بني… بني… ستلاحقك الخطايا
بني… بني… الأوراق تسقطْ،
كحبات خَرزٍ من عِقدِ الحكايا
تحبلُ بها عتمة الزوايا
ونمضي مكبلين مثل السبايا
إلى غابة الخريف بمُجْهَضِ الأحلام!
هو القحط أوبئةٌ تصيبُ الروح نُذُرًا بالمنايا
كأن الوقت يُفسدنا ويَلدغُنا مسموماً بالحِمَام
آهِ يا لحكمة من أسمى يدَّ الساعة عقرباً
لفرط ما غدرت بالإنسانِ في كبد الظلام
كم من عظيمٍ مثلي أمسى نسياً منسيَّا
في جوف المقابرِ كومةً بالية العظام؟!
***
بني، هل كنت تحلم مثل أبيك،
بزهرة حمراء في صحراء آسيا
تتفتحُ بتلاتها معجزةً بمستنقعات يديك
تُزهرُ لك وحدك دون قاطبة البرايا؟!
كنتُ أحلمُ بزهرةٍ حمراء
تبزغ كبقعة دم ٍ على ثلج الصبايا
لتحرق أكواخ الوحش المهزوم
وتنوّم جثمان الكهلِ المحروم
بلا حاجةٍ إلى منوّم الأقراص!
بني، هل كنت تحلم مثلي بالخلاص
من شبح صفصافةٍ سومرية
عُلقت عليها مشنقة القصاص؛
على أغصانها ناحتْ حمائم الرزايا؟!
هل كنت تحلمُ بعالم مطهرٍ من البلايا؛
نقيّ كالألماس،
من دنس العنصرية والانتقاص؟!
أحياناً تسوقنا الأحلام
لهاوية ٍ ليس منها مناص!
***
بني… بني… ستلاحقك الخطايا
وأنت مثل أبيك، وحيد بين البرايا
وما من خلاص من ظلال الجريرة
سوى أن تصعد الجُلجُلة، بعين بصيرة
مثل مسيح ينادي بآيات السلام
يحمل بنفسه،
على ندبات ظهره، صليب الآلام.
بني لا تنظر إلى الأرض الحقيرة
مطأطئ الرأس في حيرة
وانظر ملياً إلى النجوم في قباب السماء
إن الشقاء موروث في جينات السيرة
لكن سحر الحلم من جنس الخفاء
لا يتراءى سوى للحالمين الأولياء
آه تلك النجوم كم اشتاق بريقها،
كنت أراها وأعشقها
ثمَّ ما عدت أراها…
هل مازلتُ أعشقها؟!
آهِ فقدتها، منذ حرمت من عناق السماء!
بني تذكر ما سأحكي،
بين ثغرات صمتي
وإن تَغبَّر قولي في سحيق الأيام
مهما استحلنا بين الأنام
بلا حيلة كحشرات حقيرة
بأحشاء هذا العالم الموبوء باللئام
ما من معين لنا سوى أنفسنا
وإن أمست ضعيفة ضريرة
في غابة الضجيج والزحام!
***
كن خيراً مني وتطلع إلى نداء الأمام
لا تذكر ماضٍ أصدأته حكاياتي
ولا تمشي على آثار خطواتي
فالوحلُ كان دروب أبيك والمستنقعات
وكان أبوك حزينًا ومخذولًا بلا أغنيات
مهزومًا في لعبة الحظ يرغب بالانتقام
يتشهى الجريمة كالوغدِ في حالك الظلمات!
آهِ، أجل. لابد لي أن أعترف بالهزيمة
لذا كان لي قلبٌ يتشهى الجريمة،
بكلّ ما تحويهِ من حياة،
في ضجيج تلك اللحظات، أشتهيها،
كجرذٍ وغدٍ يترصد أرصفة الطرقات
في دامس الليالي وحالكِ الظلمات!
إنَّ في الجريمة بعدًا عميقًا غامضًا
تتفجرُ فيهِ نبضات الحياة!
آهِ، كن خيراً مني ما استطاعت الزفرات
ولتمسك قبضتك بزمام الآتي
اصنع طريقك بألوان حياتك وأقلام الأحلام
لا تبحث في مقابر الذكرى عن رماد رفاتي
لن تنمو على قبر أبيك الأزاهر والريحان،
لن تجد سوى لوثة العقل في تابوتي
تقتات عليها الأرواحُ الملعونة والديدان
أرسم أقدارك وحدك؛ إنّ يديك ريشةُ رسام!
***
لقد ظلمتك كثيراً… كثيرا ً...
يا صغيري الصغير
ظلمت أمك في وضح النهار
وظلمت إخوتك الصغار،
كنت دوماً يا ولدي طاغية حقير
أنا كائن ساخط، غاضب غضباً كبير؛
عقل حانق يثور ولا يرتضي المصير
تلك خطيئتي التي تقض مضجع الضمير؛
إن في أعماقي يقبع مخلوق شرير
ولا أصلح أن أكون أباً؛
إني ظلٌّ مظلم لا ينير،
وحبل صبري قصير
وفي قفص الصدر الكسير
يرقدُ قلبٌ مكسور رجيم؛
شيطانيٌّ يغلي كنار السعير!
