الديوان » صالح أبوناجي » سيرةٌ ذاتيةٌ للحزن

يا أكثرَ العمرِ يا عمراً من القِلّة
يخلو من العيش خاليها من الذلّة
ألقت على غدِها من أمسها مِثلَه  
كأنَّ تاليَها مسلوبُ مَن قبلَه  
قد جاء يَجزِمُهُ فاغتالَ مُعتَلَّه
يا أكثر العمر يا كل الذي نقَصا
ويا زماناً على إشقائنا حرصا
من كل مُحتَمَلٍ للسعد قد نكَصا
وأرخصَ الروحَ في الجسمِ الذي رخصا
فكان بعضَ الذي قد صارَهُ كُلَّه
قد قلَّ في الجدوى ما زاد في المُدّة
وكل مبذولٍ من أجله رَدّه
بعضاً من الشيء أو كلَّ الذي ضِدّه
كأنه مؤمنٌ في قلبه رِدّة
فلا يُبايع إلا مَن نوى قتلَه
كأنه النصفُ: لم يفلت ولم يزَلِ
في برزخ الغيب مذبوحاً على مَهَلِ
يُسامرُ الموتَ حتى ساعةِ الأجَلِ
ويدفن الحلمَ تِلْوَ الحلمِ في الطَّلَلِ
 بين الضحايا من "يا ليتَ" أو "عَلّه"
وجهان: موجوعٌ أو مَلَّهُ الوجعُ
يأتي شقيُّهما ما آخرٌ يَدعُ
لم يبقَ بينهما للحبِّ متسّعُ
كل الذي يمضي في الحزن مُرتجَعُ
في آخر السطر يبني أولَ الجملة  
بين اثنتين من الأحياء والموتى
مُرَحِّلٌ قلبَه عاتٍ إلى أعتى
ما ثَمَّ بينهما من مُشتَهىً يُؤتى
ذاتاهما انقسما في أوجهٍ شتى
إن ضلَّ مَيِّتُها عن حيِّها دَلَّه
كأنه بين ما يبغي وما بلَغا
كَرايةِ السلمِ بيضاءً بساحِ وَغى
تدعو إلى ظِلّها حينَ الجنون طغى
فلا يفيءُ إليها قطُّ مَن صبغا
راياتِ عزّته بنَزفِ مَن غَلَّه
مُستَهلَكُ العزمِ لكن يدّعي القوَّة
يواجه الدنيا بالنوم والقهوة
وينزعُ الحزنَ من أحشائه عُنوة
فما يزيد سوى أن يُوسِعَ الهُوَّة
ويجعلَ الداءَ في تطبيبه العِلَّة
الحزنُ تشكيلٌ للموت في صُعُدِ
في لحظةٍ أولى تجتاح كالأبدِ
محمولةَ الهمِّ في كينونةِ الجسدِ
تقتاتُ حصَّتَها من كل مُفتَقدِ
كي يلتقي فرعها في يأسه أصلَه
يهوى ويكره مَن في وجهه وقَفَا
اليومَ يُثبِتُ ما بالأمس عنه نَفى
والحزن سيدةٌ شُغِفت به لَهَفا
حيناً تُراوده.. حيناً تقول كفى
كأنها في صدِّ ما تدعو له طِفلة
هي التي استَعْلَتْ وهْو الذي تركَ
مذ غلّقت بابَها نادته هيتَ لكَ
قدّت قميصَ فؤادٍ باسمها هلَكَ
ونازعته إليها شهوةً وبُكا
فقَطَّعت يدَها حين اشتهت وَصْلَه
هو ابنُ خافقه إن قاده اتّبَعه
وسار في الدرب لا يثنيه ما مُنِعَه
 فإن يَعِشْ متعباً عاش الحياةَ مَعَه
وإن تردّى تردّى مُرضِياً ولَعَه
في متعة السعي لا في وجهة الرحلة
هل كان مشتاقاً للموت من ثارَ
إذ جاءه الوحي لما آنَسَ النارَ
في جانب القلبِ تحيي فيه إعصارا
فسدّدَ النبض لمّا خَرَّ منهارا
ففاضت النارُ حتى باركت حولَه
هل كان آخرُ ما في الحقِّ يُلغيهِ
إذ كاد أن يُهدى فارتدَّ للتيهِ
هل كان مبلغُ آتِيْهِ تَنائيهِ
خوفاً يُسائلُه ما لم يَعُدْ فيهِ
مُفخَّخَ الذِّكر مدفوعاً إلى العُزلة
