هبطت الطائرة في مطار لندن وطار قلبي ليعود فورا إليك ... هدأت محركاتها وانفجرت في داخلي محركات الشوق تهدر ... ولحظة وعيت كم أنا بعيدة أدركت ربما للمرة الأولى إلى أي مدى أحبك .. وتدحرج رأسي في ممرات المطار _ مثل كرة هوجاء _ يصطدم بكل الجدران .. قيل أن أرحل قلت لنفسي : لطيف وعذب أن اتذكرك وأن أشتاقك ! قبل أن أرحل قلت لي : يكفينا أننا نقطن كوكبا واحدا ويشرق علينا قمر واحد .. أيها الشقي أي جنون كان أن أرحل فأنت لم تعد شوقا عذبا لقد نبتت لذكراك في نفسي أنياب ومخالب جارحة ... طويلة ليالي الفراق ممدودة على طول قارتين ... والتنهدات تعوم في الظلمة الشبحية مثل غريق شهقاته احتضار ... ها أنا اتسلق شجرة الذكرى .. واقتحم مدينة الحلم .. وأضرم الحرائق في روتين الشرعية لتحتلني رياحك ... وأنطح صخرة الوضوح والمنطق بخصب الشوق ... في اصبعي ما يزال أثر حرق لفافتك هاهو دليل محسوس على اننا كنا معا " حقاً " اعلق مشنقة كلمة " حقاً " حبنا فوق الأدلة المادية وسابق لها كالإيمان ! .. الجمعة الحزينة وأنا العاشقة الحزينة وأنت مصلوب داخل جسدي وأمامي في المقهى ( عاشقان ) انكليزيان جداً وأمامهما صفحة الكلمات المتقاطعة ! وكلما انتهيا من حل كلمة يقبلها ببرود كما ينظف أسنانه وبعينين مفتوحتين حتى آخرهما تتأملان التلفزيون خلفها !... يقبلها بلا نبض ثم يعودان إلى حل أحاجي الكلمات المتقاطعة بحماس لو مست شفتاك عنقي هكذا لانصهرت لخرج الضوء من اصابعي ولفاحت من جسدي رائحة البخور .. لو ... جلستي هزلية في القطار إلى اسكوتلندا ... وجهي عكس اتجاه السير وعيناي مثبتتان على الجنوب على الجبال التي نخلفها وراءنا بينما أنا امعن ابتعاداً عنك .. راحلة إلى الغد وجهي إلى الماضي عيناي على أيامنا الهاربة وظهري للمستقبل وقد استحلت صنما من الملح ! الكاهن الذي تصادف وجوده إلى جانبي حذرني : ستصابين بدوار بدلي مقعدك أيها الكاهن : فات الأوان . فات الأوان . التقينا بعد الأوان وافترقنا قبل الأوان حتى موسم الهرب فات أوانه نحن موسم الحب المجنون المرفوض من مواسم الشرائع ... أتذكرك في نيو كاسل وأضواء المدينة الصناعية الصفر الحزينة في ليل بلا قلب تخثرني جلطة في عروق الليل ... لو ينفجر هذا الليل المحتقن لو تخرج ماكينات الدينة المرعبة عن قوانين الفيزياء فتبكي معي وتصنع حرير القز المبلل بالدموع شفافا كأغلال الشهوة ... موجع أن تنام في مدينة صناعية حين لا يكون قلبك مضخة حين يكون قلبك فراشة مغروزة بدبوس إلى جدار الفراق وعبثا تخفق أجنحتها وأرحل ومن أقصى الشمال أناديك والريح تسخر بي على شواطىء الأطلسي وأنا أعاني مخاض حبك والفجر كسر قارورته وظل الأطلسي مظلما وعدوانيا يتهدد بتدمير كل قوارب نجاة العشاق .. وكل محاولات القلب للعبور ذلك العربي الذي أسمى الأطلسي " بحر الظلمات " تراه كان عاشقا مثلي ؟... آه لو تنكسر مرآة الشوق وتتفتت صورتك فيها ... ليستريح قلبي _ الصخرة من كلابات الذكرى التي تتسلقه في عتمة الليل برشاقة السجناء الهاربين ... آه لو يغمى على الذاكرة .. على شواطىء " بحر الظلمات "
غادة أحمد السمان كاتبة وأديبة سورية.ولدت سنة 1942م، في دمشق،ضمن عائلة شامية عريقة. والدها أحمد السمان الذي كان رئيس جامعة دمشق كما استلم منصب وزير التعليم السوري لفترة قصيرة، ووالدتها ...