بني… بني… تلاحقني الخطايا
تلك الخطايا كأنها هياكل العظام،
قديمةٌ ومقبورةٌ عن ذاكرة الأنام
لكنها مثل المرض الخفي السقام
مثل الشبح المتوشح بزيّ الظلام
تنسلُّ من شظايا المرايا
حالمة بانبعاث الروحِ كيومِ القيام،
كطعنة غدرٍ في مأساويّ الحكايا
حتى الأخطاء الصغيرة
ترفض أن تموت أو تنام،
تطاردني حتى بقعة الحبر في المنام
وقد لطخت مخطوطتي من سعال الأقلام...
تطاردني الصنابير الصدئة،
في ظامئ البيداء
تشكو للرب بمكلومِ الأفئدة،
ما تسرب من قطرات ماء!
في ساعة مولدك الزكية،
في السحر الرباني لتلك الأمسية،
كنت أحلم أن أزرع القناديل الفضية
أشجارا تنير لك الدروب بحكمة أبوية
لكن الوقت مسموم، ودقائق الساعة الرملية
ما أسعفتني في مضمار الرزق والمعارك اليومية
كان محتوما أن أكدح بلا روية، كماكنة حديدية
حتى تستنزف طاقتي الجسدية، وقوايَّ الروحية
أسير وظيفة تُغرّبني، تشرنقني بأغلال العبودية
لم أكن حكيماً ذا بصيرةٍ من صالحِ الحكماء،
لم أكن قيصراً حقيقيا في مسارح الصحراء،
آهِ لم أكن كما ينبغى،
روحًا حرةً بين رقيق الأحياء!
***
إن الدنيا لاعب أراجوز
ونحن في مسرح العرائس الدمى
والحكيم من ينجو من خيوطها… يتسامى
فوق أوهاق القطيع،
ليبحث عن الشمس في بحر الصقيع
بيد أنك تمسي وحيداً بين غربان الأنام
بلا معين بين وحوش الخلق مثل اليتامى
في ملجأ الأيتام!
لقد استقرأت النجوم في وهج الثريا
ما من أحد يعلم شيئا
مهما طال انتظار المنايا
فاحذر أكاذيب الندامى
إن الإنسان بفطرته يضمر سوء النوايا
آه، ما أخرس الحقيقة في ألواح الوصايا
ليست الحياة عيد ميلاد يفاجئنا بالهدايا
ثمة ساحرة متضوّرة ٌ في كوخ العطايا
لن تمنحك السكاكر إلا لتطهوك بالآثام!
أواه يا بني، لقد قرأت القدامى،
نقبت عن العبرة في بئر الحكايا
وسهرت كالدودة البكماء
التهم أضابير الحكمة وكلمات السماء
احفظ النصوص المقدسة، واقتبس الفلاسفة الشعراء
وقديماً ناجيت الله بالصلوات والأدعية
كما ناجاه عبده زكريا، إذ ناداه نداء خفيا
لكني نسيت ما قرأت؛ فقدت جواهر الحكماء
وكانت مآربي دنيوية، تقص أجنحة الدعاء
وسجدتي مسكونةً بالوساوس الشيطانية
رغم حبي لأقاصيص الأنبياء
ولذا لم أصبر في طريق الهداية
ولم أكن أهلاً لأحمل بين الناسِ آية
فقد حدت عن الصراط المستقيم،
وراء سطوة التبر اللألآء
لم أصن في مناجم القرارة روحاً ماسية النقاء
كنت ملوثاً بالشهوات والأفكار العاصية
والإثم يكسوني كالثلج في عواصف الشتاء
كالسّخام يرتدي سحنة المشردين الفقراء
ولذا لا أستحق المغفرة
ولا أستحق منك مراثٍ من بكاء.
***
أضحت قسوتي فولاذية السهام
من يحدثني يصاب بسمِّ الكلام
لقد جرحتك أقوالي كثيرًا وعذري
ليس في الحق عذرًا؛ إني ملام
أنا كالأفاعي... أنا إنسانٌ سام!
ما عاد شيء يُسعدني في الوجود
ما عاد شيء يشرح صدري
سوى أن أرى الكون دماراً حطام!
الندى الدامع العذري
كحبات لؤلؤ تنثال من محبس العقود
ما عاد يرفع لي في الفجر راية السلام
ما عاد يشرق شمساً على صبيحة أوراقي
ليسقي شرايين الروح بالأنغام
والمأساة مخطوطة رسمت أحرف عمري
بلا فصولٍ خطّت لتروي قهقهة أو ابتسام
ولأن قلبي لا يفقه لغة الموسيقى
أمسيت طاغية يرتاع منه الطغام
بني… بني… تلاحقني الخطايا
وفي ساعات السقوط العمياء
في البئر المظلم للرزايا
عندما تنتقم مني هذه الدنيا الشمطاء
أرى وجه إيفان الرهيب
وهو يبكي محتضناً جثمان فتاه،
يطالعني في انعكاس المرايا!
يحلمُ بالمعجزات… بالنجاة
من لعنة العود الأبدي للحادثات
هيهات… هيهات… هيهات…
دوما الزمان، بكاثرينيّ العجلات
كفيل بجباية الضرائب
وأثمان الخطيئات!
62
قصيدة