الديوان » العصر العباسي » ابن الرومي » أفيضا دما إن الرزايا لها قيم

عدد الابيات : 204

طباعة

أفيضا دماً إنَّ الرزايا لها قِيَمْ

فليس كثيراً أن تَجُودَا لها بِدمْ

ولا تستريحا من بُكاء إلى كرىً

فلا حمد ما لم تُسعداني على السأمْ

ويا لذة العيشِ التي كنتُ أرتضي

تقطَّعَ ما بيني وبينكِ فانصرمْ

رُميتُ بخطبٍ لا يقومُ لمثلهِ

شرَوْرَى ولا رَضْوَى ولا الهَضْبُ من خيمْ

بأنكر ذي نُكْرٍ وأقطعَ ذي شباً

وأمقرَ ذي طعمٍ وأوخمَ ذي وَخَمْ

رزيئةِ أمٍّ كنتُ أحيا بِرُوحِها

وأستدفعُ البلوى وأستكشفُ الغُممْ

وما الأمُّ إلا إمَّةٌ في حياتها

وأَمٌّ إذا فادتْ وما الأمُّ بالأمَمْ

بنفسي غداةَ الأمسِ من بانَ مِنْ غدٍ

وبتَّ مع الأمسِ القرينة فانجذمْ

ولما قضى الحاثونَ حَثْوَ ترابِهم

عليها وحالتْ دونها مِرَّة الوذمْ

أظلَّتْ غواشي رحمةِ الله قبرَها

فأضحى جناباهُ من النارِ في حرمْ

أقولُ وقد قالوا أتبكي كفاقدٍ

رضاعاً وأين الكهلُ من راضع الحلَمْ

هي الأُّمُّ يا للنَّاسِ جُرِّعتُ ثُكْلَها

ومن يبك أُمَّا لم تُذَم قَطُّ لا يُذَمْ

فقدتُ رضاعاً من سُرورٍ عهدتُها

تُعلِّلُنيه فانقضى غيرَ مستتمْ

رضاعُ بناتِ القلبِ بان بِبَيْنِها

حَمِيداً وما كُلُّ الرَّضاعِ رضاعُ فمْ

إلى الله أشكو جَهْد بلواي إنه

بمستمعِ الشكوى ومُستَوهب العصمْ

وأنّيَ لم أيتم صغيراً وأنّني

يتمتُ كبيراً أسوأ اليُتْم واليَتَمْ

على حين لم ألق المصيبة جاهلاً

ولا آهلاً والدَّهرُ دهر قد اعترمْ

أُقاسي وصِنْوي منه كلَّ شديدةٍ

تُبرِّحُ بالجَلْدِ الصَّبورِ وبالبرمْ

خَلِيليَّ هذا قبرُ أمي فورِّعا

من العَذْل عني واجعلا جابتي نَعمْ

فما ذَرفتْ عيني على رسمِ منزلٍ

ولا عكفَتْ نفسي هناك على صنمْ

خليليَّ رِقّا لي أعِينا أخاكما

نَشَدْتُكما مَنْ تَرْعيانِ مِنَ الحُرمْ

أمِنْ كَرَبِ الشكوى تَمَلّانِ جُزْتُما

سبيل اغتنامِ الحمد والحمدُ يُغْتَنمْ

فكيف اصطباري للمُصابِ وأنتما

تَمَلّانِ شكواهُ وفي جانبي ثَلمْ

عجبتُ لذي سمع يملُّ شِكايةً

ويعجبُ من صَدْرٍ يضيقُ بما كظمْ

ألا رُبَّ أيام سَحَبْتُ ذُيولَها

سليماً من الأرزاء أملسَ كالزُّلمْ

أُرشِّحُ آمالاً طِوالاً وأجتني

جنى العيشِ في ظل ظليلٍ من النِّعمْ

ولو كنتُ أدْرِي أنَّ ما كانَ كائنٌ

لقُمْتُ لِرَوْعاتِ الخُطوب على قدمْ

غدا الدهرُ لي خصماً وفيَّ مُحَكَّماً

فكيف بخصم ضالع وهُوَ الحَكَمْ

يجُورُ فأشكو جَوْرهُ وهْو دائباً

