أَيُّهَا الْوَطَنُ
ابْتَعِدْ عَنِّي –رَجَاءً–
كَيْ أَغِيبَ دِقِيقَةً
وَأَعُودُ أَحْفُرُ فِي حَيَاتِي
لِأُعِيدَهَا شَيْئًا فَشَيْئًا لِلطَّبِيعَةِ.
أَمْشِي إِلَى الْقِنْدِيلِ فَوْقَ الْجِسْرِ مُبْتَهِجًا
لِتَعْبُرَ أُمْنِيَاتِي
لِلْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ رُوحِي
وَتَسْكُنُ غَابَةَ الطُّرُقِ السَّرِيعَةِ.
أَيُّهَا الْمَخْفِيُّ فِي الْمَبْنَى
وَفِي الْمَعْنَى
بَيْنَ الْعُشْبِ
وَالْجِذْرِ السَّوِيِّ
لِصُورَةِ الْحِنَّاءِ
فِي كَفِّ ابْنَتِي
وَسُعَالِ جَدِّي.
أَيُّهَا الْمَحْظُورُ فِي كُتُبِ الْخَلِيقَةِ
الْمَنْشُورُ فِي لَوْحٍ يَطُوفُ عَلَى مِيَاهِ الْغَمْرِ.
هَلْ أُغَادِرُ شَاطِئًا رَسَتِ الْمُلُوكُ عَلَى شَرَائِعِهِ
وَحَاصَرَهُ الْجُنُودُ؟
لَا شَيْءَ أَخْسَرُهُ هُنَا
فَالنَّهْرُ مِلْكِي وَالسَّمَاءُ لَهَا حُدُودٌ..
وَالْأَرْضُ لِلْعُشْبِ الطَّرِيِّ
وَإِنْ عَادٌ بِهَا عَاثَتْ
وَإِنْ بَادَتْ ثَمُودُ.
الْبَيْتُ مَفْتُوحٌ لِرَائِحَةِ الطَّعَامِ وَعِطْرِ سَيِّدَةٍ تُغَنِّي طِفْلَهَا:
أَيُّهَا الزَّمَنُ اقْتَرِبْ مِنِّي رَجَاءً!
كَيْ أَغِيبَ لِلَحْظَةٍ وَأَعُودَ أَحْفُرُ فِي الرِّمَالِ
لَا اسْمَ يُرْضِينِي لِأَكْتُبَهُ عَلَى ظَهْرِ الْهِلَالِ.
فَلَا الْغَرَانِيقُ الْعُلَى يَكْفِينَنَي زَمَنِي،
وَلَا وَطَنًا يَلِيقُ بِغُرْبَتِي!
جَدِّي مِنَ الْأَنْبَاطِ فِي كُوثَى،
وَأُمِّي مِنْ بِلَادِ الشَّامِ..
كَنْعَانِيَّةٌ... حِنْطِيَّةٌ
تَحْثُو التُّرَابَ عَلى جَبِينِ الدَّهْرِ.
وَتَحُوكُ شَالًا لِلْوَلِيدَةِ قَبْلَ مَوْلِدِهَا
وَأَحْيَانًا تُطَرِّزُ ثَوْبَهَا بِالْوَرْدِ.
كَانَتْ صُدْفَةً أَنِّي وُلِدْتُ هُنَا..
وَآلَيْتُ الْبَقَاءَ عَلَى تُخُومِ الرِّيحِ
قُرْبَ عَاصِمَةِ النَّسَاطِرَةِ الَّذِينَ تَنَاسَخَوا دُوَلًا وَقُرْآنًا.
آلَيْتُ أَنْ أَبْقَى لِأَسْمَعَ صَوْتَ أُمِّي
وَأَبِي يُبَارِكُ قَارِبَ الصَّيَّادِ فِي نَهْرِ الْفُرَاتِ.
عِنْدَ الصَّبَاحِ يُعِدُّ قَهْوَتَهُ
لِيَسْقِيَ سِنْدِيَانَ هُمُومِهِ.
فِي لَيَالِي الصَّيْفِ
يَأْتِي الْجُبَاةُ لِيَكْتُبُوا أَسْمَاءَنَا
وَيَأْخُذُوا عُشْرَ الْخَلِيفَةِ
وَالزَّكَاةِ.
يَصْحُو التُّرَابُ...
يُخَبِّئُ الْكُتُبَ الْقَدِيمَةَ تَحْتَ جِلْدِ الْأَرْضِ
يُعِيدُ تَرْتِيبَ الْحُرُوفِ لِمُصْحَفٍ
قَالُوا بِأَنَّ عَلَيْهِ آهَاتُ ابْنِ مَسْعُودِ الصَّحَابِيِّ
الَّذِي لَمْ يَبْقَ مِنْهُ سِوَى سِيَاطٍ فِي خَبَايَا ظَهْرِهِ
وَصَلَاتِهِ... كَالْوَشْمِ.
يَسُوقُ رُعَاةُ الْحِكَايَاتِ قِطْعَانَهُمْ
إِذْ يَنْتَهِي الْأُفُقُ...
يَسْتَحِيلُ رَمَادًا
وَتَأْتِي قُرَيْشٌ بِفُرْسَانِهَا
لِتَأْخُذَ حَقَّ الْإَلَهِ وَفَائِضَ قِيْمَتِهِ.
يَقْتَحِمُونَ سُلَالَ الْخُضَارِ
وَلَا يَتْرُكُونَ سِوَى قَلَقٍ مُزْمِنٍ فِي عُيُونِ النَّهَارِ.
الْجُبَاةُ يَعُودُونَ دَوْمًا إِلَيْنَا
لِيَخْتَبِرُوا صَبْرَنَا.
أَنْتَ، أَنْتَ هُوَ الصَّبْرُ
فِيكَ بِدَايَةُ هَذَا السَّرَابِ وَبَاطِنُ كَفَّيْهِ.
وَمَا دُمْتَ حَيًّا وَتَمْشِي وَلَوْ زَاحِفًا
فَأَنْتَ لَنَا وَاحِدٌ أَحَدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ.
24
قصيدة