الديوان » عبد الكريم المحمود » في عالم البرزخ

عدد الابيات : 128

طباعة

حنانَيك يا رحمنُ من فتنة القبرِ

فأنت غياث الروح من هول ما يجري

مِن المُلك رُدّتْ حفرةُ القبر وادياً

لدى ملكوت الله ذي الخلق والأمرِ

سرتْ وحشةُ الوادي بإطباق ليلهِ

تُحيط غريباً أين مسراه لا يدري

وحيداً فما من مؤنسٍ غيرَ جثّةٍ

له حولها الحيّاتُ أو فوقها تسري

يراقبها خوفاً ويبكي لحالها

مهمّدةَ الأعضاء مكسورةَ الظهرِ

لها من تراب الأرض أسوءُ منزلٍ

تكابده بالصمت في ذلّة الأسْرِ

موسّدةً لحداً يفوح ترابُه

برائحة الأموات من سالفِ الدهرِ

عليها غريبُ الروح طوّف حائراً

فلا يهتدي منها لوصلٍ ولا هجرِ

وهزّ سكونَ القبر صوتٌ هديرُه

تمادى كقصف الرعد في الجوّ يستشري

وشعّ ضياءٌ من عيونٍ كأنها

من البرق صيغتْ أو من النار والجمرِ

لقد زلزل الوادي نكيرٌ ومنكرٌ

يُضلّان في شكليهما راجحَ الفكْرِ

عظيمان من أقوى الملائك خلقةً

يجرّان مِن رأسيهما طائلَ الشعرِ

بنابَينِ عملاقين يمشي كلاهما

يثيران وجهَ الأرض بالشقّ والحفرِ

فرَدّا غريبَ الروح للجثّة التي

قضى خادماً أوطارها فائتَ العمرِ

فعاد يعاني وطأةَ الأرض فوقه

وقد ضاقت الأنفاسُ في مُضنك الصدرِ

وذا منكرٌ في الرعب يلقي سؤالَه

ويطلب مَرضيّ الجواب على الفورِ

يقول مَن الربُّ الذي قد عبدتَه

وقابلتَ ما أعطاك بالحمد والشكرِ؟

ومِن أنبياء الله مَن كنتَ تابعاً

بدعوته آمنتَ في اليسر والعسرِ؟

ومِن تلكم الأديان ما دينُك الذي

تعهّدتَه في القول والفعل والنصرِ؟

وأيُّ كتابٍ كنتَ تتلوه دائماً

بآياته آمنتَ في السرّ والجهرِ؟

مَن الامامُ الذي والَيتَ منهجَه

ودُمتَ على حبٍّ له خالصٍ ثرِّ؟

وهل كنتَ في الأفعال تتبع عالماً

فتأتي بما يُفتيك من مقصد الخيرِ؟

وعمرُك فيما كنت تفني سنينَه

وتُبلي شباباً منه في ذروة الأزرِ؟

ومالُك من أين اكتسبتَ وفيرَه

وفيما قضيتَ الحقّ من ذلك الوفرِ؟

وصاح نكيرٌ عن صلاتك قلْ لنا

وهل قمتَ من نومٍ لها مطلَعَ الفجرِ؟

وهل كنت تؤتي في الزكاة حقوقها

وهل صُمتَ شهر الله في الحرّ والقُرّ؟

وهل رُمتَ حجَّ البيت لله طائعاً

وتُبتَ من الآثام مغفورةَ الإصرِ؟

وهل لرسول الله لبّيتَ دعوةً

فواليتَ أهلَ البيت حبّاً بلا أجرِ؟

جوابُ تقيّ الروح حاز رضاهما

فصار لمَن لاقاه باللطف واليُسرِ

وغادر من واديه حزناً وكربةً

الى موطن الريحان والرَّوح والبشْرِ

طليقاً بأرجاء السماء محلّقاً

يقصّر عن تحليقه أمهرُ الطيرِ

تلاقيه أرواحٌ تطير كريمةٌ