يرى جَوْرهُ عدلاً إذا الجورُ منه عمْ

عذيريَ من دهرٍ غشوم لأهله

يرى أنَّه إذْ عمَّ بالغَشْمِ ما غَشَمْ

غدا يَقْسمُ الأسواءَ قَسْمَ سويَّةٍ

وما عَدْلُ من سوَّى وسوّاءُ ما قسمْ

تعُمُّ ببلواهُ يد منه سَلْطةٌ

يصول بها فظٌّ إذا اقْتَدَرَ اهْتَضَمْ

وليستْ من الأيدي الحميد بلاؤها

يدٌ قسمتْ سُوءاً وإن سوّتِ القَسَمْ

أمالَ عُروشي ثم ثنَّى بَهدْمِها

وكم من عُروشٍ قد أمال وقد هَدَمْ

وأصبح يُهدي لي الأُسى متَنَصِّلاً

فمِنْ سُوقةٍ أرْدَى ومِن مَلِكٍ قصَمْ

وإنِّي وإنْ أهْدَى أُساه لساخطٌ

عليه ولكن هل من الدهر منتقمْ

هو الدهرُ إمَّا عابطٌ ذا شبيبة

بإحدى المنايا أو مُمِيتٌ أخا هرمْ

كأنَّ الفتى نصبَ الليالي بنيّةٌ

بمُصْطَفَقٍ من موج بحْر ومُلْتَطَمْ

تقاذفُ عنها موجةٌ بعد موجةٍ

إلى موجةٍ تأتي ذُراها من الدِّعمْ

كذاك الفتى نَصْب الليالي يُمرُّها

إلى ليلةٍ ترمي به سالفَ الأُممْ

فيا آملاً أن يَخْلُدَ الدَّهرَ كُلَّهُ

سلِ الدهرَ عن عادٍ وعن أختها إرمْ

يُخَبِّرك أنَّ الموتَ رَسْمٌ مؤبَّدٌ

ولن تعدو الرسمَ القديم الذي رسَمْ

رأيتُ طويلَ العُمْرِ مثلَ قصيرهِ

إذا كان مُفْضاه إلى غايةٍ تُؤمْ

وما طولُ عمر لا أبا لك ينقضي

وما خيرُ عيشٍ قصرُ وجدانه العدمْ

ألا كلٌ حيٍّ ما خلا الله مَيِّتٌ

وإن زعمَ التأميلَ ذو الإفك ما زعمْ

يروحُ ويغدو الشيء يُبنَى فربمّا

جنى وهْيَهُ الباني وإن أُغْفِلَ انهدمْ

إذا أخطأتْهُ ثُلمةٌ لا يجرُّها

له غيرهُ جاءتْه من ذاته الثُّلمْ

تُضَعْضِعُهُ الأوقاتُ وهْي بقاؤهُ

وتغتاله الأقواتُ وهْي له طُعمْ

فيا مَنْ يُداوي ما يَجُرُّ بقاؤهُ

فناءً وما يُغذَى به فيه قد يُسَمْ

جَشِمْتَ عناءً لا عناءَ وراءهُ

فدعْ عنكَ ما أعيا ولا تَجْشَم الجُشَمْ

سقى قبلكَ الساقي وأسْعَطَ بل كوى

ليحسمَ أدواءَ القُرونِ فما حَسَمْ

إذا ما رأيتَ الشيء يُبليهِ عُمْرُهُ

ويُفنيه أن يَبْقى ففي دائه عقمْ

يروحُ ويغدو وهْو من موتِ عبْطةٍ

وموتِ فناءٍ بين فكَّين من جلمْ

ألا إن بالأبصار عن عِبرةٍ عمىً

ألا إن بالأسماعِ عن عِظةٍ صممْ

تُحِدُّ لنا أيدي الزمانِ شِفاره

ونرتع في أكْلائِه رَتْعَةَ النّعَمْ

نُراعُ إذا ما الدهرُ صاح فنَرْعوِي

وإن لم يَصِحْ يوماً براتعنا خضمْ

سيُكشفُ عن قلبِ الغبيِّ غطاؤه

إذا حتفُه يوماً على صدره جَثَمْ

ألا كم أذلَّ الدهرُ من متعززٍ

وكم زمَّ من أنف حَمِيٍّ وكم خطمْ

وكم ساور العقبانَ في اللؤم صرْفُه

وكم غاوصَ الحيتانَ في زاخر الحُوَمْ

