سوف تنتظرها أحرَّ من الجمرة
تنتظرها أيها القلب المتيّم
بحسرة ٍ وغصةٍ وألم…
وحيدًا كصنمٍ لم يحطم،
أخفاهُ في السرّ الكفرة
ونسوهُ بعدما أشهروا الإسلام
تنتظرها وتجرعُ كأس السأم
نبيذًا من الآلام
لأن الانتظار لغةُ الحياة الفاجرة
وعلى جبينك لعنة السماء!
تنتظرها مثل النجوم الغابرة
خابياً… خامدًا… هامدًا
لما وراء تخوم التعب
لما وراء قبر الانطفاء!
***
الحبّ الذي أثملني بعطر الرَّتم
أمسى جثمان خطايًا عذراء
تحول كوابيسهُ المغيرة
بيني وبين الفردوسِ
تسقطني من سلالم السماء
آهِ مازلت أذكر تلك الفتاة الصغيرة
تحت قنديلٍ أضاءتهُ أوشِحة الشتاء
تعلقني على أعناقه المقمرة
مثل مشانقِ المستضعفين الفقراء
مختنقًا بأصناف الصدّ والجفاء
لعله يقتات مني هيئة السادة النبلاء
متأرجحًا برقصة البندول الساحرة
في وحدتي وأرخبيلات الفضاء…
مثل ربطة عنق مُكهربةٍ فاخرة
داليةٍ بالحكمةِ في كبد الظلماء!
ستنتظرها آلاف السنينِ العاقِرة
كمثل صحارى الملحِ المقفرة
ولن يعرف القلبُ أهل الانتماء!
مازلت أذكر تلك الفتاة الصغيرة
ماثلةٌ في مخيلتي ألف صورة
تعيد ترميم الذكريات المسعورة
كم كانت هادئة في سويعات المساء!
أليفةً بوشاحها الصوفي مثل الهرة
مطمئنةً كعرائس القرابين البكماء
للإمضاء فيما عقدته من عزم الهجرة
وما نسجتهُ من أوهامٍ زهريةٍ خرقاء!
إنها تحلمُ بالجنّة بين عبيد الأحياء
كأن وحشية الوجود في صراع البقاء
منذ فجر الخليقة المدوّن بخاثرِ الدماء
ليست أكثر من حكاية جدةٍ أو أسطورة!
أستذكرُ توسلاتي البائسة الحقيرة
مثل رجلٍ محرومٍ من شياطين الكبرياء
أعيد اسطوانةَ الذكريات المندثرة
وطوفانًا من همسات التضرع والرجاء
مثل تلميذ مهووسٍ بالسموّ والارتقاء،
يخشى فخّ الدواويح* الداميةِ الحمراء:
"لنبحر يا سعاد، مرةً أولى أخيرة،
إلى شَعفةٍ من رمادِ الانتهاء!
بحق ألحاظٍ ما ارتوت ونبضاتٍ بلهاء
تعزف حبَّنا المخبوء في السريرة
قيثارةً أوتارها غُزلت من أدمع البكاء
أيتها الأميرة المهاجرة الحسناء
بمناجمِ الفحمِ في عُقد الضفيرة
حتَّام تحلمين بالألماسِ ووميضهِ اللألآء
في ديارٍ أجنبيةٍ تَحرِم زائريها الضياء،
وتغتال الحالمين بسيف الحيرة والغيرة؟
إنهُ عالمٌ زائفٌ من التطورات الضريرة
من الذكاء الوهمي المصطنع، والأفكار الشريرة
من لدائن التعبئة والتغليف في غابة البتروكيمياء
من البضائع المقلّدة والأسرّ المتخمة الثراء
غادرٌ كشراب الشوكران المسموم الزهرة
في فم فيلسوف جريرتهُ موت العقلاء…
كأفاعي ميدوزا ونظرتها الحزينة الآسرة
كرائحة المتزاحمين وعفونتهم الهوجاء
واكتظاظهم كالبغال في جحيم المقطورة
إذ تهرول قطارات الأنفاق لمناجم الشقاء
ومثل الغرباء العابرين بنية الاحتلال،
لا يستحقُ آيات العطف أو كلمات الرثاء.
آه أيتها السعادة الشبحية المسافرة
في أثير الأزمنة العابرة
نفترقُ قريباً بلا أملٍ في اللقاء أو البقاء
ولا أستطيع اللحاق بكِ إلى مدن الظلماء؛
كبلني الزهد ُ وأسقطني مثل الداء
ورغم ذلك في السديم
ما فتئت حالمًا مثل طفلٍ يتيم
لو تمكثين معي في هذه البيداء
نمخر أمواج الصحارى الخطيرة
على متن مهرة حديدية سوداء
تستكشفُ أسرار المجهول الكثيرة
في رحلة العمر الخرافية القصيرة
حيث أزخرفُ عشقكِ السرمدي الأصداء
على جبين الأرضِ وفي مجرات الفضاء
إني دومًا سأهواكِ حدّ التوضِئ بالبكاء
يقيناً لست بكاذبٍ فالغزلُ ليس بجريرة
ما زيّن الرجلُ وعود الهوى بختم الوفاء.
آه يا سعاد، يا نواة أتراحي الصغيرة
لنبحر بقارب العشق مرةً أولى أخيرة،
إلى شعفةٍ من رماد الانتهاء!
آه يا سعاد، يا درّاقتي في حرّ الظهيرة
أستميحك بعضاً من العفو والمعذرة
لئلا تسيئي مثل الآخرين الدهماء
فهم ما أهرقت من شِعريّ الدماء
ليس في محمل الكَلمِ
أو جعبة الأحرفِ المنطوقة
أي فحش آثمٍ في نهايات النداء
كلّ ما في الأمر يا معبودتي، أن أجنحتي كسيرة
ولكِ عينٌ بصيرة، إن هي إلا لحظاتنا الأخيرة
ومازال ثمة جوع للحبّ العذري في الأحشاء
يقتات قلبي كقطيعٍ من الكلاب المسعورة
لا شيء أكثر، هكذا الحال في مسرح الدمى الأحياء
إنّ للحرّ في قرع أجراس الهوى عزاءٌ واكتفاء
فلا ترحلي… لا تهجرينا يا سعاد
ما مثل قلب الأحبة أوطانٌ وبلاد"
تجرُّ أذيالها، ولا تعير مني النداء
مثل ملائكة مجنحة،
تنشر جنحانها البيضاء
تحلقُ مرفرفة نحو البعيد
بعيداً عن قُرانا الفقيرة
مغيبةً خلف غيوم السماء
كنجمة تومضُ لمعةً منيرة
هي زفرة أخيرة،
تفنى ونفنى بعدها
ويمسُّ كلّ شَيءٍ انطفاءْ…
يمسُّ كلّ شَيءٍ… انطفاءْ
تمت
هامش: الدواويح يقصد بها الدوائر الحمراء الدالة على علامات الرسوب
62
قصيدة