طفنا بنادي عُلًى بالبشرِ ملتَمِع
كم ضمَّ للأُنسِ من كهلٍ ومن يَفع
وربَّ شادٍ هناكَ اهتاجَ ذا ولع
وربَّ مجلسِ أُنسٍ فوقَ مرتفع
قد طالَ إيوان كسرى الملك إيوانا
بناءُ عزٍّ ولكن سقفُه كرمٌ
حتَّى عليه الثريَّا لم تطأ قدمٌ
ذو منظرٍ عنه ثغرُ الدهرِ مبتسمٌ
تودُّ لو أنَّها تحكي له إرمٌ
وعرشُ بلقيسَ أن يحكيه أركانا
رباعُهُ لم تزل يا ميُّ آهلةً
بمن كم افترضوا للوفدِ نافلةً
فمن شذا فخرِهم إن رحتِ سائلةً
تجري الصَبا الغضُّ في مغناهُ حاملةً
له بأردانِها شيحاً وريحانا
ومع نديمٍ كأَن حيَّا بمجمرَةٍ
مفاكهٍ بأناشيدٍ معطَّرةٍ
ذي طلعةٍ مثلَ وجهِ البدرِ مسفرةٍ
في ليلةٍ مثل صدرِ الصبحِ مقمرةٍ
بتنا بحيث تبدَّى الفجر نُدمانا
بتنا ومجتمعُ اللَّذاتِ مجمعُنا
ونشوةُ الأُنسِ لا الصهباءِ تصرعُنا
تُحيي الدجى وتميت الهمَّ أجمعُنا
جذلاً سُكارى وإبراهيم يُسمعُنا
نشائدَ الشعرِ ألحاناً فألحانا
عنوانُ أخبارِ أهلِ الفضلِ إن رُويت
قرآنُ آياتِ علياها إذا تُليت
لسانُها للمقالِ الفصل إن دُعيت
إنسانُ عين بني الدنيا لقد عَشِيت
عينٌ رأت غيرَه في النَّاسِ إنسانا
لم تحكِ أخلاقَهُ الصهباءُ مُرتشفا
ولم تماثِلهُ أربابُ النهى ظَرفا
ممَّن ترى الكلَّ منهم سابقاً أنفا
قد فاتَ أقرانه ثمَّ ارتقى شرفا
فما ارتضى النسر والجوزاء أقرانا
يَفوقُ حيَّ ملوكِ الأرضِ مَيتهمُ
وفوقَ أنماطها يجري كميتهمُ
دعني ومدحهم إنِّي رأيتهمُ
من سادةٍ شرعةُ الإِسلام بيتهمُ
سادوا جميعَ الورى شيباً وشبانا
بيتٌ تُفاخِرُ هام الصيد أرجلُنا
على ثراه فتهوي فيه تحمِلنا
يا ليلةً طاب فيها منه مَنزلنا
بتنا ومُذهبَةُ الأحزانِ تشملنا
بحرٌ تناول منه نوحُ طوفانا
لزورقِ الفكرِ شبحٌ في جداولِه
وطائرِ البشرِ صدحٌ في خمائلِه
قد شفَّ عن دُرِّه صافي مناهلِه
وخضرةُ الروضِ حفَّت في سواحله
فروضُهُ روضةً الفردوسِ أَنسنا
روضٌ من الأُنسِ في طَلِّ الهنا خظل
كم فيه حيَّا الندامى شادنٌ غَزِلُ
وعاطشُ الخصرِ ريَّانُ الصِبا ثملُ
وأهيفُ القدِّ قاني الخدِّ معتدل
إذا بدى وتثنَّى أخجلَ البانا
ظبيٌ من الأُنسِ باتَ الحُلي باهِضه
ذو مبسمٍ همتُ لمَّا شُمتُ وامضه
لهوتُ فيه غضيضَ الطرفِ خافضه
قد خفَّف اللينُ خدَّيه وعارضَه
وثقَّل السكرُ من عينيه أجفانا
غضُّ الشمائلِ من زهو الصِبا طرِبُ
كم جدَّ في مهجتي من لحظِه لَعِب
ضربٌ من الخمرِ ما في فيهِ أم ضَرَب
مهفهفٌ غنجٌ في ثغره شنَبُ
ولؤلؤٌ رطبٌ ريقاً وأسنانا
