الديوان » باسل الحجاج » دكتور جيفاغو يكتب القصيدة الأخيرة ويودع الأحلام - الجزء الثالث والأخير من ثلاثية لارا

لارا، روحي متعبةٌ من شحم القوافي، تائقةٌ إلى الصيام

ربما تكون هذه آخر الأشعار التي أكتبها إلى يوم القيام

لذا أفكر في الله، في الحبّ، وفي وجودٍ لم يعرف السلام! 

والقصائدُ تنسابُ في قناني دمي، تنفجرُ مجراتٍ من الآلام!

أيها الصمت الموقوت، سأرقد في مقابرك وحيداً أبكماً لأنام

في هدأة المومياء أو الأميرة النائمة منذ مئة عام

مثل طفل مضنكٍ خرف، فقد الرغبة في تعاطي الكلام

سأترك أقلام الشعر الفائضة، تجفّ في ركنٍ خريريّ السلام 

مثل ملابس رثة، هُجِرتْ وليمةً تلتهمها فراشات العثة،

على حبلِ غسيلٍ غزلتهُ يدُّ النسيان! سأكسر قيثارة الألحان،

فما جدوى تُرَّهات الفكر والفلسفة، من كائنٍ ناقصٍ فان؟!

تالله إن هو إلا حديث أصدافٍ خاوية تحيا خطيئة الكبرياء

تروي سيرة محارة فريدة، حبلى بألف مليون لؤلؤة سوداء

وصمتْ بالعفونة والقذارةِ والنجاسة، ولوّثها داء السويداء

إنَّا لو تأملنا قليلاً، ما كانت لآلئ الدنيا سوى مرضٍ سقام! 

أنا لست إلهً لأهب كلماتي هالة القداسة؛

ثم أراها منصوبة في العقول كالأصنام!

وليس العالم المسموم بضجيج الأنام

بحاجة أن أشاركه ما اقترفت من أحلام

أيُّ معتوهٍ يريد قيء قريحتي في ليل الظلام؟!

ففي الختام، ما استوعبت طلاسمي الأيام

لم يفهم الناس مقالتي، قالوا في كلامه إبهام!

وأغنيتي مثل امرأة حبلى مثقلةٌ بالأشواكِ والآلام!

 

على سريرك يا لارا، 

كنت أحلم في يقظتي أن أنام

ملتحفا بعناق جسدكِ الحلوّ الشهيّ الأثداء

مرتوياً من فمكِ العسلي المُدام!

كنت أحلم أن أكون نجمةً عجوزة، 

تومضُ بين ضفائرك السوداء

كما تولد الكلمة المضيئة، 

من احتضارة الروح ورحم الأقلام!

لارا، قديماً في طفولة العالم وريعان الزمان

حين أحببتكِ أول مرةٍ، قلباً يفيضُ بالأحزان

جرحتُ بأظفاري جذوع صفصافة

في منتصف الليل الموحش

ملعوناً بأصداءٍ سومرية الخرافة

لأبثَّ فيها لوعة الهوى وأنقش

أبياتاً من الشعر واهنة القوافي، مختلَّة الأوزان

خلت أني امتلكت سحر البلاغة وبحر الفصاحة

أنا الفتى الغرُّ الجبان؛ تعوزهُ شجاعة الصراحة!

كان ذلك في البعيد القصي من ماضي الزمان

قبل أن أهرم في مكاني مثل أشجار السنديان

وأبصر شعري عصيَّ الحفظ مسكوناً بالنسيان!

وقبل أن تختاري كسر قلبي بمطارق الهجران 

مغادرة قرانا المظلمة، بحثا عن حرية الإنسان!

آه يا لارا، في بقاع الأرضِ المقفرة العقيمة، 

كنت أحلم بظلال السؤدد؛ بشيء من القيمة

لكني ولدتُ في سنة كبيسة، والخلق قمامة؛ 

لا تفقه الأرواح الحكيمة؛ أما أنتِ فقديسة

آهِ يا لارا، يا ذات الروحِ الملائكية الرحيمة 

كان سوء طالعي يُضمرُ لي دوماً البغضاء والهزيمة

على مفترقات الطرق، وفي حروبي العظيمة

قدري أن أحيا فقيراً مغموراً؛ أكنسُ جثث الأحلام

مُسترقّاً يكدح في زنزانة الوظيفة؛ آه يا للموت الزؤام!

لكن النبض في الأعماق يأبى الاستسلام، فاليأس جريمة.

ولذا أرتقب مخاض بطولة ما، على غفلة من حشرات الأنام!