وكم ظلم الظِّلمانَ حق صحاحِها

ومثلُ خصيم الدهرِ أذعنَ واظَّلمْ

وكم غلبتْ غلبَ القُيول هناتُه

ولم تُقْتَبَسْ من قبلِ ذاك ولم تُرَمْ

وكم نَهش الحيّاتِ في هضباتِها

وكم فرس الأُسدَ الخوادِرَ في الأجمْ

وكم أدرك الوحش التي لجَّ نَفْرُها

يغُورُ لها طَوْراً ويطَّلعُ الأكمْ

وكم قعصَ الأبطالَ إمّا شجاعةً

وإمَّا بمقدارٍ إذا اضطرَّهُ اقتحمْ

وكم صالَ بالأملاكِ وسْطَ جنودِها

وأخنى على أهلِ النُّبوّاتِ والحِكمْ

وكم نعمةٍ أذوى وكم غبطةٍ طوى

وكم سند أهوى وكم عُرْوةٍ فصمْ

وكم هدَّ من طَوْدٍ مُنيفٍ عانهُ

وكم قضَّ من قَصْرٍ مُنيفٍ وكم وكمْ

أرى الدهرَ لا يبقى على حدثانه

شعيبُ الأعالي جَهْوَرِيٌّ إذا بغمْ

جريءٌ على العُرمِ العوارمِ لا ينى

كأن ذُعافَ السُّمِّ يشْفيهِ من قرمْ

إذا احترشَ الأفعى بمرجوع نفخة

دهاها بأضراس حِداد أو الْتَهَمْ

مُعِدٌّ عتادَيْ هاربٍ ومُقاتلٍ

متى كرّ يوماً كرَّةً أو متى انهزمْ

قُرونٌ كأرماح الهياج شوائك

وآونةً شدٌّ يجمُّ إذا اهتزمْ

رعى ما رعى حتى رمى الحيْنُ نفسَهُ

بحتف فما أنبا هناك ولا شرمْ

أدلَّ بقَرْنَيْهِ فلاقاه ناطحٌ

مِنَ الدَّهرِ غلّابٌ فسوَّاهُ بالأجمْ

ولا نِقنِقٌ خاظي البضيع صمحمحٍ

من الآكلات النار تأتجُّ في الفَحمْ

يصومُ فلا يحوي ويملأ بطنَهُ

بما شاء من زاد ولا يرهَبُ البشمْ

ويبلعُ أفلاذَ الحديدِ جوامداً

فيسْكبها في قعرِ كيرٍ قد احتدمْ

ويسترط المرو الركودَ كأنما

يراه طعاماً قد أعِدَّ له لُقَمْ

ويتخذ التَّنُّومَ والشرْيَ مرتعاً

فيخذم مِنْ هذا وهذاك ما خَذَمْ

ترامتْ به الأحوالُ حتى بَنَيْنَهُ

نهاراً وليلاً بِنيةَ الفحل ذي القطمْ

من العادياتِ الطائراتِ إذا نجا

بَصُرْتَ به بين النجاءيْن مُقْتَسمْ

إذا شبَّ منها جاد ما هو قادح

بِزَنْدَيْهِ من شدٍّ تَلَهَّبَ فاضطرمْ

جناحانِ خفَّاقانِ خفقاً مُحَثْحثاً

ورِجلان لا تَسْتَحْسِران إذا اعتَزَمْ

نجا ما نجا حتى ابتغى الدهرُ كَيْدَه

فدسَّ إليه العَنْقفير ابنة الرَّقمْ

ولا قسورٌ إن لم يجد ما يكُفُّهُ

من الصَّيدِ أضحى والسباعُ له لحَمْ

عليه الدماءُ الجاسداتُ كأنَّما

مواقعُها منه المُدمَّى من الرَّخمْ

إذا ما اغتدى قبل العطاسِ لصيده

فللمغتدِي تلقاءه عطسةُ اللَّجمْ

أتاحت له الأحداثُ منهنَّ قِرنَهُ

كفاحاً فلم يكدح بِظُفْرٍ ولا ضغمْ

وقد كان خطاف الخطاطيف ضيغماً

إذا ساهم الأقرانَ عن نفسهِ سَهَمْ

ولا أعصلُ النابَيْنِ حامل مَخْطِم

