ههُنا حاضرٌ لا يلامسُهُ الأمسُ ...
حين وَصَلْنا
إلى آخرِ الشَجَرات انتبهنا إلى أَننا
لم نَعُدْ قادرينَ على الانتباهِ. وحين
التفَتْنَا إلى الشاحنات رأينا الغيابَ
يُكَدِّسُ أَشياء المُنْتَقَاةَ ، وينصبُ
خيمَتَهُ الأبديَّةَ من حولنا ...
ههُنا حاضرٌ لا يلامسُهُ الأمسُ،
ينسَلُّ من شَجَر التوت خيطُ الحرير
حروفاً على دفتر الليل. لا شيء
غيرَ الفَراش يُضيء جَسَارتَنَا في
النُزولِ إلى حُفْرَة الكلمات الغريبةِ:
هل كان هذا الشقيُّ أَبي؟
ربما أَتدبَّرُ أَمْرِي هنا. ربما
أَلِدُ الآن نفسيْ بنفسي،
وأَختارُ لاسمي حروفاً عموديَّةً...
ههُنا حاضرٌ
جالسٌ في خلاء الأواني يُحَدِّقُ
في أَثَر العابرين على قَضَب النهر،
يصقُلُ ناياتِهم بالهواء... لعلَّ الكلام
يشفُّ فنبصر فيه النوافذَ مفتوحةً،
ولعلَّ الزمان يحثُّ الخطى معنا
حاملاً غَدَنَا في حقائبِهِ...
ههُنا حاضرٌ
لا زمانَ لَهُ،
لم يَجِدْ أَحَدٌ، ههُنا، أَحداً يتذكَّرُ
كيف خرجنا من الباب، ريحاً، وفي
أيِّ وقتٍ وَقَعْنا عن الأمس فانكسَرَ
الأمسُ فوق البلاط شظايا يُرَكِّبها
الآخرون مرايا لِصُورَتِهِمْ بعدنا...
ههُنا حاضرٌ
لا مكانَ له،
رُبَّما أتدبَّر أَمري، وأَصرخ في
ليلة البُوم: هل كان ذاك الشقيُّ
أَبي، كي يُحَمِّلني عبءَ تاريخِهِ؟
ربما أَتغيَّرُ في اسمي، وأَختارُ
ألفاظَ أُمِّي وعاداتها مثلما ينبغي
أن تكون: كَأَنْ تستطيع مُدَاعَبَتي
كُلَّما مسَّ ملحٌ دمي، وكأن تستطيع
معالجتي كلما عَضَّني بلبلٌ في فمي!
ههُنا حاضرٌ
عابرٌ،
ههُنا علَّقَ الغُرَباءُ بنادِقَهُمْ فَوْقَ
أَغصان زَيْتُونَةٍ، وأَعدُّوا عشاءً
سريعاً من العِلَبِ المعدنيَّة، وانطلقوا
مسرعين إلى الشاحنات...
محمود درويش شاعر المقاومه الفلسطينيه ، وأحد أهم الشعراء الفلسطينين المعاصرين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة و الوطن المسلوب .محمود درويش الابن الثاني لعائلة تتكون من خمسة أبناء وثلاث بنات ...