الديوان » باسل الحجاج » البحث عن فتاة اسمها سحاب

منذ سنواتٍ عديدة، 

وصباحاتي ملوّثةٌ بنعيقِ الغراب

أشباحُ تلك السندريلا 

تطاردني كالظلّ

كنزيفِ الدم من رئة السلّ

مهما بكيت وصليت 

ترتمي علي في سجدة المحراب!

 

ليُؤاخذني الربُّ على ذنوبي، 

مثلي يستحقُ صنوف العذاب 

فقد تركتها ترحل… تستحيل إلى سراب! 

كلَّ ليلةٍ على فراش الأرق، 

أستذكر ُ ما جرى لي ولها، بذلك الغسق

رويدا… رويدا وأنا أغرق

بخجلٍ ووجل، أتصبصبُ هلعاً وارتياب

غارقا في طوفان العرق

فأوقنُ أني لم أفعل، كل ما يجدر بي أن أفعل،

لم أفعل كلّ ما بوسعي على المفترق؛

كنت جبانا رعديدا أخرق، 

يتعذر أمام رجوم الحقيقة ِ بواهي الأسباب

والحقيقة: لم يكن محتما عليها الذهاب.

 

*****

 

ها قد أمسى دمي قناني خمرٍ أحمر

تنضحُ شعرًا مختلَّ الرغائبِ لا يستطاب

لا يكترثُ بغدِ الأرض الأخضر 

أو عالمٍ تقودُ خِرفانَهُ أراذل الذئاب

لا يفكر سوى بالانتقام وإحداث الضرر

بالرغبة في انقراض كلّ سلالات البشر

لو لم ينصهر، بحرًا من الرمل المذاب 

مثل قضبان حديدٍ مقلوظ

أصدأتها زفراتُ الدهر

في أفران فتاة كان اسمها سحاب 

 

هل كان بمقدوري حقاً تغيير العالم الخراب؟

أن أنقذ نفسي من أغلال الكدح اليومي،

وأَخلُقَ الغدَ المشرق جنَّةً للأحباب

سؤالٌ كامرأة ٍ حبلى تحوطها أنامل الريبة

والإجابة الوحيدة، في هذه الحياة الغريبة 

لو كان ثمّة من جواب

كل شيء زائل، كالفأر يبتلعهُ ثعبان الغياب!    

 

*****

 

ضحكتها كانت قهوة بنٍّ بالهيل

توقظني لأقتفي أجراسها في كنائس الليل

ولأجلها كنت أذوب واللعاب،

يتدفق مثل السيل، أمام مرمر حسنها الخلاب 

أودُ لو أغمرُ خديّها بدموع المقل

لو أهطل على شفتيها... نهديها… 

برجوم القبل

لكن العقل المهووس بالطهارة والخجل

وبخني أمام أسوار حدائقها بلا كلل، 

قال يا هذا، إنها إثمٌ فلا تفعل

الحرية قيد فضائها

والويل… الويل

لمن يُطلِقها من عِقالها 

الويل… الويل! 

ليس من حقنا أن نهرم في حرية الزلل.

واستدامة الهزائم الصغيرة

تقلص الوجود المنقفل

على أقفاص صدرنا المحشو بالوجل

لندرك أن الحياة 

ليست أكثر من معتقل!

 

وأظلُّ أذكرها مليًّا؛ هي السعادة وإن طواها الغياب 

صَبَا الفؤاد إلى طفولةٍ كانت براعمها سحاب!

أحببتها ولربما لمحت بظلي طيف حبّ محتمل

ذلك الظنُّ أبقاني عصيا في مصارعة الأجل؛ 

في نسجهِ ما كان يكفي من خداعٍ 

يمنحُ الروح أفيون الأمل!  

 

*****

 

منذ فقدتها بلا جريرة أو سبب

وأنا مخدوعٌ يهيم وراء البرق الخلّب.

أشتهي قطعة تذكار منها 

أحفظها في أحشائي كأطعمةِ العلب

أخفيها في تربة أعماقي 

كما تخفي العظمَ جِراء الكلب

لَعلّي أسالمُ فكرة أني خَسرتها للأبد

ولن أستعيدها من غياهب الغيب

كعروس بحرٍ استحالت فقاقيعاً وزبد! 

 

أن اقتطع أثراً منها وأبذرهُ في حقول القلب

لتنمو كالأجنّة في نبضاتي؛ كعرائشِ العنب 

وتمنح أيامي الفاترة، شيئا من مذاقٍ عذب

لأحملها أنى حللت وأتنفسَها عند كلّ مهب 

كلّ ما أتمناه لارتضاء المنية،

بلا امتعاضٍ من ضياع الهوية، 

مرتديا قناعَ الرجل المهذب! 

