على صهوةٍ من دُخانِ الرؤى، فوقَ سجّادة الصمتِ أجلسُ مستبطنًا عمقَ ذاتي وحيدًا ومستوحِدًا في الخفاءِ وأنظرُ في داخلي ثمَّ أُصغي إلى صوتِ روحي، وأبكي. وأُصغي إليهم، فرادى يمرّونَ منتصبينَ وهم يطَؤون العماءَ بأحلامهِم وأشيرُ إليهم وأعرفُهم واحدًا واحدًا وأقولُ لنفسيَ: ها هم يمرّون أسلافيَ الغابرون البعيدون، أعلو على زمني وأنا فوقَ سجّادةِ الوقتِ، أعلو، ألوذُ بذاتي، بصمتي، وأستبطنُ الخافياتِ الخبيئاتِ في رحلتي ساجيًا، ساهيًا، كالكآبةِ، ملتَبِسًا كالصَّلاةِ ويرفعني الصمتُ فوق قبابي الخفيضات يأخذني الصمتُ كالهذيانِ إلى العَتَباتِ وأعْرُجُ، أرقى إلى هيكلِ الذاتِ مستترًا في انكشافي على النورِ مستيقظًا من سباتي خفيفًا، شفيفًا، نقيًّا، تقيًّا ألوذُ بذاتي وأسرارِها صامتًا كاهنًا أخرسَ الفَمِ مرّتْ ثلاثُ ليالٍ سويّا وما زلتُ أومئُ رمزًا نبيّا غريبَ التُّقى ليسَ يسمعُني العابرونَ إلى حزنِهمْ ليسَ يسمعُني العابرونَ إلى صمتِهمْ صامتٌ وأصلّي إليكَ وأرجوكَ يا وطني يا حبيبي ويا سندي سندي إذ تداعى وغادرني فتداعيتُ، قلتُ: تمسّكْ بأجنحتي يا حبيبي ويا سندي ليسَ لي أجنحةْ. وما الريشُ هذا سوى تعبي يا أبي تعبي من حصادي وزادي وهذا يَقيني تمسّكْ إذن بيقيني لننجو معًا، هل يقيني يقيني، يقينًا؟ أنا لا أباهي هنا بالخساراتِ لكنَّ بابَ الفجيعةِ منفتحٌ كالمسارِ على ردهةِ الموتِ أجفلتُ إذ أدركتْنا المفازةُ واستوقفَ القومَ ظلٌّ بعيدٌ وأنبأنا الصوتُ عبر المدى لا تمرّوا، وأجفلتُ إذ قالَ لي سَلَفي: لا تمرّوا، تنّحَّ بنا جانبًا يا بُنيَّ سيمضي الهواءُ الخبيثُ وينحسرُّ المدُّ، ينفتح الضوء من قبّةٍ في السماءِ تمهّل قليلًا إذنْ أيّها الموتُ كيما يودّعُ موتى قريبون موتى بعيدين في موتهمْ وتمهّلْ كذلك كيما يقيمُ الفراغُ احتفالاتِه باندثارِ الحياةِ على الأرضِ كيما يدثّرها بالخرابِ تنحَّ إذنْ جانبا يا بُنَيَّ سيمضي الهواءُ الخبيثُ وينفتحُ الضّوءُ، لكنْ متى يا أبي؟ إنني غائمٌ وأصلّي لأجلكَ يا وطني وأصلّي إليك أنا غائمٌ لا أرى في المدى نجمتي نجمتي تتهادى بدوني وتمضي إلى سَمْتِها، تتهاوى وأمضي أنا لشجوني ويا وطني لا تخُنّي وبدِّدْ ظنوني أنا أتّقي بيدَيَّ انهيارَ الجهاتِ وأسندُ ما انحنى من جدارِ الغروبِ وأرتُقُ ثوبَ الموانئ وهي تطوفُ على الماءِ تحشرُ في حِجرِها سفنَ الوقتْ.. تنامُ الضفاف.. أنا فاترٌ وأصلّي إليكَ أنا لم أعُد مثلما كنتُ من قبلُ في الغليانِ أهيّئُ قهوتَنا في الصباحِ أنا مُطفأٌ يا أبي أوَتطلبُ من جمرتي قَبَسًا؟ أنت يا أبتي لا تنيرُ كما كنتَ من قبل تشعلُ أرواحنا وأنا لمْ أعدْ مثلما كنتُ مؤتلِقًا وكلانا يعاتبُ صاحبهُ وكلانا ينوسُ أسى مثلَ فضّةِ أقمارنا هل أنا مَنْ سيرفعُ أحلامَكَ الجانحاتِ التي سَقَطتْ؟ أم أنا مَن يلوذُ بكَ الآن؟ مَن يا حبيبي سيبكي إذنْ قبلَ صاحبِه! أيُنّا سوفَ ينجو بأحلامِه! أيُّنّا سينام! أنا لستُ أرثيكَ يا صاحبي وحبيبي أنا لا أخونُك يا ملَكي ونصيري وتاجي ويا رفعتي يا طحيني وقمحي وزادي وضَوء ابتهاجي ويا نشوتي، يا احتجاجي على الموتِ يا حارسي وسياجي ولكنْ سأُعلي الرؤى وألوذُ بصمتي ثلاثَ ليالٍ سويّا وما زلتُ أومئُ سرًّا خفيّا ويا زكريّا سيولَدُ يحيى سيولَدُ يا زكريّا.
جريس سماوي شاعر وأديب وأعلامي ومثقف أردني،من مواليد الفحيص ولد سنة 1956م، درس الأدب الإنجليزي والفلسفة وفن الاتصالات الإعلامية في أميركا.عمل في التلفزيون الأردني وقدم مجموعة من البرامج التي تتصل ...