به حَجَنٌ طوراً وطوراً به فَقَمْ

يُقلِّبُ جُثماناً عظيماً مُوَثَّقاً

يهدُّ برُكنَيْهِ الجبالَ إذا زحمْ

ويسطو بخُرطوم يثنِّيه طوعَهُ

ومشتبهاتٍ ما أصابَ بها غنمْ

ولست ترى بأساً يقومُ لبأسهِ

إذا أعملَ النَّابيْنِ في البأسِ أو صدمْ

بقى ما بقى حتى انتحى الدَّهرُ شخصَهُ

فلم ينتصر إلا بأنْ أنَّ أو نأمْ

هوى هائلَ المَهْوَى يجُودُ بنفسه

تخالُ به قيداً تقوَّضَ مِنْ إضَمْ

مضيماً هضيماً بعدَ عِزّ ومَنْعة

ومن ضامَهُ ما لا يطاق ولم يُضَمْ

ولا صِلُّ أصْلالٍ يبيت مُراقباً

بنْهشَتِهِ مقدارَ نفس متى يُحَمْ

يشول بأنياب شَواها مَقاتِلٌ

يُقَطِّرُ من أطرافها السّمَّ كالدَّسمْ

زَحوف لدى الممسى كأنّ سحيفهُ

إذا انساب في جنْح الظلامِ نَشيشُ حمْ

يميزُ المنايا القاضياتِ سِمامَهُ

من الرقْش ألواناً أو السُّودِ كالحُمَمْ

أتاه وقد ظن الحِمام شقيقه

حَمامٌ ولاقى لا شقيقاً ولا ابن عمْ

سقاه بكأس كان يَسْقي بمثلها

إذا ما سقى السَّاقي بأمثالها فطمْ

كمينُ ردىً في جسمه أوْ مُبارِزٌ

نجيدٌ من الأقران غادره جِذمْ

ولا لِقوة شعواء تُلحم فرخها

خداريَّةٌ شمَّاء في شاهق أشَمْ

بكورٌ على الأقناص غيرُ مُخلَّة

كأنَّ بها في كل شارقةٍ وحَمْ

تبيتُ إذا ما أحجر القُرُّ غيرَها

تُرَقْرِقُ رفْضَ الطَّلِّ في رِيشها الأحمْ

تعالت عن الأيدي العواطي وأُعطيتْ

على الطيرِ تفضيلاً فأعطينَها الرُّمَمْ

سما نحوها خَطْبٌ من الدهرِ فاتِكٌ

فطاحت جُباراً مثل صاحبها درمْ

ولا غَرِقٌ ناجٍ من الكرب عَيْشُهُ

بحيث يكون الموت في الأخضر القطمْ

سبوحٌ مروحٌ رعيُهُ حيثُ وِرْدهِ

رغيبُ المِعا مهما استُطِفَّ له التقمْ

مُجَوْشَنُ أعلى الجِلدِ غيرُ محمَّلٍ

سلاحاً سوى فيه ومِزْودِهِ اللَّهمْ

نفتْ جِلَّةَ الحيتان عنه شذاتُه

وخُلِّي في مَرْعىً من الوحشِ والقزمْ

إذا أوْجس النُّوتيُّ يوماً حَسِيسَهُ

وقد عارض البوصيُّ شمَّرَ واحتزمْ

أتيحَ له قِرنٌ من الدهر لم يكن

لِيَنْكُلَ عن أهوال يمٍّ ولا ابن يمْ

فألقاهُ في مَنْجى السَّفينِ وإنما

بحيثُ يشمُّ الرُّوحَ ركبانُها يُغمْ

لقى طافياً مثلَ الجزيرةِ فوقَهُ

أبابيل شتى من نسورٍ ومن رخمْ

ولا مَلِك لا مجدَ إلا وقد بنى

ولا رأسَ سامي الطَّرفِ إلا وقد وقمْ

تياسِرُهُ الأشياءُ منقادةً له

فإن عاسرتْهُ مرّةً خَشَّ أو خَزَمْ

إذا سارَ غُضَّتْ كُلُّ عينٍ مهابةً

وأُسكتَتِ الأفواهُ مِنْ غيرِ ما بكمْ

سوى صَهلاتِ الخيلِ في عُرض جحفلٍ