تَعارفُ بالتقوى وبالحبّ والبرِّ

وتأوي الى روض الجنان سعيدةً

بمرضاة ربٍّ أفلحت منه بالغَفرِ

وتعرف منضمّاً اليها بشخصهِ

وصورتُه تقتاد مستدبرَ الذكْرِ

تسائله عن غائبٍ طال بَينُه

أما زال حيّاً أم هوى في ردىً نُكرِ

وأتحفها الرزّاق من فضله بما

تُسرُّ به من دون حزنٍ ولا ضَيرِ

بساتينُ أعنابٍ وأشجارِ زينةٍ

كأنّ جناها مشرقاً ناصعُ الدرِّ

يغرّد في أغصانها الطير مطرباً

فتلتذّ أسماعٌ وتهتزّ من سحرِ

وتنساب أنسامٌ رقيقٌ مرورُها

تداعب ألواناً من الورد والزهرِ

فترفع للآتين أنفاسَ بهجةٍ

وتنشر في أعطافهم زاكيَ العطرِ

رياضُ اكتسى من كلّ لونٍ نباتُها

وشيدتْ مبانيها من الماس والتِّبرِ

لساكنها تهدي نعيماً وراحةً

بنومٍ وفي صحوٍ على رفرفٍ خضرِ

وخدّامُها من ذي الجلال ملائكٌ

تبادر ما يومي به ساكنُ القصرِ

وربّاتُها من كل حوراءَ شاءها

مصوِّرُها الخلّاقُ للمؤمن الحرِّ

وحُفّتْ بأنهارٍ ترقرق ماؤها

تجاور أنهاراً من الشهد والخمرِ

لشاربها تسقيه حورٌ كأنها

من اللؤلؤ المكنون في ظلمة البحرِ

تقدّم أكواباً قواريرَ فضّةٍ

وتمزج أنواعَ الشراب على قدْرِ

ومن كلّ ما لذّ الطعامُ لآكلٍ

مباحٌ لأذواقٍ تجلّ عن الحصرِ

بعيداً عن الآفات من عالم الدُّنى

الى ملكوت الله في عالم الذرِّ

جنانُ احتوتْ من جنّة الخلد صورةً

فلستَ ترى شيئاً من النقص والفقرِ

وذلك فضل الله يؤتيه ثلّةً

تواصَوا مع الايمان بالحقّ والصبرِ

فأكرم أرواحاً لهم كان عيشُها

مريراً بدار البخل والظلم والجورِ

وزادهمُ فضلاً بإذن زيارةٍ

لأحبابهم في الأرض باللطف والحذرِ

ينادي بهم رضوانُ أيام جمعةٍ

وأيام عيدٍ للهبوط بلا قسرِ

ويقتاد من نوق الجنان رواحلاً

لهم قادماتٍ في زبارجها الخضرِ

مجلّلةً إستبرقاً تحت سندسٍ

علتها قبابٌ من يواقيتها الصُّفرِ

لركّابها تيجانُ درٍّ مضيئةٌ

يكاد يواري ضوؤها طالعَ البدرِ

عليهم ثيابٌ من حرير جنانهم

وحُقّ لهم أن يرتدوا حُلّةَ الفخرِ

وزادهم القهّارُ عزّاً بأمره

لجبريل أن تستقبلوا قادمَ الزَّورِ

فتُحشَد أفواجُ الملائك قُوّماً

بكلّ سماءٍ بالثناء لهم تُطري

وصولاً الى وادي السلام هبوطُهم

ومنه الى الأهلين في أيّما مصرِ

يصاحبهم حُرّاسُ أمنٍ أدلّةٌ

على ما يسُرّ القلبَ من بهجةٍ بِكرِ

محجّبةٌ عنهم مساوئُ أهلهم

وما يجلب الأحزانَ من واقعٍ مزري

وفي حُفر الأبدان يأتون واعظاً

بأنّ شقاء الروح في ذلك الوكْرِ

وأنّ نعيم الروح في ترك سجنها

تساوره الآفات بالقطع والكسرِ

فدارُ تقيّ الروح جنّةُ واهبٍ