فهل تبصرين في ضرير الإصرار شيئاً من القيمة؟!

لارا، بكل أنفاسي، 

ألعن هذه الأرض القاسية البلهاء

حيث صقيع القلوب مرآةٌ 

تتفشى من صميمها رقعة الصحراء

فلولا فولاذ الأفئدة 

لأمسى كوكب الأرض جنات خضراء 

لارا، من قيعان أحزاني، 

ألعن اختلال المعادلة وكسر الموازنات

وأبصق على رأسمالي النظريات

والتوزيع الظالم الغبي للثروات، 

على يد حفنةٍ من الأثرياء

لكني لست شيوعياً ولا أؤمنُ بالثورات

ولا أحبُّ أن أكتفي بحياة الفتات، 

ولو استطعت، لسرقت كلَّ الجواهر والنجمات!

خيرٌ أن نفهم فطرة الخلقِ يا لارا… 

قابيل أصداءٌ تنشدها النبضات!

آهِ، ليس بالإمكان تغيير الحياة 

الفقر مصنع للبغايا يديرهُ الفقراء؛ 

ظنّا بأن كل العذارى عاهرات

والجشع يتخلل هندسة المجتمعات، 

ويشيد أدوارًا من بشريّ الطبقات

واللصوص في كل بقاع الأرضِ البكماء

يسرقون الخبز والأمل… يسرقون الحضارات

يسرقون البراءة والثقافة… وتمر الأثداء

ويسرقون لحمك ِ العاجي على غفلة مني...

يسرقون لحوم الأحياء! 

خطرات علقمية المذاق، تقض مضجعي ككوابيس سوداء

مُسهد القلبِ ألومُك على الهوى، ألست من اختار النوى؟!

وهل يلام ُ الفؤاد السليب على ما أذنبته غواية الحسناء؟!

لارا سامحيني، فقد كانت تخيلاتي ضارية بلا استثناء  

كانت جمرات الروح ترجمني؛ تحرق مخدعي بالبكاء 

وكنت من فرط لوعتي أخلع سربال الحياء

وكنت معشوقتي، رغم ما جازيتني من صد وجفاء

ولذا أتشهى أن أفعل بك يا لارا أرذل الأشياء...

لو اغتصبت عينيك ليسكنني الضياء!

لو عاقبت طين رمالك في ليالي الخفاء

مثل جلاد ليس في قلبه شفقة أو رياء؛ 

ذلك أني كنتُ عاشقك المتيم بلا رجاء!

لارا، إن الفؤاد سقيم لفرط ما اشتهى قطاف الأحلام

ماذا ينبغي على المرء فعلهُ للخلاص من أغلال الانهزام 

ماذا يتوجب على الرجل السيء الطالع أن يقترفهُ من آثام

كيما تذعن له مهرة الحياة العاهرة، تُسْلِمه زمام اللجام؟!

لست أبالي بالسعادة؛ وخواء الروح لا تشفيه كنوز الأوهام

سحقاً للحظ وسحقاً لمن باع روحه، عبداً للشيطان والأصنام

سأركن إلى كهوف الحكمة وأكتفي بالصمت جنَّةً من سلام.

عندما يتنفس الصبح بارقةً لميلاد عمر جديد، 

وأرى وجه السماء، كأنما لوحةٌ لأروع رسام،

طبعت بانعكاس الضوء على صفحة الماء، 

حينئذْ تصطف لأجل أحزاني بجعات بيضاء

سلالم ترسمُ درب التسامي إلى كنف الأنبياء

ريثما تُغرق العصافير قلبي بأنغامٍ عذبة التغريد

ساعتئذٍ ألمح بين الغيوم ظلال الرحمة تهطل كالمياه

وتعرشُ على أغصان القفص الصدري معرفة الله

نوراً يفجرني، رغم ضلال الكهولة، بطهر طفل وليد  

آه يا لتلك اللحظات كمصباح سحري، يوقد كوكباً دري

حيث تعبق زهرة الروح بعطر البراءة والطفولة!

يوماً ما، سيأخذُّ الموتُ بيدي؛ تلك اليد المغلولة 

ومثل طفلٍ رضيع في مهد قبري،

أسبل ستائر أجفاني وأنام، في سرمدي القيلولة

يوماً ما، سأمثل في حضرة الله، أنا المرصعُ بالآثام

أعلم أني لم أعبده كما ينبغي، ولكني لم أعبد سواه

بيد أني لا أنكر ضعفي، يعوزني الخشوع في القيام

ووساوسي كثيرة، تلوث برك العقل في شهر الصيام

بيد أني سأعترف بكلّ الخطايا، الخسائس منها والعظام،

أمزق في يوم الحشر صدري، طالبا الصفح والاسترحام

باسم أغصان في أزمنة البراءة والطفولة، عرفت يوماً الله، 

وسأبكي… أصيح ُ تائباً؛ أستجير من عذابه بِحماه

أنا الإنسان الشيطان، هل يا ترى فات الأوان؟!