أُجيلُ فكريَ طوراً في حواضِنه
أيُّ الجواهر كانت من معادنِه
وتارةً في هوى قلبي وفاتنِه
أُسرِّح الطرفَ من معنى محاسنِه
فيرجعُ الطرفُ عن معناهُ حيرانا
أنشى لنا الأُنسَ مذ غنَّى لنا هَزجا
فردَّ منَّا خليعاً كلَّ ربِّ حِجى
قد راقَنا بهجةً بل شاقنا دَعَجا
أَظنُّه كانَ شمساً أو هلالَ دُجى
أو ريمَ رملٍ براهُ اللهُ إنسانا
مفضَّضُ الثغرِ ذو كفٍّ مخضَّبةٍ
ووجنةٍ من دماءِ الصبِّ مُشربَةٍ
مرخى فروعٍ كنشرِ المسكِ طيبةٍ
يشتدّ بين الندامى في مُذهَّبةٍ
كالشمسِ مشرقةً في أُفق مَغنانا
لم أدرِ هل سُكبت من ذوب عسجدِه
أم خدُّه قد كساها من تورُّده
أم استعارت سناها من توقُّده
إذا هوى يلقِطُ الألبابَ من يده
سُلافُها خلتَها ناراً وقُربانا
فمن طِلاً أشفعَت لي في استيافَتِه
وريقةٍ عذُبت لي في ارتشافته
حيَّا بخمرينِ زادا في ضرافته
فقمت أشربُ حيناً من سُلافَته
ومن لمى ثغرهِ المعسولِ أحيانا
منعَّمُ الجسمِ لا شالت نُعامته
ولا انمحت من بياضِ الخدِّ شامتُه
كم عاد بالكاسِ تجلوها ابتسامَتُه
حتَّى إذا أخذت منَّا مُدامتُه
وقد تشابَه أقصانا وأدنانا
غنَّى لنا فصحونا منه عن فرحِ
كأَنَّنا ما شربنا الراحَ في قدحِ
وحيثُ كنَّا أخذنا منه في مِلح
وناولتنا غُبوقاً كفُّ مُصطبح
أماتنا السكرُ أحياناً وأحيانا
نعم ألمَّ ونامَ الحيُّ ظبيهمُ
يُعطي الندامى من الصهباءِ ما احتكموا
حتَّى بهم صاحَ داعي الفجر ويحكمُ
يا رُقبةَ الحيّ هبوا طالَ نومُكمُ
قوموا وإن لم تقوموا كانَ ما كانا
لقد حلفت ببيتٍ فيه ظلَّلنا
رواقُ عزٍّ عَلاهُ طاوَل القُننا
لا خفتُ دهريَ لا سرًّا ولا عَلنا
أنختشي والتقيُّ ابنُ التقيِّ لنا
سواعدَ البطشِ يمنانا ويسرانا
مولًى تودُّ الدراري أنَّها حَسِبت
منه مناقبَه أو فخرَها اكتسبت
يعزوه طوراً إذا أهلُ الحِجى انتسبت
وذلك المجلسُ السامي به رسبت
أركانُه وسمَت بالعزِّ كيوانا
نادٍ قِرى الضيفِ مِن إحدى عوارفه
والوفدُ طائفهُ فيه كعاكفه
ينسيهمُ الأهلَ أُنساً في طرائفِه
إن أخمصَ القومُ نالوا من صحائفه
ما تشتهي النفس ألواناً فألوانا
ببابه تتلاقى السبلُ مُشرعةً
إذ لم يكن غيرُه للجودِ مَشرعةً
تؤمُّ كوثرَه الوفَّاد مُسرعَةً
ومن صدى ينضرِ الأقداحَ مترعةً
فيغتدي بالفراتِ العذبِ ريَّانا
به النقيُّ عليُّ القدرِ كوكبُها
تهدى به إن أضلَّ الركب غَيهبُها
خبرٌ صفى منه للورَّادِ مشربُها
غيثٌ إذا انهمَرت كفَّاه تحسبها
إن قطَّبَ العامُ سيلاً أمَّ بطنانا
