"لا تخف يا بني، انتظرني ها هنا حتى أعود"
قال لي يومًا أبي؛ "انتظرني مهما طالت الآماد
ولو أطلت الغياب في أرخبيلات الرحيل والبعاد،
توكأ على نبيذ النجوم، مثل راهبٍ في عزلة الأعياد"
أبتي، لكأن بعض الضياء أعنابًا
تستسقى من قدح العنقود!
أمدُّ أناملي من خُلل الغيوم،
من ثقوب الفضاء النائية، وأحلم أن تعود.
ومضى أبي كسابق عهده، نحو المناجم مثل السندباد،
بحثًا عن لقمة الرزقِ وحلم الفردوس المفقود
بحثًا عن مدن الذهب المخفيّة وإرم ذات العماد!
وبقيت وحدي أحكي للجنّ عن مدينة بابل والنمرود
***
ومضى أبي ولبثتُ أحلمُ ظامئًا
بماء زمزم في ركوعي والسجود
ومدائن النمل من حولي تنازعني
بحثًا عن فتات الخبز في غسقٍ كنود
والعمر شمسٌ تقاسي رماد الخمود
تعومُ غارقةً في مرمدة الوجود،
والقلب نايٌ أضاع لحنهُ الجمود
خافت العزفِ بقايًا من صدى منسحب
لم تُدوزن جرذانَ نبضاته أسطورةُ الناي المسحور
مثلما يشتهي أو يحب، فكتمت صرختهُ الدهور
والعيون الموبوءة بعشق النساء والنهود
تجاهد ثعبانها المسموم في ليل اللعب
وتحلم بسراب لبوءة خلتها كلَّ من أحبّ
آه يا أبتي، دارت الكواكب بي كدواليب الخشب
وكما تدور الأرض برأس مستعبدٍ معذبٍ مجلود
وفي سيرك الحكايا ومسرح الدمى
رأيت العجب العجاب
وتغير موقعي في جغرافيات الشوك والورود
في صحارى الكدح وناطحات السحاب
أضعت حقيقتي، ونزعت هويتي،
راقصتُ في حذرٍ كلَّ حرباء حقود
فمن الحكمة أن تمسي نكرةً بلا صدى
مثل الجليد تحيا البرود!
وهكذا عمرٌ مضى يا أبي
وأنا بانتظارك كي تعود
هل الإنسانُ إلا عصارة التجارب والزلل؟
مطحونًا كالشوفانِ برحى الكمد والتعب
حاولت أن أسمو وإن عافني السبب
مثل قلاع شامخات فوق الجبل
نُسجت خلاياها من طين الصمود
لكن أجنحتي جزّت قوادمها
ودُمرت خوافيها في صحارى اللهب
فسقطت مثل ملاكٍ ملعونٍ مطرود
لأني لم أكن ممن يجيد تسخير البحار
كي تولد ضوءً من رحم السدود!
أبتي أيها الشبح البعيد الودود
مهما تدحرجت صخور الزمن
على ظهرٍ أنقضهُ الغمُّ والتعب
مازلت منتظرًا ها هنا حتى تعود!
"اقرأ فإن الفكر أجنحة تحطم فولاذ القيود"
قال لي وهو يصحبني لدار العلم الموعود؛
"فالعبودية أسرٌ غزلهُ من حرير أطماعِنا
والحرية أحياناً جسرٌ للخيالِ بلا حدود
شيِّدهُ في العتمة ما استطعت بلا شهود
لئلا تفرخ الشيطانة في خشب المجهود!"
ثم أردف: "انتظرني ها هنا حتى أعود"
أربعون عامًا مرت
والكون أوثانٌ قدّسها الجمود
وأنا وحيدٌ أبكي صفصافتي
في سومرٍ مثل إنانا
وأحتمي خلف أستار الضبابِ
من الغزاة… من الجنود
أتحصن بالمعوذات وعطر البخور
وصلاة الليل إلى الرب المعبود
منتظرًا أبي وراء أصوات المآذنِ
وقناديل الليلِ وأسوار الحدود
ها قد انقضت من الأعوام ما يكفي كيما يعود:
"أنا مازلت منتظرًا يا أبتاهُ يؤرقني السهاد
على باب مدرستي، انتظر أجراس الميعاد
مثل الجراء الوفية، طفلاً انتظر حتى تعود
طفلاً وحيدًا يحارب طفيليات الأرض والدود!
آه ما أثقل الحقيبة والأضابير والقرود
على ظهري المكدود، أنا لست تلميذاً جلود
أبتي ما عدت قادرًا على قراءة الشعر
أو معاجمِ لغةٍ كانت تحاكي نسج الوجود
تتهادى نعوشها كالهوادجِ بجنازة الهجر
مشيعةً من أهلها نحو المقابر واللحود
ورقعة الشطرنج أمست أرضًا قاحلة
تخلت عنها القلاع والأحصنة والجنود
بيد أني مرابطٌ ها هنا مثل محارب مرصود
مثل مجذوب يجابهُ المارةَ بزئير الأسود
باقٍ أيام الدهر الثلاثة، كأني من أهل ثمود
بملاحمي وأدرعي والتروس…
بطبلٍ وقيثارة عود…
مازلت على العهد منتظرًا كي تعود!
متى تمسكني من يدي،
لأصبح مرةً أخرى طفلك المولود
متى تمسكني من يدي بحق كلّ الوعود
فنرحل عن هواجسهم إلى أرض الخلود
أو كما هجر الغزاةَ البيضَ حُمرُ الهنود!
نرحل تمامًا مثل عابري سبيلٍ حفاة
حالمين كالسذج البسطاء بعدلٍ يسود
متأملين في الله، في الحقيقة،
في مصابيح النجاة،
والوعدِ القديم بالمخلصِ الموعود
نستقرئ النجم بحثًا عن سلالم للسماء
سهلة الارتقاء، ميسورة الصعود
نمضي معًا عبر الغابة المظلمة،
ومدن التبغ، وطرق القطران السود
نعبر البحيرة وتنانينها النائمة
وأسواق التوابل والأقمشة الناعمة
ونترك فزاعة الحقل تحرسُ كيفما شاءت
ما اغتصبتهُ من سراب المحصود!
نترك للأبد خلفنا المستنقعات والوحوش
ومدن نملٍ بنيت فوق برميل البارود
وآبارِ ماء تخفي بقيعانها كنز النقود!
حين تشرق علينا شمس النعوش
ولا نعودُ… لا نعودُ… لا نعود
تمت
أكتوبر 2024
62
قصيدة