عدد الابيات : 133

طباعة

َكْبَرْتُ يومَك أن يكونَ رثاءَ

الخالدون عهِدتُهم أحياءَ

أوَ يرزقون ؟ أجل، وهذا رزقُهم

صِنوُ الخلودِ وجاهةً وعطاءَ

قالوا: الحياةُ ، فقلت: دَيْنٌ يُقتضى

والموتُ قيل ، فقلت: كان وفاءَ

يا قائدَ الجيش الشهيد أَمضّهُ

شوقٌ فزار جنودَه الشهداءَ

أكبرتُ يومك أن يكون رثاءَ

أجعلتَ منه موعداً ولقاءَ ؟

أَبِرَفْرَفِ الخلد استفزّك طائفٌ

لتسامرَ الخُلْصانَ والخلطاءَ ؟

أم رُمتَ جمعَ الشملِ بعد تفرقٍ ؟

أم أن تُثيرَ كعهدك الشعراءَ ؟

يا ايها النَّسرُ المحلِّقُ يتقى

فيما يميلُ عواصفاً هوجاءَ

ينقضّ عجلاناً فيفلِتُ صيدُهُ

ويصيدُه إذ يُحسن الإِبطاءَ

أُثني عليك، وما الثناء عبادة

كم أفسد المتعبدون ثناءَ

دِيَةُ الرجال إساءتان؛ مقلِّلٌ

وأساء، جنبَ مكثّر وأساءَ

لا يعصِمُ المجدُ الرجالَ، وإنما

كان العظيمُ المجد والأخطاءَ

وإذا النُّفوس ترفَّعت لم تفتكرْ

لا الانتقاص بها ولا الاطراءَ

لا يأبهُ البحرُ الخضمُّ روافداً

يلقى، ولا زَبَداً يَطير غُثاء

لم يخلُ غابٌ لم يحاسَبْ عنده

أسدٌ، بما يأتي صباحَ مساءَ

تحصى عليه العاثرات، وحسبه

ما فات من وَثَباته الإحصاءَ

قد كنتَ شاخصَ أمّةٍ . نسماتِها

وهجيرَها، والصبحَ والإِمساءَ

ألقتْ عليك غياضَها، ومروجَها

واستودعتْكَ الرملَ والصحراءَ

كنتَ ابنَ أرضِكَ من صميم ترابها

تُعطى الثمارَ، ولم تكن عنقاءَ

تتحضّن السرّاء من أطباعها

وتلُمّ رغم طباعك الضرّاءَ

قالوا : أبٌ بَرٌّ فكانت أمّةٌ

أَلِفاً، ووحدك كنت فيها الباءَ

خَبَطَتْ كعشواءٍ عُصوراً، وانثنت

مهزومةً، فأثرتَها شعواءَ

وأَنرتَ دربَ الْجيل شاءت دربَهُ

حيلُ الطغاةِ عميّةً تيهاءَ

وعَرَفْتَ إيماناً بشائرَ وعيِهِ

إذ كان يعرِف قبلها إِغواءَ

وانصعتَ في سُود الخطوب لئيمةً

تُسدى طلائعَهُ يداً بيضاءَ

وبرمتَ بالطبقات يحلبُ بعضُها

بعضاً، كما حلَب الرعاةُ الشاءَ

وودِدتَ، لو لم تعترف شرّبْهِما،

لا الأغنياءَ بها ولا الفقراء

وجهِدتَ أن تُمضي قضاءَك فيهما

لتُشيد مجتمعاً يَفيضُ هناءَ

أسفاً عليك، فلا الفقير كفيته

بؤساً، ولا طُلتَ الغنيَ كفاءَ

قد كان حولَك ألفُ جارٍ يبتغي

هدماً، ووحدَك من يُريد بناءَ

لله صدرُك، ما أشدَّ ضُلوعَه

في شدّةٍ، وأرقَّهن رثخاءَ

تلج السياسَة في تناقض حالها

فتُطابِقُ العزماتِ والآراءَ

كرّاً، وإحجاماً، ورقّةَ جانب

وصلابةً، وسلاسةً ودهاءَ

ورأيت في " أسوان " قدرة ساحرٍ