له لجبٌ يسترجفُ الأرض ذي هزمْ

كأنَّ مُثارَ النقع فوقَ سوادِهِ

سحابٌ على ليلٍ تَطَخْطَخَ فادْلهمْ

وإن حلَّ أرضاً حلَّها وهْو قادرٌ

على البُؤسِ والنُّعمى فأهلكَ أو عصمْ

ترى خرزاتِ المُلْكِ فوق جبينِهِ

تلوح عليه من فُرادَى ومن تُؤمْ

طواه الردى من بعدما أثخن العدا

وقوَّمَ من أمرَيْهِ ذا الزيغِ والضَّجمْ

فقد أمِنَ الأيام أن تَخْتَرِمْنَهُ

وبُرِّئتِ الدنيا لديه من التُّهَمْ

رمى حاكمُ الحكامِ مُهجةَ نفسه

بحكم له ماضٍ فدانتْ لمَا حَكمْ

ولا مُرْسَلٌ بالوَحْي وحيِ مليكه

سِراجاً منيراً نورُهُ الساطعُ الأتمْ

له دعوةٌ يشْفي بها من شكى الضَّنى

ويرزُقُ من أكدى ويُنْعِشُ من رزمْ

هو الرزْءُ لا يسْطيعُ نَهضاً بثِقلهِ

سوى ابنِ يقينٍ عاذ بالله واعتصمْ

تَمَثَّلْتُ أمثالي مُعيداً ومُبدئاً

فما اندمَلَ الجُرحُ الذي بي ولا التأمْ

وكم قارعٍ سمعي بوعظٍ يُجيدُه

ولكنَّهُ في الماء يرْقُمُ ما رقمْ

إذا عاد ألفى القلبَ لم يَقْنِ وَعْظَهُ

وقد ظنَّهُ كالوحي في الحجرِ الأصمْ

وكيف بأن يقْنى الفؤادُ عظاته

وقد ذابَ حتى لو تَرَقْرَقَ لانسجمْ

وهل راقم في صفحةِ الماء عائد

ليقرأ ما قد خطَّ إلا وقد طسمْ

أحاملتي أصبحتِ حِملاً لحُفْرة

إذا حَمَلَتْ يوماً فليس لها قَتَمْ

أحاملتي أسْتَحْمِلُ الله رَوْحةً

إلى تلكمُ الروح الزكية والنَّسمْ

أَمُرْضِعَتي أسترضِعُ الغيثَ دَرَّةً

لرَمْسِكِ بل أستغزِرُ الدمعَ ما سجمْ

وإنِّي لأستحييكِ أن أطلبَ الأُسى

لأسلى ولو داويتُ جُرْحيَ لم أُلمْ

حِفاظاً وهل لي أُسْوةٌ لوْ طلبتُها

ألا لا وهل من قِيمة لك في القِيمْ

وإني لأستحييك أن أنقع الصَّدى

وأن أتحبَّى بالنسيم إذا نسمْ

أأستنْشِقُ الأرواحَ بعدك طائعاً

وأشربُ عذْبَ الماء إني لذو نَهمْ

وإني لأستحييكِ يا أمُّ أنْ يُرَى

قريني إلا مَنْ بكى لك أو وَجَمْ

وأن أتلهَّى بالحديث عن الأسى

وألقى جليسي بابتسامٍ إذا ابتسمْ

أأمْرحُ فوق الأرض يا أمُّ والثرى

عليكِ مهيلٌ قد تطابقَ وارتكمْ

أبى ذاك من نفسي خَصِيمٌ مُنازعٌ

ألدُّ إذا جاثى خصيماً له خَصَمْ

حفاظي خَصيمي عنكِ يا أمُّ إنه

أبى لي إلا الهمَّ بعدك والسَّدَمْ

عزيزٌ علينا أن تَموتِي وأننا

نعيش ولكن حُكِّم الموتُ فاحتكمْ

ولو قَبِلَ الموتُ الفداء بذلتُهُ

ولكنما يَعْتامُ رائدُهُ العِيَمْ

أيا موتُ ما أسلمتُها لك طائعاً

هواك فمالي زَفرتِي زفرةُ الندمْ

سأبكي بِنَثْرِ الدمع طوراً وتارة

بنظم المراثي دائمَ الحُزْنِ والوَكمْ