 

*****

 

أشباحها التي لا تمسُّ تطاردني

تملأ صدري بعويل الذئاب

وأنا أتعثر في أرصفة الذكرى

بحثًا عن فتاةٍ اسمها سحاب

ولذا لابد لي أن أسرد قصتها 

بحُرقة وغصة واضطراب

رغم ما في استذكارها 

من غمٍّ وألمٍ وعذاب

رغم أن كآبة المعرفة 

ستكتسح كلّ من يصغي لها... 

تماماً مثل الآفة

تتفشى في قرى الأعماق بكثافة

مثل وباء الطاعونِ في كيمياء الألباب!

 

*****

 

فتاة اسمها سحاب، ودمعها مطر الأهداب

صغارا كنا نطارد دعسوقة حمراء

في غابة من أعشاب شوكية؛ إبرها صفراء

وخزت إصبع الإبهام، حتى نزّت منه الدماء

فتاة اسمها سحاب، في ساعة من عذاب

في تلك الأزمنة المطوية بألواح الغياب

قبلت إصبعيّ المجروح لتشفي حرائق الآلام

همست: "كفَّ عن البكاء، لن يدوم نزف الدماء

سينتهي الألم قريبا، ترعاك عين السماء

ستكون على خير ما يرام، وتستمر الأحلام…"

فتاة اسمها سحاب، ودمعها مطر الأهداب

بذلك همست، ودارتْ بنا رحى الأيام! 

 

كان العالم يتغير 

والقريةُ مغتصبةٌ بصولجان الظلام

في فجرٍ غائمٍ له ملامح الجمر، 

تصبحُ مسخًا اسمهُ المدينةُ التي لا تنام

تعجُ بالضجيجِ والزحام، ووجهها ملطخٌ بالسخام

وقاطنوها أرواحٌ غريبة، بأحلامٍ سليبة،

رغم قرابة الدمِ لا توحدهم روابط الوئام

وحبُّ التبر أعماهم كما أعمى باقي الأنام، 

فأنساهم ذكر الله… أنساهم قِسْط الإسلام

كان العالم يتغير… لا كما ينبغي بل نقيض المرام

كما تتغير مع السنين مبادئ الكرام

ليصبحوا أنذالاً من أثرِ اليأس والانهزام 

كان العالم يتغير، والأفئدة تتحجر

وحكيمٌ من قال في السرّ:

روحُ الجشعِ لا تفقهُ لغة السلام!

 

*****

 

كَبَرْتُ وكَبِرتْ في قلبي فتاةٌ اسمها سحاب،

تلك التي دمعها عِقدُ لؤلؤ خلاب

يقطرُ على صحارى الوجنةِ 

مطراً من عزف الأهداب

ما عدنا صغارا ً 

وما عدنا في جنّةِ الطفولة أحراراً

وحطَّ الرُّخُّ علينا بأجنحة الظلماء

واختفت من الحيّ الدعسوقة الحمراء

حتى غابات الشوك استبدلت بحجارة البناء

ونمت ناطحات السحب ثقالاً

حيث كانت طواحين الهواء

والعالم الافتراضي والرقمي ابتلع الأحياء

لم يعد ثمة من مجالٍ للبراءة ِ في الغناء!  

 

*****

 

بيد أن السنين لم تكن عطوفة بنا وقلَّدتنا الشقاء

أجل، كان النحس قلادة في أعناقنا؛ نحن البؤساء 

وفتاتي سحاب بإرادة من حديد ٍ تخفيها النساء 

ما اقتنعت بضنك المعيشة واشتهت قصور السماء 

قالت الدنيا عناقيدٌ وما لذيذُ عِنابها إلا قِطافُ الأنواء

 

تتثاءب عرائش الخيانات على خشب الأبواب  

حيث أمسى الضمير 

حقل تجاربَ ملغّمٍ بالغدر والحِراب

لا تَطرِقْ أبواباً قديمة، فتخزّك شظايا الاغتراب

إن البراءة لا تخرج حيَّةً من متاهة الغاب

ولذا تحلمُ بالجاهِ والجواهر، كانت صغيرتي سحاب

وأنا فقيرٌ وحائر، دارت عليه الدوائر

أطرق من أبواب الكدح مليون باب، 

لكن الحظ عاثر؛ أنا رجلٌ سلاحهُ الوحيد السباب!

ورغم كلّ الإصرارِ والكفاح، 

والسعي في باكورة الصباح 

أخفقُ كالشرشبيلِ في عالم السنافر

لأعود بخفيّ حنينٍ شبحاً خاوياً لظلّ مهاجر 

يمثل دور الزهد عند أضرحة المقابر!