لئن تجلَّى أخو مجدٍ بسؤددِه
وزانَه في البرايا طيبُ محتدِه
فإنَّه والمعالي بعضُ شُهَّدِه
قد طوَّقَ المجد جيداً يوم مولده
وقرَّط العلمَ والمعروفَ آذانا
عفُّ السريرةِ ذو نفسٍ مُبرَّأةٍ
معصومةٍ بالتقى من كلِّ سيِّئةٍ
عن مدحه أيُّ حسنى غيرُ مُنبَئةٍ
لو أُنزِلَ اليومَ قرآنٌ على فئةٍ
بعد النبيّ لكانَ اليومَ قرءانا
كم آملٍ صدقت فيه عافيتُه
جوداً وكم مَلكت نفساً ظَرافتُه
أجل وكم فطرت قلباً مخافتُه
من بيتِ مجدٍ لقد شيدت غرافتُه
فكان للعلمِ بين الناسِ عُنوانا
محضُ النجارِ كريم الفرعِ طيّبهُ
سامي العُلى من نطافِ العزِّ مشربه
من أُسرةٍ ودُّها القرآنُ موجبُه
وسادةٍ كلُّ من تلقاه تحسبُه
آباؤهُ مضر الحمرا وعدنانا
لولاهم حبوةُ الإِسلامِ ما انعقَدت
ولا شريعته أنهارُها اطَّردت
قومٌ هُم سرُج الإِيمان لا خمدت
فكم مصابيحِ علمٍ فيهم اتَّقدت
مثلَ المصابيحِ لا تحتاج برهانا
بمقطعِ الرأيِ كم أوهَت مذ اعترضت
صَفاة حجةِ أهلِ الشركِ فاندحضت
أجل وكم ركنِ غيٍّ مُحكمٍ نقضَت
وكم يراعٍ لهم أسنانُه لفظت
فوائداً أحكمَت للعلم أركانا
منازلُ الملأِ الأَعلى منازِلُهم
وفي السما شرفاً تُتلى فضائِلُهم
أكارمٌ تغمرُ الدنيا نوافلُهم
فقل لمن قد غدا جهلاً يطاوِلهم
قَصِّر ولا تدَّعي زوراً وبهتانا
يا مَنسِمَ الفخرِ قِف واترك مصاعبَهم
أتعبتَ نفسَك لن تسمو غواربهم
هيهات فاتَكَ أن تحوي مناقِبَهم
ما أنتَ والقومُ ترجو أن تغالِبَهم
نعم إذا غالَبَ العُصفور عقبانا
فَمُت بدائِكَ عن غيظٍ توهُّجهُ
يوري الحشا ومساعيهم تؤَجِّجهُ
فنهجهم للمعالي لستَ تنهَجه
ولا تُريعُ لهم سرباً وتُزعِجه
نعم إذا أزعجَ اليعفورُ سرحانا
بني العُلى طابَ في العلياءِ مغرسُكم
وللهدى والندى ما زالَ مجلسكم
عواصبٌ بجلالِ الله أرؤُسكم
فلا تزالُ يدُ الأفراحِ تُلبِسكم
طولَ المدى من ثيابِ البشرِ قمصانا
ولا تزالُ عِداكم تشتكي عِللاً
بين البريَّةِ فيها تَغتدي مَثلاً
عوارياً من لباسي عزَّةٍ وعَلاً
ونحن نَلبسُ من أيديكم حُللاً
نجرُّ فيها على الجوزاءِ أردانا
ملابساً كلَّما مِسنا بهنَّ ضحًى
رأت حواسدُنا من غيظها بَرحاً
كأنَّنا في الورى من تيهنا فَرَحاً
نختالُ فيها على أنفِ العِدى مرحاً
وخيرُ أمرٍ أغاضَ اليومَ أعدانا
حيدر بن سليمان بن داود الحلي الحسيني. شاعر أهل البيت في العراق. مولده ووفاته في الحلة، ودفن في النجف. مات أبوه وهو طفل فنشأ في حجر عمه مهدي بن داود. ...