الديوان » باسل الحجاج » رُفيدة والمريضُ المحتضر

رُفيدة… جمالكِ الطري الغضّ
كالعطر يفوحُ برائحة الغموض
بذكرى شهرزاد وألف ليلةٍ وليلة؛
برقص الجان في سراب الأخيلة؛
بأساطير الحداثةِ والأقوامِ الأولين!
ما فاعلٌ بي جمالكِ يا ترى…
أنا الطريح على الثرى
أفلا يراني بين الحياة والردى
أنزفُ أشباح الروح سودًا وبيض
من قسوة المشفى
كائناً وحيدًا بغيض
آه يا رُفيدةُ ما لك لا تشعرين
أوما آن أن أفصح بالجوى
آه لو تعلمين… لكم أرقني الهوى
تلك العيون الحور…
ذلك الجسد الخمري البضّ…
مثل المرض
هذا الجمال الغريب عن الأرض
يهوي بي لقيعان الحضيض
آهِ كمثل أنفاسي أمست رماحًا وسكاكين
تخزُّني محميةً بنار الجفاء والحمى
وتشعلني غابةً محروقةً بالأنين
تُسقطُ خرقة جثماني المدمى
كلما نازعتني الرغائب للنهوض!
ها أنذا أنفثها سعالاً مهيض
يختنق بأعماقي دون صدى
كالدخان الأسود المخنوق
ساعة تحتضرُ في رئتي التنانين
جمالكِ البهيُّ الحزين…
شاردُ العينين… مسبيٌّ ومسروق
يذبحني بغواية الماضي… بأطياف الغموض
يحاصرني أنا المحرومُ برائحة الشذى
عاجزًا لأجل وعود ماورائية
لا تُثمرُ في خاتمة الضلالةِ غير السدى
مثل هراواتٍ ملوَّثة الذرى
غزلت من حقن مسمومةٍ بالأوبئة والردى
تغرسُ في رماد جسدي المريض
جزائر من الأورام والرضوض!


آهِ إني أهذي يا رُفيدة
في شتاء هذا المشفى اللعين
العابق برائحة الموت العطنة
وعفونة العجائز من أشباهي والمجذومين
تُولَدُ فراشات أفكاري كأرواح مُسنَّة
أمام زجاج ناظريكِ تُحلّقُ عُمرَ وَهلة
تحترقُ كشعلة نارٍ… تذوي رماداً
في ثوانٍ قليلةٍ بعد الولادة؛
لكنكِ لا تكترثين!... لكنك لا تكترثين!
لأن اسمكِ رُفيدة… لأن اسمكِ رُفيدة
وأنا أطلالُ خردةٍ لسلعةٍ مقلدة
كتلك المصنوعة في بلاد الصين!


اسمكِ رُفيدةُ كالأسلميةِ بنت سعدٍ في فجر الدين
فلا أدري أما زلت حيَّاً من هؤلاء الأحياء الميتين!
أمّ أنتِ نسجُ خيالٍ خالطهُ الوهمُ والتاريخ والحنين!
أمّ لعلي أمسيتُ حلمًا
كغبار الجنّ تلاشى في أثير السنين!


رفيدة، في أسر هذا المشفى القديم قدم الأزمنة
ما همُّكِ إن عاشت أو ماتت هذه السحنة الحزينة
أنا ما عرفت الحياة إلا سراباتٍ بعيدة
ألهث كالكلب وراء اللقمة من دون سكينة
أصارع حظي مصروعًا وظروفُ الوقت عنيدة
كان شبابي مكسورًا مثل القنينة
والقدر عدوي؛ يغدر بي
يكفر بي ويسفـّه أحلامي المسكينة
يغرق لي في بحر المأساة ألف سفينة
لن أشفع له؛ لن أغفر فعلته
يا لهذه الحياة المقرفة اللعينة!
كالمهرج في مرايا الآخرين
كنت أزيف وجهي بابتسامات سعيدة!
فالقدر عدوي، لن أشفع له؛ لن أغفر فعلته
حتى لو أحببتني في نهاية المطاف يا رفيدة
فأنا رجل كما يملؤني الحبُّ تملؤني الضغينة…
تملؤني الضغينة!


آهِ يا رُفيدةُ لو أحببتني؛
رغم الأفول والنجوم الساقطة
لسرقتكِ من بحر الزمان
كطيور الفرقاطة
لبكيتُ بين قبابكِ كلَّ آثامي…
كلَّ أحلامي
كلَّ سمومي
كأفاعي الذئب المرقطة
قطراتٍ من لهب الدموع الصامتة
تسقط ما بين نهديك كصديد البراكين
حتى أبلغ في مهد عينيكِ عُمرَ التسعين!


وعشقتكِ يا شقيقة الملاكِ بقلبي الثخين
كما عشقَ الخطيئةَ إبليس اللعين
عشقتكِ بنبضات تتقيأ عمرها
في بئر مغمورٍ بالحقدِ والثعابين
عشقتكِ بقلبي المحتضر اللعين
كما لم يعشقكِ من قبلُ إنسانٌ حزين
عشقتكِ بكل ملعقةٍ قدمتها لفمي الجائع
متضوراً لسكينةٍ تنيمُ مني المواجع؛
ما ذاق طعمها أهل الصوامع!
عشقتكِ بكل ملعقةٍ
من الحساء الفاتر المهين
في وحشة هذا المشفى القديم
حيث تختم النهايات وتتلاشى لرميم
حيث يحتضرُ العالمُ الأكبرُ في الصميم
ولا أملكُ يا ذات القلب الرحيم
أمام حنان صوتكِ الرخيم
سوى أنهارٍ تنسكبُ من لعاب الحنين،
وقطاراتِ أفكارٍ كنتِ محطاتها؛
تستغفرُ من شرّها الشياطين!


آهٍ أنا مجردُ عجوزٍ مريضٍ مسكين
وضعفي وشمٌ محفورٌ فوق الجبين
رجل تساقطت أوراقهُ الصُفر
بلا غايةٍ في خريف الستين
ومازلت يا أميرتي في ربيعكِ العشرين
بيننا مجراتٌ من الأوجاع والأنين
بيننا أفلاكٌ لن تقطعيها من السنين؛
بيننا الزمانُ الذي عرفتِ
والزمانُ الذي لا تعرفين؛
بيننا قيودٌ من روحِ مأساتنا لا تلين
ما عدت أخفي بأعماقي هرقل اليونانيين
ولا تستيقظ بأوتار ساعدي قوى الشياطين
لأثور في آخر رمقٍ من وجودي الحزين
ما عدتُ في دين الهوى من الثائرين!
ما عدتُ شيئاً أيها الحبُّ الدفين!


تمت

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن باسل الحجاج

باسل الحجاج

62

قصيدة

شاعر من المملكة العربية السعودية. صدرت له مجموعة شعرية بعنوان "النهر والغريب ومرثية الأقمار المتساقطة"

المزيد عن باسل الحجاج

أضف شرح او معلومة