العُمْرُ كلُّ العُمْرِ موسمُ هجرةٍ ..
وأنا برغم(الأربعينَ) من التَّشَرُّ دِ
ما اتَّفقتُ مع الطريقْ !
فوضايَ خارطتي
ولم أَرَ صُدْفَةً كالحُبِّ ..
إنَّ الحبَّ يسقطُ في الحشاَ سَهْواً
كأنَّ السَّهْوَ منبتُهُ العريقْ
كان(الأذانُ) بدايتي..
إنَّ(المآذنَ) في بلاديَ
هُنَّ أَوَّلُ من يفيقْ !
طفلٌ صقيلُ القلبِ
تخطفُني المساجدُ
من ربيعِ طفولتي..
من رقصة الأرجوحة النشوَى..
من الشَّغَفِ المبكِّر بابنة الجيرانِ ..
تخطفُني المساجدُ من علامات البلوغِ
فأستجيرُ ببذرةٍ في الروحِ
لم تتركْ تَمَلْمُلَهاَ ولم تركنْ إلى الوهم الأنيقْ
حتَّى إذا أعشبتُ في الأعماقِ
حاولتُ القصيدةَ
كي تُدَرِّبَني
على تقليمِ هذا العشبِ في روحي
وتُلْهِمَني التَّصوُّفَ للفراشةِ
والتبتُّلَ للبنفسجِ والتنسُّكَ للرحيقْ
لِيَ أصدقاءٌ في الحديقةِ
كلَّما ناجيتُهُمْ
فَزَّتْ من الأعشاشِ أطيارُ الحنينِ
ومال ناحيةَ الصِّباَ غصنُ الحكاياتِ الوريقْ
ودمي فصيلتُهُ الفلاحةُ
فالحقولُ من النخاعِ إلى النخاعِ
ونصفُ أوردتي زغاردُ ..
نصفُ أوردتي نقيقْ !
وعلى جذوع النخلِ في بلدي
تَسَلَّقتُ السنينَ إلى أعالي العُمْرِ ..
عَرَّيتُ المدَى الممتدَّ في جغرافياَ الإنسانِ ..
نَقَّبتُ الخرائطَ باتّساع النَّفْسِ ..
بَلَّلتُ القصائدَ
في بحيرات المجازات البعيدةِ ..
تائهاً في رحلة المعنى من المجهول للمجهولِ
أنحتُ وجهَ هذا الوقتِ في حَجَرِ الحنينِ
وأمتطي ريش الأغاني
طائراً ما بين هاويتينِ
حيث الدربُ من نفسي إلى نفسي طويلٌ كالزمانِ
ولا دليلَ يقودُني نحو الحقيقةِ
غير رائحةِ العفونةِ ..
لا دليلَ يقودُني نحوي سوى الأَلَمِ العميقْ
فأنا برغم(الأربعينَ) من التَّشَرُّ دِ
ما اتَّفقتُ مع الطريقْ !
من لعبةِ (القُمَّيْمَةِ) الأُولَى
تَعَلَّمتُ الهروبَ من الحقيقةِ
كي أُخَبِّئَني وراء الرمزِ عن نفسي..
تَعَلَّمتُ الدروبَ إلى(المجازِ)
لأختفي في الضِّفَّةِ الأخرَى من الكلماتِ ..
ها هِيَ لعبةُ(القُمَّيْمَةِ) الأُولَى
تُكَرِّرُ نفسَها في كلِّ أزمنتي
وتتبعُني إلى لغتي
وها إِنِّي
خرجتُ الآنَ من تحت السريرِ إلى المخابئِ في السطورِ ..
نزلتُ من أعلى السطوحِ إلى الملاجئِ في الجروحِ ..
تركتُ دولابَ الملابسِ نحو دولابِ الهواجسِ ..
هكذا تمتدُّ(قُمَّيْماَتُ) هذا العُمْرِ
والعَبَثُ المجرَّدُ في مساحتِها يضيقْ
أودعتُ كلَّ عناصري في الشِّعرِ ..
إنَّ الشِّعرَ(أنكيدو) الصديقْ
وسَرَتْ خُطايَ على خُطَى(جلجامشَ) الأولَى
فصارعتُ الوحوشَ على مدَى روحي
ومشَّطتُ المسافاتِ الطويلةَ كالجدائلِ
غيرَ أنيَ لم أُفَتِّشْ في دروب الغيبِ عن أبديَّتي..
فَتَّشتُ عن مستلزمات الروحِ
في كينونةٍ صَدِئَتْ
إلى الإكسيرِ من أعماقِ داخليَ السحيقْ
جَرَّبتُ أنسجُ لي
قميصاً من تشابيهِ البديعِ
مُشَجَّرَ الرُّؤيا
يُجَسِّدُ من صفاتِيَ ما يليقْ
جَرَّبتُ أختارُ الوسيلةَ في عناق الموتِ
حين اخترتُ موتاً شاعريا
واحْتَرَبْتُ ومضغتي..