وتُسعِدُني نفسٌ على ذاك سَمْحةٌ

بما نثر الشجوُ الدخيلُ وما نظمْ

لأنْفيَ نَوْمي لا لأشفِيَ غُلَّتي

على أنَّ عيني مُذْ فقدتُكِ لم تنمْ

ولو نظرتْ عيْناكِ يا أمُّ نَظْرةً

إلى ما توارى عنك مِنِّيَ واكتتمْ

فقِسْتِ بما ألقاهُ ما قد لقيتِه

شهدتِ بحق أنَّ داهيتي أطمْ

وكم بين مكروه يُحَسُّ وقوعُهُ

وآخرَ معدوم الإطاقة واللَّممْ

يُحِسُّ البلى مَيْتُ الحياةِ ولم يكُنْ

يُحِسُّ البِلى مَيْتُ المماتِ إذا أرمْ

ألا من أراه صاحباً غيرَ خائنٍ

ألا من أراهُ مُؤنِساً غيرَ مُحْتَشَمْ

ألا من تليني منه في كُلِّ حالةٍ

أبرُّ يدٍ برَّتْ بذي شعثٍ يُلمْ

ألا من إليه أشتكي ما يَنُوبُني

فيُفْرجُ عنِّي كُلَّ غمٍّ وكُلَّ هَمْ

نبا ناظري يا أمُّ عن كُلِّ مَنظرٍ

وسَمْعِي عن الأصوات بعدك والنغمْ

وأصبحتِ الآمالُ مُذْ بِنْتِ والمُنى

غوادر عندي غير وافيةِ الذِّممْ

وصارمتُ خِلّاني وهُمْ يَصلونَني

وقد كنتُ وصَّالَ الخليل وإن صرمْ

وآنسني فقدُ الجليسِ وأوْحَشتْ

مشاهدُه نفسي ولم أدرِ ما اجترمْ

سوى أنه يدعو إلى الصبرِ واعظاً

فإن لجَّ ما بي لجَّ في العَذْلِ أو عذمْ

ولو أنَّني جمَّعْتُ وعظي ووعظَهُ

ليَشْعَبَ صَدْعاً في فؤادي لما التأمْ

وإني وقد زوَّدتِني منكِ لوْعةً

لها وقْدة في القلبِ كالنارِ في الضرمْ

يريد المُعزّي بُرء كَلْمِي بوَعْظهِ

ولم يكُ غيرُ الله يُبرئُ ما كَلَمْ

هو الواهِبُ السلوانَ والصبرَ وحْدَهُ

لذي الرُّزْءِ والمُهْدِي الشِّفاء لذي السقمْ

ولست أُراني مُذْهلي عنكِ مُذْهِلٌ

يد الدهر إلا أخذةُ الموتِ بالكظمْ

هُناك ذُهولي أو إذا قيل قد قضى

وإلّا فلا ما طاف ساعٍ أو استلمْ

وسوَّيْتِ عندي عُرفَ دَهرِي بِنُكره

فأضحى وأمسى كلما أحسن استذمْ

أرى الخيرةَ المهداةَ لي منه عبْرةً

ونِعمتَهُ المسداةَ من واقع النِّقمْ

أتبهجُنِي نعماءُ دهرٍ حماكِها

وأشكرُ ما أَعطَى وأنتِ الذي حرمْ

أبى ذاك أن الخير بعدك حسرةٌ

لديّ ومعدود من المِحَنِ العظمْ

فقدناكِ فاسْوَدَّتْ عليكِ قلوبُنا

وحُقَّتْ بأن تسودَّ وابيضَّتْ اللِّمَمْ

وأظلمتِ الدنيا وباخ ضياؤها

نهاراً وشمسُ الصَّحوِ حَيْرى على القِمَمْ

وأجدبتِ الأرضُ التي كنتِ روضةً

عليها وأبدتْ مَكْلحاً بعد مُبْتَسَمْ

ومادتْ لك الأجبال حتى كأنما

شواهقها كانت بِمحياك تُدَّعمْ

وأصبحَ يبْكيكِ السحابُ مُجاوِداً

فأرزم إرزامَ العجولِ وما رذمْ

وناحتْ عليكِ الريحُ عبرَى وأصبحتْ

لدُنْ عَدِمَتْ ريَّاكِ تجري فلا تُشَمْ

