كان كذاك الليل مشتدِّ الحلكْ
شاملاً كل البرايا في سكونْ
لم يكن إلا مصابيح الفلكْ
تتلألأ وسط هاتيك الدجونْ
والكرى مستغرق كل الأنامْ
قد أوى كلٌّ إلى مهجعه
طلب الراحة من بعد العنا
واستراح المرء في مضجعه
راقداً بالبشر في مهد الهنا
وعيون الله يقظى لا تنامْ
قامت الأم اذ الطفل بكى
وأنامته إلى جانبها
أرضعته إذ درت ما قد شكا
واستمدت رأفة الله بها
ثم قالت: نم أيا ابني في سلامْ
نم بصفوٍ وهناءً يابني
يا منى روحي ويا كل الوطرْ
آه هل يكحل يوماً مقلتيّ
أن أراك اجتزت أيام الصغرْ
إن هذا جلُ قصدي والمرامْ
يوم ألقاك غلاماً يافعاً
زاهياً كالبدر في وقت الكمالْ
ولأهليك محباً نافعاً
ولدى الأقوام محمود الخصالْ
صادقاً في كل فعلٍ وكلامْ
يوم تغدو فائزاً بين الورى
بالمعالي وبفعل المكرماتْ
فأرى فيك هنائي الأكبرا
وتهنيني جميع الأمهاتْ
وأنال المز في أعلى مقامْ
يا الهي احفظ بخير ولدي
منمياً إياه في خير سبيلْ
واستمع صوتي وحقق مقصدي
أيها الرحمان ذو اللطف الجزيلْ
أنت مولي الخير والشافي السقام
ثم نامت بعد ما قد رفعت
نحو باريها يديها بالصلاة
أيقنت أنَّ دعاها مذ دَعتْ
بلغ الله إلى أعلى سماهْ
وسيعطيها مناها بالتمامْ
فرأت في حلمها أن ابنها
واقفٌ عند شفير الهاويةْ
كاد أن يسقط لولا أنها
أدركته ووقته الداهية
وكفته الوقع في أيدي الحمامْ
وإذا ليثٌ بدا خلفهما
وهما لم يبرحا عند الشفيرْ
لم يكن منه مفرٌّ لهما
لا ولا منه معينٌ أو مجيرْ
حيث باتا عرضة الموت الزؤامْ
وقعا بالضنك بين الخطرين
أن تولى خطر حل خطرْ
لم يكن إلا بإحدى الميتتن
من نجاةٍ لهما أو من مفر
آه كم أقلقها ذاك المنام
وإذا برق حسامٍ ومضا
غادر الليث على الترب صريعْ
ويدٌ مدَّت سريعاً في الفضا
نحو تلك الأم والطفل الوديع
قصد أن تهديهما دار السلامْ
ثم جاءت بهما روضا ًبه
كل ما يبهج مرآه البصرْ
سمعت أذناهما من قربهِ
نغماتٍ لم يعوِّدها بشرْ
قد غدت تعزف من تحت الغمام
وهناك الأم حلت في حبورْ
لأبنها بين يديها تحمل
وعليها وعليه فاض نورٌ
نورُ ذي الشمس لهُ لا يعدلُ
بل لديه كل نورٍ كالظلامْ
سمع الأقوام صوتاً قد دوى
مثل صرح هدّه خطب جليلْ
أو كطودٍ من أعاليه هوى
وتلاه صوت نوحٍ وعويلْ
وبكاء واختلاطٍ وازدحامْ
ذاك خطبٌ أوجف اليوم البلد
آه ما أقسى تباريح الزمان
كلما قلنا سهام البين قد
نفدت والقلب منها في أمان
جددت أيدي الردى رشق السهام
معشر نامو مساءً في حبور
فاغتدت نومتهم للأبدِ
ولهم دورهم صارت قبور
بعد إذ كانت مقر الرغدِ
يتعاطون بها كأس المدامْ
رفعت جثة تلك الوالدة
وابنها من تحت تلك الرُّدُمِ
وهي كانت ليديها عاقدة
حول عنق الطفل عند المأتمِ
ياله من مشهدٍ يبري العظام
أيها الأم التي سارت إلى
جنة الأبرار قد نلت الأرب
ومع الطفل بلغت الأملا
دونَ أن تحتملا مرَّ النصب
في حياةٍ بؤسِ واغتمام
أسد الداء ومهواة الشقا
منهما نجاكما الباري الرحيمْ
سرتما والزاد برٌّ وتقى
أقرب السبل إلى دار النعيمْ
وبها أدركتما حسن الختامْ
جرجي بن شاهين عطية.
أديب وشاعر لبناني، من أصحاب المعاجم. أنشأ مجلة المراقب (1908 - 1913) وعمل في التعليم مدة طويلة.
أشهر كتبه (المعتمد - ط) معجم عربي مدرسي. وله (رد الشارد ...