عدد الابيات : 59
ركِبْتَ طريقاً والطريقُ طويلُ
فتابِعْ مساراً ليسَ منهُ بَديلُ
أرَدْتَ المَسَارَ الصَعْبَ فانْعَمْ بمائِهِ
ومِلْ عَكْسَ ما كانَ النَّسيمُ يميلُ
وتابِعْ خُطىً ما سارَ أهلُكَ فوقَها
فإنّ الذي في العُمْرِ ظلَّ قليلُ
شرِبْتَ شرابَ العابثينَ بِراحِهِمْ
وأوشكْتَ مَمْـنُوعَ الثِمارِ تطولُ
فتابِعْ طريقاً لو تموتُ بنُصْـفِهِ
سيمشي بهِ جيلٌ وراكَ فَجيلُ
بَكَيْتُكَ عُمْراً لن يعودَ ولا أنا
لعَوْدَةِ عُمْـرٍ مِنْ سواكَ أميلُ
ثلاثينَ عاماً قد أضَعْتَ بلحظةٍ
وستّينَ مِيلاً والمَسافةُ ميلُ
بَكَيْتُكَ عُمْراً قد مَضَى بدُموعِهِ
ولستُ طَمُوحاً في الحياةِ تطولُ
رَضِـيتُ مِنَ السَّيْلِ الذي كانَ جارِفاً
بأنّي على أرضِ العِراقِ أسِيـلُ
وقلتُ لنفسي لنْ يَزولَ مُعاكِسٌ
لأيّامِهِ لكنَّني سَأَزولُ
ظنَنْتُ حَياتي لا خِتامَ لِمِثْلِها
وها هي دقّتْ للرحيلِ طُبُولُ
وها هيَ شمسٌ ما حَسِبْتُ أُفولَها
يَجِدُّ بها قبلَ الأُفولِ أُفـولُ
وكُنْتَ طَمُوحاً أيْنَ مِنكَ مَرابِعٌ
وسِرْبُ قَطاً وحَمائِمٌ وخيولُ
أضيّعْتَها مثلَ السنينَ أَمِ الّذي
سليلُ عِظَاتٍ للضَّياعِ سَلِيلُ؟
وأينَ اللّواتي هُنّ في كلِّ ساعةٍ
لَدَيْكَ نَذِيرٌ أو عَليْكَ دَخِيلُ؟
تَجاهَلْتَ أيّاماً وأنتَ مُواكِبٌ
حوادِثَ تسْـرِي والمَسيرُ ذمِيلُ
تحَمّلْتَ حَمْلاً لا خفيفَ وراءَهُ
لأنكَ مِنْ قبلِ الرِّحَالِ ثقيلُ
لأنكَ حتى لو ندِمْتَ ستَنْتَهي
فليْسَ إلى العهدِ القديمِ سبيلُ
أتُنْكِرُ ضَيَّعْتَ الكثيرَ؟ أناكِـرٌ؟
فهاتِ دليلاً لو لديكَ دليلُ
مَشَيْتَ طريقاً لا سبيلَ لِعَوْدَةٍ
ولا مُنْتَهى للقاصِدينَ يَؤولُ
مَشَيْتَ طريقاً سوفَ تمْشِيهِ واحِداً
وأدنى الذي قالوهُ فيكَ عَمِيـلُ
عَمِيلٌ لِمَنْ؟ للهِ؟ تلكَ حقيقةٌ
لكلِّ فروعٍ في الحَياةِ أُصُولُ
لعِبْتَ طويلاً ليسَ في العُمْـرِ وِجْهَةٌ
أجَلَّ سِوى يَغْشى هواكَ جَليلُ
لهُ الحمدُ ما للمُعْصِراتِ مُسِيلُ
سواهُ ولا للمُعْصِراتِ مُزيلُ
وألْفَيْتُ نَفْسِي واحداً بمدينةٍ
بَقَايا طُلُولٍ هل تَرُوقُ طُلُولُ؟
مُضَيِّعُ أحبابٍ وفاقِدُ موطِنٍ
وفي كلِّ يومٍ وِجْهَةٌ ورَحِيلُ
تغيَّرْتُ يا أُمّي تغَيَّرَ منْظَري
وما عادَ لي بينَ الوجوهِ قَبُولُ
ومالي إلى ما كنتُ بالأمسِ طامِحاً
طُمُوحٌ ومالي رغبةٌ ومُيُولُ
تغيَّرتُ يا أُمِّي كثيراً وموقفي
كما هو عندي مبدَأٌ وأصولُ
وما عُدتُ أسْتَعْصي أمامَ عواصِفٍ