إنَّ القصيدةَ لم تكنْ إلاَّ غنيمةَ حربِنا:
أنا معْ أنا !
ودماؤُنا هِيَ ما نُريق
ودخلتُ في المرآةِ ..
نَظَّفتُ الغشاوةَ حول ذاكرة الزجاجِ
فلم أَجِدْني في ملامحِ صورتي
وكأنَّني ضَيَّعتُ في الغُرُباَتِ أصليَ
وانزلقتُ إلى حدود اللاَّ وجود..
هناك أَوْقَفَني المجازُ وقال :
كُنْ مرآةَ ذاتِكَ كي ترى المرآةَ
أصدقَ من عيون الصقر في لغةِ البريقْ
إنِّي تعبتُ بِقَدْرِ أحلامي..
تعبتُ بغربةٍ
تمتدُّ من يوم (الحسينِ )
إلى نهايات الفجيعةِ في ظهور(القائم المهديِّ)..
ها إنِّي يَئِسْتُ من الخلاصِ
فهل يكون اليأسُ من إحدى علاماتِ الظهورِ؟
وهل بوسع الروح أن تنسلَّ من هذا المضيقْ
شَبَّتْ يدي يا ربُّ من (جمَراَتِ) أسئلتي..
و(أرمي)
لم أُصِبْ (صَنَماً)..
وها أنا في مداكَ الرحبِ أضحيةُ المكانِ ..
فيا تُرَى
ما كان يحدثُ ها هُنا
لو لم أجئْ ..
لو أنَّ قطعانَ الضحايا لم تَزِدْ كبشاً؟
وماذا سوف يحدثُ
لو تَلاَشَتْ خيمةٌ من عالم المنفَى؟
ستبكرُ جمرةُ التَّسآلِ يا ربي ويندلعُ الحريقْ
فأنا برغم(الأربعينَ) من التَّشَرُّدِ
ما اتَّفقتُ مع الطريقْ
رَنَّ الصدَى..
وهناك شَفَّ عن المدَى
طفلٌ يهاتفُني من الأنقاضِ
في أكنافِ ضاحيةِ الصِّباَ
حيث انتشيتُ أنا وقلبيَ
وانثنيناَ نستعيذُ
بكلِّ حُلْمٍ لم يُفِقْ
من كلِّ حُلْمٍ يستفيقْ !
يا هاتفَ الأنقاضِ
يا طيرَ الهديلِ على جبال الأمسِ ..
زُرْنِي..
ها هنا بيتي بمنطقة الكهولةِ
حيث عنواني سعاليَ
والغوايةُ جارتي
وإقامتي في العُمْقِ من(حَيِّ) النعيقْ !
لمْلَمْتُني ودعوتُ طفلاً كُنْتُهُ
ثمَّ اجتمعنا في المُنى :
أنا مَعْ أنا
وسرَى الخيالُ بنا وئيداً
في زقاقِ الذكرياتِ
وكلَّما طُفْناَ هناكَ على جدارٍ خِلْتُهُ قلبي
فقلبيَ والجدارُ كلاهما متصدِّعٌ من خشية الأيَّامِ ..
قلبيَ والجدارُ كلاهما ما زال يحفظُ صوتَ أُ مِّيَ
وَهْيَ تدعو أنْ أُقَلِّدَها بِمِسْبَحَةٍ من الأطفالِ
ثمَّ بدأتُ أنظمُهُمْ على بركاتِ دعوتهِا
وأنظمُ ثمَّ أنظمُ
لم أُفِقْ مِمَّا نظمتُ سوى على قيدٍ وثيقْ
سَقَطَ الزمانُ عليَّ
أثقلَ من سقوطِ الشاحناتِ ..
وكلَّما عَمَّرْتُ أكثرَ
صرتُ أحتاجُ القصيدةَ
ضعفَ ما أحتاجُها من قبلُ ..
أحتاجُ القصيدةَ
كي أُطَبِّبَ بعضَ أوجاع الحقيقةِ
تحت تخدير المجازِ
لعلَّني يوماً أطيقُ من الأسىَ ما لا أطيقْ
فأنا برغم(الأربعينَ) من التَّشَرُّ دِ
ما اتَّفَقْتُ مع الطريقْ
وأكادُ أسقطُ في القنوطِ
وليس ثَمَّةَ صخرةٌ في الأرضِ
تسندُني إذا شئتُ السقوطَ سوى الكتابةِ ..
كلَّما ضاق المدَى
وَسَّعْتُهُ بقصيدةٍ ..
وإذا اختصمتُ ونطفتي حول اليقينِ
جاسم بن محمد الصحيح،شاعر و أديب سعودي من مواليد مدينة الاحساء في المملكة العربية السعودية أبهر جاسم الجمهور بأسلوبه المرهف في كتابة القصائد والتي منحته الفوز بالعديد من الجوائز في ...