يسعى ليوسع ميتا أحياءَ

وبعثتَه حياً، ودُسْتَ مشكّكاً

وصَفَعْتَ همّازاً به مشّاءَ

وقَمرتَ شرَّ مقامرٍ وكسبته

وسلبته أوراقه السوداءَ

وَرَدَدْتَ كيدَ مكايدٍ في نحره

واصطدته بشباكِهِ إغراءَ

ولففتَ رأسَ الأُفْعُوانِ بذيلهِ

وقطَعتَهُ، وخطبتَها بَتْراء

وصنعتَ معجزةَ " القناة " ورُعتَهم

وسقيتَهمْ حممَ الجحيمِ الماءَ

وعصرتَ طاقاتِ الْجموعِ، ورُزْتَها

فوجدتَها ولاّدةً عُشَراء

وجَسَسْتَ أوتار النُّفوس فوقّعت

لك طُوَّعاً أَنغامَها السمراءَ

أَلقتْ إليك قُلوبَها وعُروقَها

سمحاءَ ما شاء الندى معطاءَ

فإذا نَطْقَتَ ملكتَ مهجةَ سامع

وخشوعها، والسمع والإصغاءَ

وإذا سكتَّ أشاع صمتُكَ رهبةً

حتى يُخالَ كتيبةً خرساءَ

أُثني عليك، على الجموعِ يصوغُها

الزعماءُ، إذ هي تخلق الزعماءَ

ورؤى " حزيران " وحسبك أنه

يحيي لنا برؤاه " عاشوراءَ "

ناهضتَ فانتهضتْ تجرُّ وراءها

شمَّ الجبال عَزيمةً وَمَضاءَ

واقتدتَها فمشت يسدِّدُ خَطْوَها

إن كنت أنت دليلَها الحدّاءَ

ونُكِستَ، فانتكستْ، وكنت لواءها

يهوي، فما رَضِيَتْ سواك لواءَ

ثقة، يَحارُ بها النهى، ومعزّة

تاهت على هام السُّها خيلاءَ

قالوا: عمىً في العاطفات، ونَدْرةٌ

بَعْثُ الزعيم عواطفاً عمياءَ

كانوا وُعاةً يأخذون طريقهم

للموت، لا غُفْلا ولا أجَراءَ

خار الضعاف دروبَهم، وتخيّرت

هممُ الرجال مشقَّةً، وعناءَ

ما كان ذنبكَ أن يطول على السُّرى

ليلٌ يُطيل صباحُه الظلماءَ

يَطْوي عليه الناكصون جَناحَهم

ويضمّ تحت جناحه " العملاءَ "

كلّ، ولا ذنبُ الجموع بريئةً

عذراءَ من غصب العَفاف بُراء

ما كان ذنبَ كليكما عدد الحصى

أمم نُهين بوطئها الحصباءَ

يا مصرُ نحن الحالمون كما ادّعوا ؟

حاشا، وبئست نزعةٌ تتراءى

إنا رئاتٌ في حنايا أمّةٍ

راحت بنا تتنفَّس الصُّعداء

لم نأتِ بِدعاً في البيان وإنما

كنّا لما حَلَمتْ به اصداءَ

لسنا ملائكةً، ولكن حسْبُنا

إغراؤها، لنقاوم الإغراء

نُلفي بما وهبت لنا من وحيها

عن كلِّ ما تَهَبُ الحياةُ عزاءَ

لا هُمَّ عَفْوَك، إننا من قلّة

خُلِقَت لتعطيَ حقَّها الأشياءَ

خلقت لتُدرِكَ ما يخامرُ نملةً

في زَحْفها، وحمامةً ورقاءَ

لتعيشَ مأساةَ الخليقةِ كلَّها

ولتستبينَ دواءَها والدّاءَ

وارحمتا للمبصرينَ تكلّفوا

أن يُسدلوا عمّا يرون غشاءَ

دَوّت حماساتُ الرجال، وأَرْزَمَتْ

حتى لتستبقُ الْجِمال رُغاءَ

ما أشجع " الآسادَ " تعجز كلُّها

عن أن تنازلَ حيّةً رقطاء !!