ولا عُدْتُ قبلَ الصائلينَ أصولُ
تغيّرَ مِنّي الوجهُ حتى مَلامِحي
تغيّرَ منها مُرسَـلٌ وجميلُ
وحتّى عُيوني الضاحِكاتُ تغيّرتْ
وصارتْ بأوقاتِ السّـرورِ تَسِيلُ
وإنّي ولا أُخْفِيكِ يا أُمَّ سالِمٍ
أُريكِ صحيحاً والصّحيحُ عَلِيلُ
وأكثرُ ما يُؤذي جِراحي تَجاهُلٌ
وأكثرُ ما يُدْمِي الجِراحَ جَهُولُ
ولكنني رُغمَ المُذِلّاتِ أزْدَرِي
سِياطَ الأذى ما مِنْ بَنِيكِ ذَلِيلُ
تَغَيَّرْتُ يا أُمِّي تَغَيّرَ مَطْمَحِي
وها هو فجْرُ الطامِحينَ أصِيلُ
وها هيَ آفاقي تنُمُّ برَجْعَةٍ
وها هيَ شمْسٌ عن سَمايَ تَزولُ
وقَلْبٌ بما أشْقَيْتُهُ باتَ واضِحاً
بدَقّاتِهِ شاخَتْ لديْهِ فُصولُ
وصِحَّةُ حالٍ ما صَعِدْتُ لِقِمَّةٍ
وأشْرَقْتُ إلّا في قِوايَ نُزُولُ
وترجُفُ منّي في الثّبَاتِ أصابِعي
فليسَ بها للدَّانِياتِ وُصولُ
وأرْضِي الّتي كانتْ حدائقَ بابلٍ
خرابٌ ومِنْ كلِّ الجِهاتِ مُحولُ
نعَمْ لم تعُدْ عندي لِضَيفٍ حكايَةٌ
وما كانَ لي في النّاطِقينَ مَثيلُ
نعمْ لم تعُدْ في الرُّوحِ ومْضَةُ طارِقٍ
ولا خَضِلٌ يَكْسُو السُّفوحَ نَخِيلُ
تَغيَّرْتُ فِعْلاً والطِّباعُ تَبَدّلَتْ
وصارَ الّذي يُعْطي اللِّقاءَ يَحُولُ
وما عادَ في نفْسي لأيِّ تَزاحُمٍ
مِنَ النّاسِ مِثْلَ الآخرينَ شَمُولُ
تباعَدَ عن دربي صديقٌ مُقَرَّبٌ
وأسْرى بظَعْنِ المُخْلِصينَ زَميلُ
قَصُرْتُ أنا؟ أمْ طالَ كلُّ مُعاصِرٍ
أمِ الناسُ أمْ عودُ اللِّداتِ طويلُ؟
كثيرونَ أحبابي بحَجْمِ مقاصِدي
ففي كلِّ يومٍ في سَمَايَ نزيلُ
رَمَيْتُ جِرانَ العُمْرِ فوقَ رِمالِهِمْ
فما اعْشوشبَتْ مِمّا رَمَيْتُ حقولُ
وعُدْتُ ألومُ العُمْرَ وهْوَ يلومُني
فأرجوكَ يا عمري القصيرُ تطولُ
تخونُكَ في الصيفِ الظِلالُ وينطوي
جَنَاحٌ بأيَّامِ الشتاءِ خَذُولُ
كأني بأسرابِ السنينَ تطايَرَتْ
وما عندَ صيَّادِ السنينَ بديلُ
رجَعتُ لِأسْمالي التي كنتُ هازئاً
بها يا لساني ما تشاءُ تقولُ
تكاسلْتَ عنْ لَحْنٍ تُجيدُ وعَن فَمٍ
تقودُ فمَنْ بالدّارسينَ مُعيلُ؟
فشُكْراً لدُنيايَ التي أيْنما أكُنْ
تكُنْ حائِلاً تُقصي بنا وتُقِيلُ
وشُكْراً ليومٍ مِنْ صَلافَةِ صاحِبٍ
أجَلُّ ويومٌ طيِّبٌ وخجولُ
وشُكراً لكلْبٍ مِنْ نَجاسةِ حاكمٍ
أقلُّ وكلبٌ مُخْلِصٌ ونبيلُ
وشكراً لِدَهْرٍ مِنْ قلوبِ أقاربٍ
أرَقُّ ودَهْرٌ ناعِمٌ وجميلُ
وشُكْراً لِمَنْفاي المُطيعِ وغُرْبَتي
وشُكْرِي لأيَّامِ العِراقِ جزيلُ
52
قصيدة