يحرّم ريّاها على معشر الكفرِ

فأبدانُهم ملعونةٌ في ترابها

تقاسي بقاعَ النار في الحرق والصهرِ

وأرواحُهم من خبثها في مركّبٍ

يشبّ به الكبريت في مُوقد البئرِ

تكابد في برهوتَ نوعَ عذابها

بنوع الذي جاءته من فاحش الوزرِ

فكم فاجرٍ تنهشْه أنيابُ تسعةٍ

وتسعين تنّيناً الى ساعة الحشرِ

ومطرقةٌ تهوي عليه لهولها

تُصاب دوابُ الأرض بالهَيج والذعرِ

وتضغطه الأرضُ التي تاه فوقها

فتُخرج مخّ الرأس من أسفل الظفرِ

له نازلاتٌ من حميم جهنّمٍ

تُذيب عناداً عاش يبنيه من صخرِ

تناديه ذقْ يا من توهّم أنّه

عزيزٌ كريمٌ في الضلالة والشرِّ

وفي بطنه مالُ اليتيم مسعّرٌ

يؤجّج ناراً فيه دائمةَ الحَرِّ

فيأكل زقّوماً ويشرب بعده

حميماً به يزداد ضرّاً على ضُرِّ

له عيشةٌ ضنكٌ بما كان مُعرضاً

عن الله من آياته دائمَ النفْرِ

وكم جائرٍ في الحكم يُردع خاسئاً

يُساق بسوط الذلّ والمقت والزجرِ

تعلّم آياتِ الكتاب وخانها

بفرض صلاةٍ هازئاً نام في كِبرِ

له حجَرٌ جلمودُ يشدخ رأسَه

مراراً وتكراراً الى نفخة النشرِ

وكم من كذوبٍ لا يبالي بفريةٍ

تجرّ عوامَ الناس للقتل والثأرِ

عليه الى يوم القيامة قائمٌ

لشدقَيه بالكلّوب حتى القفى يفري

وكم من زناةٍ في اللهيب ضجيجُهم

يذوقون في التنّور سَقراً على سقرِ

ومنهم كأشكال القرود وجوهُهم

يخوضون في وحلٍ من الزفت والقِطرِ

وتقذف بالقيح المدمّى فروجُهم

بأنتن ما كانوا يخوضون من عهرِ

ومنهم بأعواد المشانق عُلّقوا

وقد غُرِّزت شرُّ المسامير في الدبرِ

ومنهم وجوهٌ كالكلاب ملامحاً

اذا جُلدوا صاروا الى النبح والزفرِ

وكم لاطةٍ تهتزّ بالويل أرضُهم

وتمطرهم أدنى السماوات بالفِهرِ

يغوصون في مستنقعات عفونةٍ

فتغمرهم أقذارُها أسوء الغمرِ

وإن طلبتْ أنفاسُهم نَيلَ شهقةٍ

أعادهمُ السجّيلُ في منتِن القعرِ

وكم عابدٍ للبطن يأتي مجسًّداً

بشكل حمارٍ أو على صورة الثورِ

ومَن بالحرام السّحت كان طعامُه

فصورتُه الخنزيرُ منتفخَ السَّحرِ

وكم آكلٍ مالَ الرِّبا فهو سابحٌ

يكابد موجاً من دمٍ هاج في نهرِ

ويفغر فاهاً حين يدنو لشاطئٍ

فيُلقَم أحجاراً بأعدادها الكُثرِ

وكم سارقٍ شيئاً يحيط لهيبُه

بأعضائهِ لو كان واحدةَ التمرِ

وكم ساخرٍ بالمؤمنين مكبَّلٌ

لأعماق بئرٍ باللظى فائرِ الغورِ

ومَن كان مغتاباً لهم عاد ساقطاً

على جيفةٍ ينكبّ في هيئة الفأرِ

ويأكل من جنبَيه لحماً مقطّعاً

بما كان في أعراضهم دائمَ النقرِ

ومن كان سمّاعاً لغيبة مؤمنٍ

لأُذنيه نارٌ حرُّها دائمُ الوَقرِ

