السّادسةُ صباحًا يومًا ما ستَلدُ الأشجارُ أفواهًا جائعةً ووجوهًا تختلفُ في ألوانِها وأطرافِها وميّزاتِ التّناغمِ فيما بينَها ستَلِدُ بحرًا سنمكُثُ طويلًا على أغصانِها الفولاذيّةْ سنتعربَشُ طردًا للمللِ مِن ورقةٍ لأخرى ونتلذّذُ بأكلِ قلوب الجرادِ كحلوى نادرةْ ستلِدُ بحرًا لا ينقُصُه سوى الضّفافِ واليابسةِ وبعضِ الطّحالبْ لوحدِها ستجِدُ موطنَها إليهْ وكذلكَ البجعُ المفضَّلُ لأسماكٍ لم تهتدِ إليهِ بعدْ ننتظرُ أن تسيرَ بنا إليهِ أو يعودَ لها مِنْ جديدْ أقصدُ الشّجرةَ والبحرْ أقصدُ البحرَ الّذي لا يشبهُ بحرَ الشّيخِ فلا قرشَ هناكَ لسَرِقَةِ سمَكةِ «سانتياغو» ولا يجلسُ بالقربِ مِن بحرِنا غلامٌ ينتظرُ المُعجزةْ هل فكّرتِ يومًا في أنْ يكونَ البحرُ أنثى؟ هل راودَهُ يومًا ذاكَ الشُّعورُ بالخوفِ منَّا؟ هل يا تُرى تجرُحُه عميقًا السُّفنُ حين تناورُهُ وتُصيبُهُ القواربُ بالنّدوبْ؟ هل يشعُرُ بأنّنا ننتهكُ خَلوتَهُ معْ نفسِهْ؟ لا يهمُّني كلُّ هذا لستُ حزينًا لأجلِهِ لكنّهُ الضّجرْ لا أتساءلُ لأنّني أحبُّهُ ولا لأنّ صوتَهُ يُطربُني أو يُخيفُني هي مجرّدُ تساؤلاتٍ فارغةْ هل هي زرقاءْ؟ ماذا لو كانتْ أعينُنا تَستلهمُ لونًا مِن داخلِنا.. لا يعكسُ شكلَ الأشياءْ؟ لم يَثُرْ خارجَ حدودِ سُلطتِهِ عليَّ لم يمتعضْ حين رآني أُخرِجُ مِنْ جيبي... صَدَفةً لأنفُخَ فيها لم يتأفَّفْ حينَ فتحتُ مُذكّرتي وكتبتُ عليها: صادَفَني شيءٌ أحمقْ لم ينمْ كما الأطفالِ في رحلةِ العودةِ بدا مُتحمِّسًا لفكرةِ الرّكضِ دونما هدفٍ والمسيرِ دونما هدفٍ والذّهابِ إلى أيِّ مكانٍ وشيءٍ دونما هدفْ بدا مُتحمِّسًا أن يجلسَ واقفًا ويركُضَ جالسًا ويغنّي معي لنُزعِجَ كلَّ هذا الهدوءْ الحقيقةُ لم يغنِّ أنا مَن فعلْ هل حدّثتكِ عنْ بحرٍ لا يعرِفُ أينَ يسكنُ تحديدًا؟ هذا هو بحرُ البارحةْ تركتُهُ تائهًا في حواري المدينةِ خدعتُهُ أخيرًا لم يرتكبْ ذنبًا لكنّني تلذَّذتُ بخداعِهِ بشريَّتِي أمكَرُ منهُ ومنّي طريقُ عودتِنا مليئةٌ بالذّهابْ مليئةٌ بالعناوينِ الكاذبةْ هل حدَّثتُكِ عن بحرٍ لا يُجيدُ أيَّ لغةٍ ولهجةٍ وحوارْ؟ هذا هو بحرُ البارحةْ أُمِّيٌّ في عصرِ الحضارةْ كلاسيكيٌّ في زمنِ ما بعدَ الحداثَةْ يا صديقتي لم يكنْ بحرًا كما ظننَّا كانَ ماءً يتجمّعُ في مكانِ عميقْ مكانٍ كبيرٍ... فسيحْ كانَ ماءً يتوحَّدُ مِنْ أجلِ الزّعامةْ وبسطِ النّفوذِ وقتلِ السُّفنِ الغازيةِ والقواربِ المُنَاوِشَةْ كان ماءً لا يصلُحُ للشّربِ ولا للسَّيرِ عليهْ كانت أمُّهُ شجرةً ثابتةً في مكانِها منها تعلَّمَ الثّباتَ والاهتزازْ منها تعلَّمَ السّكونَ والضَّجيجْ لكنّهُ لم يتعلّمِ الوقوفَ مثلما يَجبْ كانت شجرةً لكنّهُ عقَّها في رحلةِ البحثِ عنِ الذاتْ قلتُ لكِ: لم يكنْ بحرًا كان ماءً فلمَّا تفرَّقَ بينَ القبائلِ ماتَ هناكَ وحيدًا تندهشينْ؟!... ماتَ إذن على دُفعتينِ لا تصدّقينْ؟! ماتَ كما يموتُ الخيلُ في نهايةِ السّباقِ لا تصدّقينْ؟! لم يمتْ إذنْ... لكنّهُ لن يعودْ.
" مظهر عاصف" أحمد علي عودة.
- شاعر أردني مِن أصول فلسطينية.
- من مواليد مدينة (عمان) 31/10/1980
- أعمال مطبوعة:
فلسفات جنازة (شعر)
هناك (شعر)
السّادسة صباحًا (شعر)
ما لم يقله أحمد عود