جسدٌ يمتزج فيه الحديد بالملح، يخترق الوقت والمكان في جحيمٍ يضعك تحت وطأة البهو. لا تطالك طبيعة الناس ولا يعود الكلام خاضعاً. مألوفٌ تخرج عليه في مشهدٍ يشبه لحظة امتثال الشيء للشكل، يتخلق في حمـأة الأنين. فضاء أخلاطٍ تتقلص فيه الأطراف ويصير للسماء الخشنة كتابٌ وللحديد فص يتطوح في عنقٍ تحرسه قرونٌ سودٌ ترسل ألسنةً من شواظٍ، والباب ينفرج في شكل أجنحةٍ، لكأن الكائن يوشك على الأوج، فينفض جسده كمن يطرد عناكب عالقةً ويميل ويعطف.
هذه أرضٌ كـلمت بها.
ألـج فيها الموصد، فأصل جنوب الناس. أصل. وحيث أضع نظري يكون قتلاً كثيراً وصلباً وخوازيق. ليس بين هذه الأرض وأحلامي صلةٌ، ليس بينهما علاقةٌ ولا أمل .
كلمني وقال لي :
تصل أرضاً لا تعرف فيها طبيعة الحياة من طبيعة الموت . أهلها أعداء أنفسهم. لا يرحمهم أحدٌ بيتهم في شفرة الكوابيس، مقتولون مخوزقون. ترفض ذكرهم الكتب ويتعفف الرواة عن أخبارهم. ظهورهم مغدورةٌ بالعدو الصديق.
آخر ما كلمني به :
تخرج من حديدٍ قاتلٍ في هيئة الوحش لتألف الحديد المقتول . ترى إلى الناس تـنسـل في أجنحةٍ كثيفةٍ هاربةٍ من أتونٍ فارأف بها. حديدك الأول أمعن في الشحذ أمعن في الطعن أمعن في سلخ الجلد وكسر العظم ،فارأف بمخلوقاتٍ تنسـل من سلالة الخوف وتلجأ.
كلمني ،
وها أنا أرتجف في بـهوٍ ليس بيني وبينه غير حديدٍ، أخرج منه وحديدٍ يسور المدى. ليس هذا لي. لست من هذا المشهد، لست منه ولست فيه. خرجت من حديد العربات لئلا أنهار في خرائب الطبيعة. خرجت. أمامي الأبواب حتى عتبة المنتهى وشريعة الفرار. هذه فجوة الأرض، ولأحفادي فسحة الأفق. وفي الأعالي سيرة الوحش الداجن يحيا ويحرض العناكب اللبونة لتمنع الهواء .
من يتبع الحديد منتقلاً من خطأٍ إلى خطيئة.
آخر ما كلمني عنه :
يرخي عنقه الشاهقة ليلمس بحراشفه الرهيفة ساكني الخيام والأكواخ وصعيد الأرض. يكلل مأتم العرس بمغفرة البوح .
كلمني ،
فهتفت بالأحفاد. هتفت :
مـن ينقذ الحديد منتقلاً من خطأٍ إلى خطيئةٍ.
هكذا .. هكذا أعطي لشهوة الأحفاد حرية الفرار.
هكذا أنزاح مثل طوفانٍ يجنح .
هكذا أخلع الماء جلموداً منزوعاً من أفئدة الناس .
هكذا ..
هكذا ...
يشهد الفضاء الشاسع تفسخ التخوم. ليخرج من هيئةٍ ويدخل في هيئةٍ. فترى الأعالي كيف يصير اللحم والعظم والجلد والريش والحراشف البشرية حديداً مائعاً وموقد يصهر الأشياء ..
كما يحلو له
كما يحلو له .
فتتفلت نحو رحمٍ لا يتمخض ولا يجهض ولا يلد. يرتـج لوقع جنازير المعدن الرديء مكتنزاً ببشرٍ لم يسعهم الوقت للكـر، يهبهم المكان للفـر من وصايا الطريق وأحوال السفر.
إذن كنا صدقنا الأكاذيب التي تتماهى بها الطيور والحجارة متقمصةً التلال. كنا صدقنا كلام البومة عن خدينة الشؤم، لا يطيب لها سوى وليمة الجيف والجآذر بين الثقب والثقب لتقع في البراثن. كنا صدقنا أن النفائس التي ليست للنهب منهوبةٌ، والأطفال المجنحون بشمعداناتهم المضاءة في ليل الكون ليسوا إلا نقوشاً في هامش الرمل، تركتها قوافل الحديد تمشي وئيداً دون اكتراثٍ ولا محبةٍ. كنا صدقنا أن الخرائط التي تسور الأفق ليست إلا أصداء عويلٍ يشخب بالدم والدموع. كنا صدقنا أن الوطن بيتٌ لأطفالٍ يرشون الرمل بأحلامهم ويمشون بخطواتٍ راعشةٍ تمزج القلب بالقدم. كنا صدقنا كل ذلك لنعرف غوايةً يجترحها الكلام لمستقبل المخلوقات وخديعتها. إذن كنا صدقنا الأكاذيب كلها.
قاسم حداد ولد في البحرين عام 1948.
تلقى تعليمه بمدارس البحرين حتى السنة الثانية ثانوي.
التحق بالعمل في المكتبة العامة منذ عام 1968 حتى عام 1975
ثم عمل في إدارة ...