ومن كان سبّاباً خدينَ شتائمٍ

تراه بوجه الذئب أو هيئة الهِرِّ

يقاتل أمثالاً له وجميعُهم

يصول على الأعضاء بالنهش والبترِ

ومن كان نمّاماً تراه كعقربٍ

تطارده الأشباه باللدغ والأبْرِ

ومن كان في الدنيا حريصاً لنيلها

يصرّف عقلاً ضاع بالختل والمكرِ

فيغصب حقاً للضعيف مغالباً

ومن أقوياء الحقّ ينهب بالغدرِ

تراه كمثل الكلب يأتي مُهارِشاً

كلاباً على ما جاف من ميتة القفرِ

تَقاتلُ فيما بينها ثمّ تنثني

بلا مكسَبٍ إلّا من الخدش والعَقر

وكم حاسدٍ يأتي وشرُّ فؤادِه

يؤجّج ناراً فيه تبدو من النحرِ

وكم مستهينٍ بالنجاسة مُقمَعٌ

فما كان في يومٍ من البول يستبري

وكم من نساءٍ في عذاب مهانةٍ

بما عِشنَ عن ذكر العقوبات في سكرِ

فسافرةٌ كانت تميس بشَعرها

يُعلَّق منها فائرُ الرأس بالشَّعرِ

وأخرى على زوجٍ سليطٌ لسانُها

به عُلِّقتْ ثمّ الحميمُ على الثغرِ

وأخرى بثديَيها تُعلَّق كونَها

تمَنّعُ من حقّ الزواج بلا عذرِ

وأخرى برجلَيها تُغلّ لتركِها

من الزوج إذناً في مغادرة الخدرِ

وأخرى كمثل الذئب تأكل جسمَها

بما زيّنتهُ للرجال لهم تُغري

وأخرى تُشدّ الرِّجلُ منها الى يدٍ

تعذّبها الحيّاتُ باللدغ والعصرِ

بما قرنتْ أقذارَها بنجاسةٍ

ولا ركعتْ لله يوماً على طُهرِ

وأخرى تُرى صمّاءَ خرساءَ في عمىً

ومِنخرُها يُلقي الدّماغَ من السُّعرِ

بما قارفتْ فعل الزِّنا وهي زوجةٌ

وما هتكتْ للدين من عفّة السِّترِ

وأخرى لها حدُّ المقاريض مُوقَداً

يباشر لحم الجسم بالقطع والجذرِ

بما عرضتْ قصدَ البِغاء قوامها

فمكسبُها أودى الى التعس والخُسرِ

وأخرى يداها في الحريق ووجهُها

وتُطعَم بالأمعاء منشقّةَ الخصرِ

بما ذخرتْ قوّادةً في معاشها

فذاقتْ وبالَ السوء من ذلك الذُّخرِ

وأخرى بألوان العذاب مُهانةٌ

لها رأسُ خنزيرٍ وجسمٌ من الحُمرِ

بما صرفتْ في النمِّ والكِذب عمرَها

وما أوقعتْ في الناس من ذلك الهذرِ

وأخرى كمثل الكلب يُنظَر شكلُها

تمور بها نارٌ مدوّيةُ المَورِ

بما ذمّت الأخيارَ وهي حسودةٌ

وناحتْ على الأشرار بالشعر والنثرِ

فكلٌّ من الأعمال بالموت حاصدٌ

ثمارَ الذي ألقاه في الأرض من بذرِ

نعوذ بك اللهمّ من هول برزخٍ

اذا نازعتْ يوماً وصارتْ الى القبرِ

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن عبد الكريم المحمود

عبد الكريم المحمود

33

قصيدة

شاعر وباحث عراقي ، مواليد البصرة 1959م ، دكتوراه في الأدب والنقد الحديث من جامعة الكوفة 2009م .

المزيد عن عبد الكريم المحمود

أضف شرح او معلومة