المشربُ ليس بعيداً.. ما جدوى ذلك! أنتَ كما الإسفنجةُ تمتصُّ الحاناتِ ولا تسكر يأخذُكَ الحزنُ لكاساتٍ تُركتْ طافحةً للصمتِ أكانوا عشّاقاً غلب النومُ عليهم؟ غرباءً تعبوا من هذي الدنيا والموتُ تأخَّر؟ أم بضعة منحطّين اجتمعوا كلقاءات القمّةِ واختصروا المحضر وتداعب كرسيّاً أكلته العثّةُ تلمسُ بردَ امرأةٍ تركته لتبحثَ عن دفءٍ لو كنت قبيل قليلٍ أدفأتَ يديها الباردتين وتشعلُ كالشعراء المغمورين سيجارتها : سيدتي هل يقتلكِ البردُ؟ أنا يقتلني نصفُ الدفءِ ونصفُ الموقفِ أكثر نحن بغايا أيضاً سيدتي.. كل مساءٍ يأخذنا القهرُ ويفعل ما شاء يأخذنا الفكر الكاذب.. والدين الكاذب.. والصمت الكاذب.. ولقد يُطلبَ منا أكثر مما يُزنى فيكِ وبعض المحسوبين على الجهتين يقدّمُ ما هو أخطر نخبك سيدتي ما بعتِ سوى اللحم الفاني فالبعضُ يبيعُ اليابس والأخضر ويدافع عن كل قضايا الكون ويهربُ من وجه قضيته سأبولُ عليه وأسكر.. ثم أبول عليه وأسكر.. ثم تبولين عليه ونسكر المشرب غصَّ بجيلٍ لا تعرفه.. لغة لا تعرفها سيّدتين تحيكان حديثاً أسود والكلُ يحدّق فيكَ كأنكَ من أهل الكهف ويضحكُ من تقطيبة عمركَ غِرٌّ ما خطّتْ بعدُ شواربه تتفحّصُ نفسكَ أزرار قميصكَ سحّاب السروال لعل الغرَّ .. وتطبقُ جفنيكَ على زمنٍ ولّى وصحابٍ كانت حانةُ أمسِ بهم حافلةً بالنبل وأخلاق الخمر وأكثر من كاسات البلّور يشفّون إذا امتدَّ الليلُ لقد كان زمان تهمد في زاويةٍ عشعشَ فيها الإهمالُ ولا تهتمّ بأمرك إلا الخمرة تدفئ ساقيكَ الميتتين وتنعش شمَّكَ لامرأة في أقصى الحانة ما انشقَّ الثوب على عبقٍ أعذبَ من فخذيها وتحسُّ وراء الثوب فحيحاً وصنوجاً بيضاءَ ويأخذ سروالك بالهذيان وتحاول في جهدٍ أن تتذكرَ أين تعرفتَ على أول نهدين أبيّين وأين تفقّهتَ بأول جرعة خمرٍ وغدوتَ تؤلّف في فقه النهد وليس يُشَقُّ لفتواكَ عنان تتمنى واحدةً تأخذُ رأسكَ مما صار يطن ويصفرُ وانحنت المرأة ترأبُ شقَّ الثوب على فخذيها فرأيتَ بنفسج ما بين النهدين وآخرَ ما اجتهد التفّاحُ وصاحَ الرمّانُ وفاحَ البستان وتحدّقُ في أرجاء الحانة كل قناني العمر لقد فرغت والنادل أطفأ عدّة مراتٍ لتغادرَ هذى الكأس واترك حانتك المسحورة يا نادل لا تغضب فالعاشق نشوان املأها حتى تتفايضَ فوق الخشب البنيِّ فما أدراكَ لماذا هذي اللوحة للخمر.. وتلك لصنعِ النعش.. وأخرى للإعلان.. املأها علنا ... يا مولاي فما أخرج من حانتك الكبرى إلا منطفأً سكران أصغر شيء يسكرني في خلقِكَ مولايَ فكيف الإنسان سبحانكَ كل الأشياء رضيتُ سوى الذل وأن يوضعَ قلبي في قفصٍ في بيت السلطان ورضيتُ نصيبيَ في الدنيا كنصيب الطير ولكن سبحانك حتى الطير لها أوطان وتعود إليها وأنا ما زلت أطير فهذا الوطن الممتدُّ من البحر الى البحر سجونٌ متلاصقةٌ سجّانٌ يمسك سجّان
ولد مظفر النواب في بغداد عام 1934 لعائلة شيعية أرستقراطية ذات أصول هندية وكانت تهتم للغاية بالفنون والآداب والشعر والموسيقى، وكثيراً ما كان قصر العائلة المطل على نهر دجلة مقراً ...