 

*****

 

هو اليقين: رغم غليان دمي في عروق الشباب

ما ولدت ألمعياً وليس مما امتلكت من أثواب 

سترة البطل الخارق أو درع الفارس المغامر

جلُّ ما كنتُ أبتغيهِ في أروقة العمر الخاثر

أن أقول لحبيبتي أرخي عليَّ أنهار الضفائر

لي ضريحٌ بين نهديك وطيرُ القلبِ خائر

ما عاد يجدي أن أكابر،

أنا لست في الدنيا 

سوى عاشقٍ صرعتهُ المشاعر!

 

هكذا كقطيعٍ من السفهاء، أخادع نفسي البلهاء؛ 

أقول بأعلى العقيرة كلّ شيء إلى تراب

لعل في هرطقات التخلي ونبذ الدنيا 

ما يعزي معبودتي سحاب؛ يقنعها بالبقاء 

مع عاشقٍ لا يعثر على غير لآلئ البكاء  

أتسلى بكنز قناعةٍ جوفاء

وما القناعةُ إلا واحةٌ من سراب

نقتفي آثارها سنين العمر الخاسر

لتفجعنا بطعنة خنجرٍ غادر 

ونفنى ظامئين في صحارى اليباب 

 

*****

 

وجاء لها في غسقٍ حزين،

وكانت مسهدةً لا تنام، تحصي نجوم الفلك

قال لها جنيُّ الخواتم الذهبية بمبهم الكلام 

هلمّي معي إلى حيث نحيا نعمة السلام 

في بيئة ربانية الأنغام، نقيةٍ من رزم الآلام

لا فقر فيها ولا مسغبة، 

بل إطعامٌ في جنّة من وئام

موسيقاها مهدئة للروح ولحنها سلالم للأحلام

تمنح القلب راحة الرحيل على موج المنام

 

سارت معهُ وبين يديهِ سحاب

وأنا أناديها مستثار الأعصاب:

"لا ترحلي يا سحاب… 

لا تهجري الأحباب"

فكمّمت فاهي عصابة من الجنّ اللئام الأذناب

طرحتني أرضا ومرغتني في وحول التراب؛

نبحتني كأنها سربروس في بابل الخراب! 

 

غَبَشَ جنيّ الخواتم فتاةً كان اسمها سحاب 

وأخذها بعيدا… بعيدا 

إلى أعماق غابة الضباب

لم أرها بعد ذلك، مهما اختلقتُ بورع كذاب 

بغية عودتها في صلواتي والخلق نيام

الأتقى من الأدعية، والأنبلَ من الأسباب!

حاولت أن أبحث عنها، أستعيدها

لكنها تبخرت مثل واحة السراب

لم أرها بعد ذلك، فقد فات الأوان

بالرغم أني أعاود كثيرا زيارة المكان

انتظرها على حافة الغابة بقلبٍ أسقمَهُ الهيام

والضباب يطوقني مثل الأفعوان 

انتظرها حيث رأيتها آخر مرة، قبل مليون عام

مثلما ينتظرُ أمهُ الميتةَ،

على أبواب الجبّانةِ طفلٌ حيران

 

سحاب، وما أدرى الخلق ما سحاب

لقد لبثت في انتظارها 

ما لا يحصى من عقارب الأحقاب  

مسموما بالوقت كأن كلّ ثانية ثعبان

ملوثاً باللامبالاة من وجودٍ فان

لا يأبهُ بكينونة الإنسان

لأنوحَ فقدها على قمم الوجدان

كما تنوح على القمرِ قطعانُ الذئاب!

 

إنها ملاكي المفقود في مقابر السراب 

فردوسي المسروق في عشّ الغراب

الجرحُ الذي لا يندمل من لؤم الغياب

يقينًا، لقد فقدتها إلى أبد الآبدين، 

وأخذها بعيدا إلى أعماق غابة الضباب

ولن أراها مهما بكاني ناي الحنين 

فقد تلاشت في عوالم أخرى

أمست نجمة في أساطير الأولين 

قصيدة منسيةً لشاعرٍ مغمور

في دهاليز القرن الحادي والعشرين 

لن أراها

ولو هرب من أقفاص الجحيم

كلّ شيطان رجيم

وعادت من عوالم الموتى يوريديس

ليكفّ أورفيوس عن عزفه الأليم 

لن أراها

ولو بزغت عرائس البحر

مثل الزنابق من بطن البحور

لن أراها…

آه… يا للعنة الدهور

ولو بعثت الملائكة الميتة، مجنحة بالنور

من التوابيت المظلمة وسراديب القبور

 

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن باسل الحجاج

باسل الحجاج

62

قصيدة

شاعر من المملكة العربية السعودية. صدرت له مجموعة شعرية بعنوان "النهر والغريب ومرثية الأقمار المتساقطة"

المزيد عن باسل الحجاج

أضف شرح او معلومة