ما بين سقطة واليها ورِدَّتِها
رَدَّت إماءُ الأمس اليومَ رَبَّتَها
وفرَّغت في صدور الناس رهبَتَها
فمَن أباها إلهاً ذاق قسوَتَها
فحلّلت دَمَهُ وشتَّتت شملَه
فيما وأنت من الأحياء مُجتزَأُ
تراقبُ العمرَ في صنعاءَ يهترئُ
قد شرّعت بابها للمعتدي سبأُ
وهدَّ بلقيساً والهُدهُدَ النبأُ
حتى أتى الوادي محُطِّماً نَملَه
فيما تعاتب في الأعراب من كَذَبَك
كلُّ القبائل قد بايعنَ مُغتصِبَك
هنَّ اللواتي وهَبْنَ الرمحَ مَن صَلَبك
نَهَبْنَكَ القدسَ واسترخصنَ مُستَلَبَك
وقلنَ يا أنتَ بِعتَ البيتَ والقِبلة
أنّى تشاءُ و"سِرتٌ" لم تعد شَيَّا
تخاطب القومَ: إني لم أزل حَيَّا
في الشرق مسروقاً.. في الغرب منسيّا
كأنّ ساكنها ما عاد ليبيّا
مُؤَكّدَ البذلِ مُستثنَىً من الغَلَّة
زادت مَآتِمُها حتى غدَت عادة
وصار مُحترِفاً للموت مَن كَاده
وضَلِّتِ النارُ بين السُّود والسادة
فالآن تغزو باسم الله عُبَّادَه
وتُعلِن النصرَ في خِلٍّ سبى خِلَّه
عَرِّج عن الشكوى واعرج لبنغازي
يومَ الأمينُ عليها أصبح الغازي
تمضي لمصرعها منهم بإيعازِ
يا جارة الخير رُدّي شرَّ مُنحازِ
يُجيِّشُ الغيرَ حتى يقتلوا أهلَه
ليست بكاسرةٍ لكنها غابة
على الضِّعاف بها في العيش غلّابة
تُعِدُّ جاهدةً للقهر أسبابَه
وتدّعي صِدقَ من قد خانَ أربابَه
فتُسْلِمُ الأمنَ فيها عِرّةَ الدولة
أرضَ المعارك مثل القبر ولّيتِ
تَلْقَينَ مثل الذي في الحرب ضحَّيتِ
أنَّى فتاكِ نأى عن طاعة البيت
يُلقون جثّتهُ في "شارع الزَّيتِ"
يُهَدِّدون بها من قد نوى فِعلَه
هان الترابُ ولو دافعتِ ما هانَ
وكان كل الذي لو شئتِ ما كانَ
لولاكِ في صَفِّهِ الطاغوتُ ما خانَ
فالآنَ ما اقترفت أيديكِ قد حانَ
ذا سيفُه الباغي فلتَتَّقي نَصْلَه
ولْتَتَّقي يوماً ما جفَّ فيه دَمُ
يوماً تُحاكم فيه القاتلَ الرِّمَمُ
واستدركي.. يومَها لن ينفعَ الندمُ
فلْتُسقطي التاجَ ولْيُهدَمْ هنا الصَّنَمُ
ولْتصبحي قبراً يشتاق مُحتلَّه
حُكمُ الشراذمِ يُخفي بالدِّما عجزَه
أنى علا عُنُقٌ في عِزَّةٍ جَزَّه
أطاح جبهتهُ كالوصلِ في الهمزة
إن كان زنديقاً من يبتغي عِزَّه
إني كفرتُ فأخرجني من المِلّة
يا من تُعايرُني بالأمنِ والسكنِ
يا بائعي بخساً يا قابضاً ثمني
يا ناسجاً بيدي من أدمعي كفني
إني أحبك رغم الزهد يا وطني
أرضاك ما ترضى يا أكثرَ القِلَّة
فلتأتني وجهاً أو تأتني غدرا
لن تستطيع معي يا قاتلي صبرا
أنا ابن عمانَ يكفيني بها فخرا
حُرّاً أتيتُ وإني راحلٌ حُرّا
مُبايعاً وطني ألا يرى الذّلَّة 

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن صالح أبوناجي

صالح أبوناجي

12

قصيدة

شاعر أردني - طبيب

المزيد عن صالح أبوناجي

أضف شرح او معلومة