خمسٌ مِئون ملّةً وعروبةً

تعطي الصَّغار ثلاثة لقطاءَ

تلهو و " ثاني القبلتينِ " مباحةٌ

وتُعيّدُ " المعراج " و " الإسراءَ "

وتُزخرف الحلقاتِ كلَّ عشيّة

لتقيمَ " زارا ط أو تشُنَّ دعاءَ

وتكدِّسُ الذهبَ الحرامَ كأَهلِهِ

تجد الحياة مذلّةً وثراءَ

وتطارد الفكر الشريفَ كأنّها

منه تطارد " هيضة " ووباءَ

ويشارك " الدُّستورُ ! " وعيَ مناضل

بالمجرمين عقوبةً وجزاءَ

وتُفلسفُ الْجورَ العسوفَ وتجلد

الدينَ الحنيفَ ليستحيل عطاءَ

من فوقِ أعناق المشانقِ تدّلي

خيرُ الرؤوس شهامةً ووفاءَ

وتكاد أقبية السُّجونِ غضاضةً

وأسىً تَصيح لترحم السجناءَ

وتعود تَعْجَبُ كيف كان مكانُها

من حيث تنطلق الحياةُ وراءَ

فيم التعجّبُ ؟ لا نحمِّل وِزرَنا

قَدَراً، ولا ما نحنُ فيه قضاءَ

رُحنا نقصُّ من الجَناح قوادماً

وخوافياً قصَّ الغريرِ رداءَ

ونزِفّ لا الأرض الوطيئة نرتضي

وكراً، ولا يرقى الجناح سماءَ

ساءلتُ نفسي لا أريد جوابَها

أنا أمقُتُ الضرّاع والبكّاءَ

أترى " صلاح الدين " كان محمَّقاً

إذ يستشيط حميّةً وإِباءَ

أم عادت " القدس " الهوانَ بعينه ؟

أم عاد دين المسلمين رياءَ ؟

يا ابن " الكِنانةِ " وابنَ كلِّ عظيمةٍ

دهياءَ تُحسن في البلاء بلاءَ

أعززْ علينا أن تساء منبَّئاً

ما كنت تكره مثلها أنباءَ:

ذُبح " الفُداةُ " ورُحتَ أنت ضحيةً

عنهم، وما أغنى الفِداء فداءَ

ذُبح " الفداة " وليت ألْفي ذابحٍ

عن إصبَعٍ منهم يروح وقاءَ

واخزيةَ " الأُرْدُنِّ " صُبِّغ ماؤه

من خير أعراقٍ لديه دماءَ

لا طالعتْ شمس النهار ضفافَهُ

وتساقطت رجماً عليه مساءَ

نذروا لأشلاء الغزاة بغَربِهِ

فتساقطوا " شرقيّه " اشلاء

تلك العظامُ سيستطير غُبارُها

يُعمي الملوكَ، ويطمُرُ الأمراءَ

وإذا عجبت فأَنْ يلمّ رميها

من حوله " الفرقاء " والفرقاءَ

لجأوا لأدبار " الحلول " فسمِّيت

وَسَطاً، وسمِّي أهلها وُسطاءَ

يا مصرُ يا حُلم المشارق كلِّها

مذ عانت الأحلام والأهواءَ

يا بنتَ " نيلك " من عذوبة جرسِهِ

نغماتُ جرسك رفّةً وصفاء

حَضَنَ الحياةَ صبيّةً فمشت به

ومشى بها يتباريان سواءَ

يقظى ليقظانٍ يَهُزُّ سريرها

لم تقوَ في شُطئانِهِ إغفاءَ

وربيبةَ " الهرمين " شاخا إذ هما

يتبنّيانِكَ صبوةً وفَتاء

تُلْقِينَ في السرّاء سحرَك كلَّه

وتموّعين بصبرك الضراءَ

وتموِّنين الدهر سبعاً خِصبةً

يُكفَى بها سبعاً له جدباءَ

مشت القرونُ، وخلّفت أسحارها

ترمي عليك الطلَّ والأنداءَ

والصبحُ يصبغُ وجنةً مشبوبةً

والليلُ يكحُلُ مقلةً وطفاءَ

والشمس تلفَحُ سُمرةً عربية

والنجم يُرقِص قامةً هيفاءَ

ودَرَجتِ في حَقْلِ " الحضارة " غضّةً

وبدأتِه تفّاحةً خضراءَ

ولممتِ عن جنبيهِ أزهارَ الرُّبى

وجلوتِهنَّ جنائناً غنّاءَ

أسكنتِهُنَّ الشعرَ والشعراءَ

والعلم، والعلماءَ، والحكماءَ

شِعّي برغم الداجيات، وزحزحي

منها، وزيدي بهجة ورُواءَ

وتماسكي، فلقد صَمَدْتِ لمثلِها

وأمرَّ، ثم أطرتِهنَّ هباءَ

شِعّي، فَقاراتٌ ثلاثٌ تجتلي

عَبر العُصور سِراجَكِ الوضّاءِ

يا مصرُ، أحرفُك الثلاثةُ كنَّ لي

لولا الغلوُّ، الوجدَ والإِغماءَ

عشرين عاماً لم أزرْكِ وساعةٌ

منهنّ كانت منيةً ورجاءَ

لِمْ ؟ لست أدري غير أنَّ قصائداً

عشرين لم تشفعْ لديكِ لقاءَ

ناغيتُ فيها شعبَ مصرَ وهِجتُهُ

ورجوتُه أن يركبَ الهيجاءَ

وشجبتُ " فرعوناً " يتيه بزهوه

ينهى ويأمر سادراً ما شاء

وظلِلتُ أحْسُدُ زائريك، وخِلتُني

رتعاءَ، تحسُد أختها العجفاءَ

من كلّ حدْبٍ ينسلون، ولم أكنْ

وهواكِ فيهم نسلةً نكراءَ

وَهَبى ثقيلَ الظلِّ كنتُ فلم أُطَقْ

أفما أَطَقْتِ فديتكِ الثقلاءَ

دلّلتُ فيك أُبوّةً عهدي بها

علمَ اليقين، تدلَّل الأَبناءَ

يا مصرُ، لي وطنٌ أُجِلُّ عطاءَه

ويُحبُّ فيَّ سماحةً وعطاءَ

يغشى الدُّروبَ عليَّ حتى إنني

لأكاد أفقِدُ في الزِّحام رداءَ

سِرْنا على درب الكفاحِ مُذ انجلى

فخرُ الكفاحِ بجوِّه وأضاءَ

مُتجاوِبَيْنِ مدى الأبيدِ، أهُزّه

إيثارةً، ويهزّني إيحاءَ

للموت أحدو والشهادةِ أهلَه

أترى وُجدت لأذبح الشهداءَ ؟!

وبمصرَ لي وطنٌ أطار بجوّه

ما لا أطار بغيره أجواءَ

أجدُ العوالمَ كلَّها في سَفْحه

سبحانَ خالقِ كونِه أجزاءَ

يا سِدرةً في المنتهى لم تعترف

إلاّ الظلالَ الخضر والأفياءَ

عاطي ظلالَك " ناصراً " فلطالما

عاطى الْجموع ظلالَه وأفاءَ

وعليكَ يا فخر الكفاح تحيّةٌ

في مثل روحك طيبةً ونقاءَ

إن تقضِ في سُوح الْجهاد فبعدَما

سَعَّرْت فيها الرمل والرمضاءَ

ولقد حملتَ من الأمانةِ ثِقْلَها

لم تُلْقِها بَرَماً ولا إعياءَ

نمْ آمناً، ستُمِدُّ روحُك حرّةً

وسْط الكفاحِ رفاقَك الأمناءَ

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن محمد مهدي الجواهري

avatar

محمد مهدي الجواهري حساب موثق

العراق

poet-jawahiri@

216

قصيدة

2

الاقتباسات

2341

متابعين

محمد مهدي الجواهري (26 يوليو 1903 – 27 يوليو 1997): شاعر عربي عراقي، يعتبر من بين أهم شعراء العرب في العصر الحديث. تميزت قصائده بالتزام عمود الشعر التقليدي، على جمال ...

المزيد عن محمد مهدي الجواهري

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة