كم قال لِي البحرُ: لا تَحْفِلْ بمن ذهبُوا
وعشْ كما شئتَ لا ما شاءت العرَبُ
خمسون عاماً مضت ما زلتَ تركض في
خوفٍ من الناس ما قالوا وما عتَبُوا
لم يبق متسعٌ للخوف فانجُ بما
قد ظلّ منك وخلِّ القومَ يَضطربُوا
فكمْ بُليتَ بقومٍ لا عهودَ لهم
كأنّهم من دم الغربان قد شربوا
أسرجتَ خيلك للأصحاب فامتشقوا
رُمحاً لهم من شِقاق الحقد واحتربوا
ولم تزل تُشرعُ الأبواب تسألُ عن
أحوالهم إن رضُوا يوماً وإن غضبوا
وأنت تعلم حقّاً أنّ بعضهُمُ
مُداهنٌ دينُه التدليسُ والكذبُ
إلامَ تأسى على مَن ليس يُتقنُ مِن
دنياه غيرَ خداعٍ ما له سببُ
فدعهُمُ وارجُ في دنياك منزلةً
تسمو بها حيث لا همٌّ ولا نصَبُ
وسلْ إلهكَ أن تغنيكَ رحمتُه
عنهمْ ويصرفَ شرّاً كاد يقترب
وكُن كما أنتَ صافِي الودّ ذا ثقةٍ
فليس يصدأُ ما أبقيتَهُ الذهبُ
يا بحرُ أين همُ الأصحابُ؟ أين أنا
منهم؟ وقد فرّقت ما بيننا النُّوَبُ
أين الأحبّةُ؟ هل ما زلتَ تذكرُهم؟
فقل لهم إنني يا بحرُ "مغتربُ"
ضنُّوا عليّ بـ"بعض الوصل" ما علِموا
يوماً بأني لـ"بعض الوصل" مرتقِبُ
أبِيتُ أحلمُ أن يأتي الصباحُ بهم
وكم يَخيب بهم ظني فأكتئبُ
الشوقُ يلعبُ بي والعمرُ ينهَرُني
والقلبُ يرجُفُ إن غابوا ويرتعبُ
والليلُ يا بحرُ مفتاحُ الغريبِ إلى
شوقٍ يلوذُ به سرّاً وينتحبُ
فقل لهم: هل تُرى يا بحرُ تَجْمعُنا الـ
دّنيا فيرتاحُ في أهدابنا التّعبُ
أنا ابتهالُ القوافي بوحُ مُقلتها
أنا الحروف التي ضجّت بها الكتبُ
أنا قصائدُ آمالٍ معتقة
سرتْ بها في فضاء الغربةِ السّحُبُ
أنا وأنت هنا يا بحرُ فابْقَ معي
حتى تعودَ إلى أفلاكها الشّهُبُ
184
قصيدة