأفكارٍ محرقة منيرة
تشعلُ جماجم المتحجرين الأسيرة،
بحقيقة الوجود العلقمية العمياء
بالفكر الساقطِ عمدًا من تراجم الحكماء!
آه إني جنديٌّ أحاربُ بالأعماقِ الأرض والسماء
ولذا أنفجرُ كثيرًا ما استُحْضِرتُ لمسرح الأحياء
مثل مهرجٍ منكوبٍ في أفلام الرعب السوداء
تطارد لعنتهُ سلالة قاتليهِ إلى جحيمٍ من فناء!
أن تجاهد دوماً نفسك وعفاريتها الشريرة
في أبعادٍ وعوالم مختلفة النكهة والسيرة
مأساةُ وجود تستدعي مقل الدمع إلى مآتم البكاء!
دوماً وللأبد
مثل الكنوز والجواهر في مقابر أشعاري
مثل جثث أسرارٍ وهياكلٍ مُغبرة صفراء
أخبئها بالرّفش المكسور كقصائد قيثاري
وحيدًا في عتمة الليالي أحفرُ عقر داري
لأدفنها كطوي الحقيقة في جوف العلماء
دومًا وللأبد
كنت ومازلت شمس نهاري،
في أساطير الفراعنة ومصدر القوة والنقاء
مركز الأهمية في أسطرلاب ناظري،
يا قبة سماواتي، والنجمة الوحيدة في خاطري
يا من عشعشت راسخةً في جذور أفكاري
كما تأصلت في قلب الإبليس خطيئة الكبرياء
ما همّني لو آل بي الهوى إلى دماري
ما دامت أفلاككِ تسبحُ لاهيةً في بحر مداري
وحدك من يغمرني مثل روح ترفُّ فوق المياه
بمشاعر حبٍّ ما خلت مطلقًا في أعماق قراري
انتماءها أو وجودها، رسومًا في كراريسي السوداء
أو نقوشًا بين طيات دفاتري،
الغارقة في وحل اللاانتماء
دوماً وللأبد، أنت يا فتاتي الحزينة
مثل التحف الثمينة، على الأرفف المكتظة العفنة،
بطحالب الحقد والضغينة، في مكتبة مشاعري
تلك المكتبة القديمة، المحنطة بعناكب الازدراء!
المكفنة باليأس والألم، وكافور الحرمان والهجاء!
أنتِ الأقاليم والأقطار
التي يحلمُ بالهجرة لها العاطلون عن العمل
أنت المدن البعيدة الوضاءة الأقمار
التي طرقت شوارعها العابقة بالأحزان،
باحثًا كالفئران عن الأمان، في رحم منزل
حبي الذي لا يعوض، حين يسرقهُ الزمان
كمثل مكتبةِ الإسكندرية وبغداد
قبل قيصرٍ والمغولِ وألسنة النيران
وعالمٍ لا تدنسهُ وحشية الروم أو همجية التتار
أنت لي في نهاية الترحال وخاتمة الأسفار
أوطاني الوحيدة في متاهة التيه وحكاية الأزل
ملاذي الأول والأخير، من كابوس الفشل
حيث أفلت الزمام وأنيخ مطايا الرحل
بلا رويةٍ رغم اغتراب الروح في أسر الأجل
آه يا قلعتي الصغيرة، يا قفير النحل
على كوكب الأرض الحقير
حيث تطاردني الغيوم السود لتمطرني بالزلل
كنت دومًا مشردًا ما وجد سواك فسحةً من أمل!
أعلم أني في غرامكِ طيرٌ أسير سعيد
وإن كانت تعوزني مهارة التغريد
فما الضيرُ يا دراقتي
إن أعظم الحبّ وحيٌ وإيحاء
وإني مفرطٌ في العشق مثل البلهاء
وكما تفرط النساء في نزف البكاء
متيمٌ ببحار عينيكِ المظلمة السوداء
ومهما كتمت الهوى في سويعات اللقاء
أظلّ محبًّا رغم الصمت الغريب
وكلّ ما فيه من شبهة بجنسِ البخلاء
إني على عهد الهوى التليد
مهما استحلتُ في مسرح الوجود دميةً بكماء
إني على قيد العشق العنيد
ولو خانت الألسن روحًا هي مقبرة الشعراء
جلّ ما في الأمر أني قريب بعيد
أخاف الاستكانة للأفراح والسكينة
ولذا أحارب دومًا بفردانيتي طواحين الهواء!
هي الحقيقة مهما وأدتها
مثل جاهلي يشتهي لقب الشرفاء
أنا في بحر العلمِ لست بالأمر الكثير
كلما تعمقنا انتهينا جهلاء!
هشةٌ ذاكرتي في مختبر الأحياء
فما خبرتُ شيئًا من تجربتي
وضاع العمر النفيس هباء!
كلّ ما أعرفهُ أني مدنفٌ صبٌّ أسير
في قواقع حبكِ حتى النفس الأخير
يا من صبرت على أسل بطلاني
رغم ضروب المشقة والعناء
رابطة الجأش مهما جررتكِ
مثل إنسان حقير
نحو هاويةٍ من دياميس الانتهاء
مثل طفلة بريئة،
تأسرها قصة الوحش والحسناء
تشبثت مثل خالص المؤمنين
بوهم أني رجلٌ قد يساقُ إلى الضياء
يقينًا لم أكن أستحق منك آيات الرثاء
ولا أستحق حفنةً من المغفرة
لأني كنت دومًا سيد الأكاذيب البيضاء!
وإني أحبك رغم الشتاء…
أحبك… رغم الشتاء
62
قصيدة