أيها الرب الواسع المغفرة، رحماه… رحماه...

لارا، أحنُّ أحياناً لنزهات العقل القديمة في حدائق الأدباء

كنت في سنين دراستي، مثل دودة الأرضةِ البيضاء

ألتهم بأسناني الكتب المفسدة، وأسامر الفلاسفة الشعراء!

لكن ساعة الرمل انسلت من سطوتي وحلت الظلماء

وما عادت لدي طاقة بعد الكدح اليومي لهذا العناء 

أمسيت مكتفيا ً باقتنائها كالجواهر عربوناً للوفاء

فأنا رجلٌ مخلصٌ للماضي، كما علمتني وصايا الآباء!

لارا، أعترف أني بكثير من الحذر حلمت بالشهرة والأضواء

أن يكتب اسمي في سماء الأدب العالمي بألماسي الأنواء

بيد أن نصوصي موغلة في الأساطير فلا تستهوي الدهماء

وعزلتي في كهوف الفكر ومناجم الكدح مع مكفهر الفقراء

ما صنعت لي بين نخبة الإعلام أبواقاً من وفيّ الأصدقاء

في زمن أمسى الشعر فيه مهنة مندثرة آيلة لديماس الفناء!

لارا، أؤمن بالأخلاق ولكن لا أؤمن بالخلقِ؛ بني الإنسان

لذا آثرت حياة العزلة على ثغاء عقولٍ يعجنها الرهبان

في كهولتي الصدئة، أكتفي بمتع قديمة من ماضي الزمان

كأن أستعيد أهداف الساحر مارادونا، وأنا ابن الستة أعوام، 

في شباك الإنجليز والبلجيك، كأنها تحدث أمام عيوني الآن!

أنا يا لارا لا أحب المستعمرين، كائناً من كان!

 

في كهولتي الصدئة، أكتفي بمتع قديمة من ماضي الزمان

كأن أنصت لأغنية قديمة عن ألم الهجر والحرمان،

كان يعشقها أبي وأنا أتسلل خلف الأرائك كالجرذان! 

آه يا لارا لو عرفت أبي، لبكيت أبحرًا تغرق ُ الشطآن 

لارا، أنا رجل سيء وقاس على كل حال، 

متاعبي كثيرة، ولا أصلح ُ لتربية الأطفال

لذا لن ألومك بعد الآن، 

على اعتناق الهجر دينا من الأديان

خير لك أن تتركيني كماضٍ كان

تائها... مبحرًا... على زوارق النسيان

أقسم لن أعثر عليك 

ولو عثرت على ممالك الجان

ولن أجد درب الرجوع إليك

من محيطات الضباب والدخان

لطالما كنت يا لارا 

قرصانا ملعونا تعوزه مهارة الربان!

كنت شاعرا يا لارا بقريحة يكسر أوزانها اليأس والسعال

سفائن روحي تمخر بحر الشعر الهائج بقلوع من خيال

تنشد كوابيس الوجود على مسمع العالم الآيل إلى زوال

ولذا أبغضتني العقول النائمة وظنت شعري خرافة دجال

أين الغرابة؟ عالمٌ سفيه لا يقرأ سوى لغة التبر والمال!  

واللغة العربية، يا لهفي عليها، 

مأفونة وفانية، في حاضر الأجيال

آهِ يا لارا، بعد اليوم، في ميادين هذه الأرض اليباب، 

وأنا أنتظر قدوم المنية متسكعا على عتبة الباب

لن أقرض الشعر على أية حال، 

فحتام أصبر على عقم الآمال؟!

لقد أنشدت الحبّ بما فيه الكفاية، ورثيت هذا العالم الخراب؛ 

لن أنزف القصائد بعد هذه النهاية، إن الشعر صومعة الضلال

عاد القرين إلى وادي عبقرٍ وخلفني يتيماً كالثكالى يحصدُ الظلال! 

 
 

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن باسل الحجاج

باسل الحجاج

62

قصيدة

شاعر من المملكة العربية السعودية. صدرت له مجموعة شعرية بعنوان "النهر والغريب ومرثية الأقمار المتساقطة"

المزيد عن باسل الحجاج

أضف شرح او معلومة