وقامتْ عليكِ الجنُّ والإنس مأتماً

تُبكِّي صلاةَ الليلِ والخَمصَ والهضَمْ

وأضحتْ عليكِ الوحشُ والطيرُ وُلَّهاً

تبكِّي الرواء النضر والمَخْبر العَمَمْ

وأبدى اكتئاباً كلُّ شيءٍ علمتُه

وأضعافُ ما أبداه من ذاك ما كتَمْ

كذاك أرى الأشياءَ إما حقيقةً

بدتْ لي وإما حُلْمَ مُسْتَيْقظٍ حَلمْ

ولن يَحْلُم اليقظانُ إلا وقد أتتْ

على لُبِّه دهياءُ هائلةُ الفَقَمْ

وأما السمواتُ العلى فتباشرتْ

برُوحِك لمَّا ضمَّها ذلك المضمْ

وما كنتِ إلا كوكباً كان بيننا

فبان وأمسى بين أشكاله نجمْ

رأى المسْكَنَ العُلويّ أوْلى بِمِثْلِهِ

فودَّعَنَا جادتْ معاهِدَهُ الرِّهَمْ

تأمَّلْ خَليلي في الكواكب كَوْكباً

ترفَّع كالمصباح في ذِروةِ العلمْ

سما عن سفال الأرض نحو سمائه

فكشَّفَ عن آفاقها عاصبَ القتمْ

ولم يرَهُ الراؤون من قبل موتها

بحيث بدا لا المُعْرِبون ولا العَجَمْ

وإني وقد زودتني منك لوعةً

مُحالفةً للقلب ما أورق السَّلَمْ

لتُسلينَني الأيام لا أن لوعتي

ولا حَزَني كالشيء يبْلى على القِدَمْ

سأنْثو ثناكِ الخيرَ لا مُتزيِّداً

على ما جرى بين الصَّحيفة والقلمْ

وما بيَ قُرباكِ القريبةُ إنه

بعيدٌ من الأحياءِ مَنْ سَكَنَ الرَّجمْ

طوى الموتُ أسبابَ المحاباةِ بيننا

فلستُ وإن أطنبتُ فيك بِمُتَّهَمْ

لعَمْري وعَمري بعدك الآن هَيّنٌ

عليَّ ولكنْ عادةٌ عادها القسمْ

لقد فجعتْ منكِ الليالي نُفوسها

بمحييةِ الأسحار حافظةِ العتمْ

ولم تُخطئِ الأيام فيك فجيعةٌ

بِصوَّامةٍ فيهنَّ طيَّبةِ الطِّعمْ

وفاتَ بك الأيتامَ حِصنُ كِنافةٍ

دفيءٌ عليهم ليلةَ القُرِّ والشَّبَمْ

رجعْنا وأفردْناكِ غير فريدةٍ

من البِرِّ والمعروفِ والخيرِ والكرمْ

فلا تَعدمي أُنْسَ المحلِّ فطالما

عكفتِ وآنستِ المحاريبَ في الظُّلمْ

كستْ قبرَكَ الغُرُّ المباكيرُ حُلَّةً

مُفوَّفةً من صَنْعةِ الوبل والدِّيمْ

لها أرجٌ بعد الرُّقادِ كأنما

يُحدِّثُ عما فيكِ من طَيِّبِ الشِّيمْ

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن ابن الرومي

avatar

ابن الرومي حساب موثق

العصر العباسي

poet-abn-rumi@

2020

قصيدة

17

الاقتباسات

2165

متابعين

علي ابن العباس بن جريج، أو جورجيس، الرومي، أبو الحسن. شاعر كبير، من طبقة بشار والمتنبي. روميّ الأصل، كان جده من موالي بني العباس. ولد ونشأ ببغداد، ومات فيها مسموماً، ...

المزيد عن ابن الرومي

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة