طفولتي تأخذ, في كفِّها،
زينتها من كل شئ...
ولا
تنمو مع الريح سوى الذاكره
لو أحصيتِ الغيم الذي كدَّسوا
على إطار الصورة الفاترة
لكان أُسبوعاً من الكبرياء
وكلُّ عام قبله ساقطٌ
ومستعار من إناء المساء..
يومَ تدحرجتُ على كل باب
مستسلماً للعالم المشغول
أصابعي تزفر: لا تقذفوا
فتات يومي للطريق الطويل
بطاقةُ التشريد في قبضتي
زيتونة سوداء،
وهذا الوطن
مقصلة أعبدُ سكّينها
إن تذبحوني، لا يقول الزمن
رأيتكم!
وكالة الغوث لا
تسأل عن تاريخ موتي, ولا
تغيِّر الغابة زيتونها،
لا تُسقط الأشهر تشرينها!
طفولتي تأخذ، في كفها،
زينتها من أي يوم،
ولا
تنمو مع الريح سوى الذاكرهْ
وإنني أذكر مرآتها
في أول الأيام, حين اكتسى
جبينها بالبرق، لكنني
أضطهد الذكرى, لأن المسا
يضطهد القلب على بابهِ..
أصابعي أهديتُها كلها
إلى شعاع ضاع في نومها
وعندما تخرج من حلمها
حبيبتي، أعرف درب النهار
أشق درب النهار.
كلُّ نساء اللغة الصافيهْ
حبيبتي..
حين يجئ الربيع
الوردُ منفيٌّ على صدرها
من كل حوض, حالماً بالرجوع
ولم أزل في جسمها ضائعاً
كنكهة الأرض التي لا تضيع
كل نساء اللغة الداميهْ
حبيبتي..
أقمارها في السماء
والورد محروق على صدرها
بشهوة الموت, لأن المساء
عصفورة في معطف الفاتحين
ولم أزل في ذهنها غائباً
يحضرها في كل موت وحين..
كل نساء اللغة النائمهْ
حبيبتي..
تحلم أنَّ النهار
على رصيف الليلة الآتيهْ
يشرب ظل الليل والانكسار
من شَرَف الجنديِّ والزانيهْ
تحلم أن المارد المستعار
من نومنا, أُكذوبة فانيهْ
وأن زنزانتنا, لا جدار
لها، وأن الحلم طين ونار
كل نساء اللغة الضائعهْ
حبيبتي ..
فتَّشتُ عنها العيون
فلم أجدها
لم أجد في الشجر
خضرتها...
فتَّشتُ جلدي..
لم أجد نبضها
ولم أجدها في هدير السكون
ولم أجدها في لغات البشر
حبيبةَ كل الزنابق والمفرداتْ
لماذا تموتين قبلي
بعيداً عن الموت والذكريات
وعن دار أهلي؟..
لماذا تموتين قبل طلاق النهار
من الليل..
قبل سقوط الجدار
لماذا؟
لكل مناسبة لفظةٌ،
ولكن موتك كان مفاجأة للكلام
وكان مكافأة للمنافي
وجائزة للظلام
فمن أين اكتشف اللفظة اللائقهْ
بزنبقة الصاعقهْ؟
سأستحلفُ الشمس أن تترجَّل
لتشربني عن كَثَبْ..
وتفتح أسرارها..
سأستحلف الليل أن يتنصل
من الخنجر الملتهب
ويكشف أوراقه للمغنّي.
تفاصيل تلك الدقائق
كانت..
عناوين موت معادْ
وأسماءُ تلك الشوارع
كانت..
وصايا نبي يُباد.
ولكنني جئت من طرف السنة الماضيهْ
على قنطرهْ...
ألا تفتحين شبابيك يوم جديد
بعيد عن المقبرهْ؟!..
لأبطالنا, أنشد المنشدون
وكانوا حجارهْ
وكانوا يريدون أن يرصفوا
بلاطاً لساحاتنا
وصمتاً, لأن السكوت طهارهْ
إذا ازدحم المنشدون
ويبدو لنا حين نطرق باب الحبيب
بأن الجدار وترْ
ويبدو لنا أنه لن يغيب
سوى ليلة الموت، عنّا
ولكننا ننتظر
ألا تقفزين من الأبجديهْ
إلينا, ألا تقفزين؟
فبعد ليالي المطر
ستشرع أُمَّتنا في البكاء
على بطل القادسيهْ!..
أُسجِّل دقات قلبك فوق الجفون
وأعصب بالريح حلقي
إذا كثر النائمون...
ومن ليل كلِّ السجون
أصيح:
أعيدوا لنا بيتها
أعيدوا لنا صمتها
أعيدوا لنا موتها..
عيناك, يا معبودتي, هجرةٌ
بين ليالي المجد والانكسار.
شرَّدني رمشُكِ في لحظة
ثم دعاني لاكتشاف النهار.
عشرون سكّيناً على رقبتي
ولم تزل حقيقتي تائههْ
وجئت يا معبودتي
كلُّ حلمْ
يسألني عن عودة الآلههْ
ترى! رأيت الشمس
في ذات يوم؟
رأيتها ذابلهْ.. تافههْ
في عَربات السبي كنا, ولم
تمطر علينا الشمس إلاّ النعاس
كان حبيبي طيباً، عندما
ودعني..
كانت أغانينا حواس.
عيناك, يا معبودتي, منفى
نفيتُ أحلامي وأعيادي
حين التقينا, فيهما!
من يشتري تاريخ أجدادي؟
من يشتري نار الجروح التي
تصهر أصفادي؟
من يشتري موعدنا الآتي؟
من يشتري صوتي ومرآتي؟
من يشتري تاريخ أجدادي
بيوم حريَّهْ؟..
معبودتي! ماذا يقول الصدى
ماذا تقول الريح للوادي؟
كن طيِّباً،
كن مُشرقاً كالردى
وكن جديراً بالجناح الذي
يحمل أولادي..
ما لون عينيها؟
يقول المساء:
أخضرُ مرتاحُ
على خريف غامض.. كالغناء
والرمشُ مفتاحُ
لما يريد القلب أن يسمعهْ
كانت أغانينا سجالاً هناك
على جدار النار والزوبعهْ
هل التقينا في جميع الفصول؟
أم نحن وجهان على الأمسِ؟
الشمس كانت تحتسي ظِلِّنا
ولم نغادر قبضة الشمسِ
كيف اعترفنا بالصليب الذي
يحملنا في ساحة النور؟
لم نتكلم.
نحن لم نعترف
إلاّ بألفاظ المسامير !
عيناك, يا معبودتي, عودة
من موتنا الضائع تحت الحصار
كأنني ألقاك هذا المساء
للمرة الأولى..
وما بيننا
إلا بدايات. ونهر الدماء
كأنه لم يغسل الجيلا.
أسطورتي تسقط من قيضتي
حجارة تخدش وجه الموت
والزنبق اليابس في جبهتي
يعرف جو البيت..
من يرقص الليلة في المهرجان؟
أطفالنا الآتون
من يذكر النسيان؟
أطفالنا الآتون
من يضفر الأحزان
إكليل ورد في جبين الزمان؟
أطفالنا الآتون
من يضع السكَّر في الألوان؟
أطفالنا الآتون
ونحن, يا معبودتي،
أي دور
نأخذه في فرحة المهرجان؟
نموت مسرورين
في ضوء موسيقى
أطفالنا الآتين!..
محمود درويش شاعر المقاومه الفلسطينيه ، وأحد أهم الشعراء الفلسطينين المعاصرين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة و الوطن المسلوب .محمود درويش الابن الثاني لعائلة تتكون من خمسة أبناء وثلاث بنات ...