يا نديمي: نفسي جُذاذات طِرسِ
عَريتْ فوقها بطُهرٍ ورِجسِ
من مَراقي نُعمى وهوّات بؤسِ
من أشمٍّ ومن أخسٍّ أخسِّ
كَذَبَ البُحتريّ إذ قال أمسِ:
"صنتُ نفسي عما يدنسُ نفسي"
دنسَ النفسِ حُلَّةٌ من دِمَقسِ
لن تُغطّي ولو بمليون عُرسِ
* * *ِ
سألتني: وقلبُها يَجِبُ
أمدَى الدهرِ أنتَ مُغتربُ ؟
أملولُ أمْ أنت مُجتَنبُ
أم هو الدهرُ أمرهُ عجَبُ
قلتُ: مالي بذي وذا نسبُ
أنا لي من جِبلَّتي عَصبُ
قُدَّ صَوّانُهُ من الحجرِ
فهو لا يستلذَُ بالسُّررِ
* * *
يا نديمي: إنَّ الدجى وضَحا
والهزارَ الغافي هناك.. صحا
يا نديمي: وصُبَّ لي قَدَحا
ألمِسُ الحزنَ فيه والفرَحَا
وأرى: من خِلالِه شَبَحا
من نِثارِ الهمِّ الذي طَفَحَا
في شبابٍ مَضيَّعٍ هدَر
مثلَ عُودٍ خاوِ بلا وترِ
* * *
يا نديمي: شاطرْنيَ القَدَحا
ثم هَبْ لي صبابةَ القدحِ
إنَّ فيما تعافُ منتدحَا
من غَبوقٍ به ومُصطَبحِ
رُبَّ صدرٍ برشفةٍ نضحا
وعصيٍّ ألوى فلم يَبُحِ
فأرِحْ قلبَ مُلهَمٍ مَرحِ
من غُثاءٍ عليه مُطَّرحِ
* * *
يا نديمي: وصُبَّ لي قدحا
وأعرني حديثَك المرِحا
يا نديمي: وأمسِ رأدَ ضُحى
قلتَ لي قولَ مُشفِقٍ نَصحَا
ما علينا ! أبارحٌ سنحا
أمْ سنيحٌ بقفرةٍ برَحا
أفنحنُ الحُداةُ للبشرِ
أم رعاةُ الأغنام والبقرِ
* * *
يا نديمي: ورِقّةُ السَّحرِ
وتَهاوي النجومِ في الأثرِ
وخفوتُ الأضواء كالخدَرِ
دبَّ في جسم ماردٍ أشِرِ
لموحةٌ فوقَ طاقةِ البشرِ
لتداعي الأفكار والصُّوَرِ
يا نديمي: وَعدِّ عن خَبري
في سموٍّ منها ومُنحدَرِ
* * *
يا نديمي: وكم يدٍ ويدِ
للنَّدامى مُدَّتْ فلم تَعُدِ
غَفلتْ عن خبيثةٍ رَصَدِ
واستنامت رخيَّةً لِغَدِ
يا نديمي: فَسَقِّني وزدِ
فيدي ما تزالُ في عَضُدي
وغدي إنْ يغبْ وإن يزُرِ
واجدٌ فيَّ صبرَ منتظِرِ
* * *
يا نديمي: ونوَّرَ السَّحرُ
فالرُّبى والسفُوحُ تنتشرُ
والنجومُ الخرساءُ تنحدرُ
وكأنَّ الصباحَ ينفطرُ
غادةٌ بالحياء تأتزرُ
فهي تبدو طوراً وتستترُْ
ثم تمشي خجلى على حذَرِ
مشيَ عذراءَ.. دونما أُزُرِ
* * *
يا نديمي: وكم مضى سَحرُ
وكم استنَّ نهجَهُ وترُ
وطرٌ جدَّ إذ مضى وطرُ
وكأنْ لم يكنْ له خَبرُ
يا نديمي: أُحَجيَّةٌ بشرُ
يَبعثُ الميتَ حين يفتَكرُ
ثم يُلقي بهِ إلى الحُفرِ
لنضيدِ التُراب والحَجَرِ
يا نديمي: وأمسِ كنتُ أرودُ
ملعباً أسرجتْهُ "غيدٌ" و "رُودُ"
شال فيه نهدٌ.. وأُتْلعَ جيدُ
وتَدلَّتْ على النهودِ عُقود
ثم هبَّتْ للرَّقصِ فيه قدودُ
كلُّ أملودةٍ لها أملودُ
يا نديمي: وهمتُ بالشجرِ
وسوايَ استبدَّ بالثمرِ
* * *
يا نديمي: وجُسَّ عُودٌ فَرَّنا
وطروبٌ أصغى له فتغنى
ونديمٌ أدار كأساً وثنّى
وشَروبٌ لو شاء أفرغَ دنّا
يا نديمي: ومُنيتي أن أُعنّى
لو تَسنى لمُشتهٍ ما تمنى
بسعير الدلالِ والخَفَرِ
وخرير الأنغامِ والوترِ
* * *
يا نديمي: ورُقِّقَ النغمُ
برنينِ الأقداحِ يَنْسَجِمُ
هبَّ من كلِّ " قُبلةٍ " نَسمُ
وبحلوِ الشفاهِ غاص فمُ
والحمَّيا كأنها ضرَمُ
في مصبِّ العروقِ تحتدمُ
تنتشى من دبيبها العَطِرِ
فهي بين الوثوبِ والخدر
* * *
يا نديمي: سبحان بارٍ بَراها
عرضتْ مرةً فكذَّبتُ عيني
وتحاملتُ جاهداً أن أراها
فمشتْ بين السنونَ وبيني
غير أنَّ الذي عراني عراها
وكأني به تحيَّنتُ حَيني
يا نديمي: وخائبٌ ك "حُنَيْنِ"
مُستَضَلُّ يبغي نسيئاً بعَيْنِ !
* * *
كقُراضاتِ عسجدٍ في لُجَيْنِ
ذُبنَ في خدِّها بماء الشباب
و"أُنيفٍ" مُفْضٍ إلى شفتينِ
رحمةً صيغتا وسَوطَي عذابِ
و"نُهيدانِ" رفرَفا بينَ بينِ
في سُفوحٍ مُنسابةٍ وهضابِ
يا نديمي: وحفنةٌ من ترابِ
كلَّلتْ رأسُ مُزمنٍ مُتصابي
* * *
يا نديمي: وما تزالُ من نجومُ
لاقطاتٍ أنفاسَهنّ احتضارا
طافياتٍ يَعيا بهنَّ السَّديمُ
يترقَّبن بالطُّلوعِ النهارا
قلقاتٍ كأنهُّن همومُ
في فؤادٍ جمِ الهمومِ، حيارى
أيواكبن ما ألِفْنَ اضطرارا ؟
أم يُوَلِّينَ ما استطعن فِرارا ؟
* * *
وعصافيرُ يدرَّجن الهُوَيْنا
في هُبوطٍ أعقابُها وصُعودِ
من رَنيق النُعاس يمسحن جَفنا
ويعاوِدن خطوةً من جديد
وتعاطَيْنَ زقزقاتٍ دُوَينا
تسبِقُ الهمهماتِ بالتغريد
وتعالتْ هلاهلٌ من بعيدِ
وتوالت أسرابُ طيرٍ سعيدِ
* * *
وبعيداً: لحنُ غرّيدِ
هبَّ من نشوانَ عربيد
وأغانيُّ خُرّدٍ غيدِ
خلتُها من حُسن ترديد
خشخاتِ العُقود في الجيدِ
وهفا من بعد تَصعيدِ
رَمقٌ باقٍ من العُمُرِ
في شُعاعٍ منه مُحتَضَرِ
* * *
وتدلَّتْ على المروجِ خيوطُ
من نسيجِ الصباحِ لوناً فلونا
وتغشّى السماءَ حسنٌ خليطُ
مثلمَا شابتِ الملاحةُ حزنا
شَغَلَ النفسَ عن سِواهُ محيط
كاد عُجباً بنفسهِ أن يُجنَا
وهناكُمْ في المرج " نايٌ " تغنى
كفؤادٍ بالحُزن فاض فأنّا
يا نديمي: وهبَّ حقلٌ وحقلُ
نافضاً عنه من خمولٍ دِثارا
وتنحَّى عنه من الليل ظلُّ
فهو يشتدُّ روعةً واخضِرارا
كلُّ غصنٍ به تعلَّقَ طَلُّ
دبَّ فيه دِفءُ الحياةِ فغارا
إنَّ كوناً في حسنه لا يُبارى
سلّ من ربقةِ الظلام إسارا
* * *
يا نديمي: كم سَجْعةٍ لمغنّي
ذكَّرتني الصِّبا وسجْعَ الدُّيوكِ
وانثنتْ بي منها لقُضبانِ سِجنِ
ثمَّ منها إلى مصيرِ مُلوكِ
ورمتني بمثلِ رمشةِ جَفنِ
لمهاوي وساوسٍ وشكوكِ
في نظامٍ مُهلهَلٍ وحَبيكِ
وصفيقٍ من سترهِ وهتيكِ !
* * *
يا نديمي: إن الشبابَ تولَّى
مُلقياً خلفَهُ على النفس ظِلا
يمنعُ العمرَ بعده أن يُملا
يا نديمي: وعِفتُ إلا الأقلا
ذكرياتٍ مثلَ السرابِ تعلَّى
مُوهِماً فرطَ غُلةٍ أن تُبَّلا
يا نديمي: وسرتُ بالأثر
وتخفى السرابُ عن بصري
* * *
يا نديمي: هل الحياةُ خيالُ
أم نسيجٌ يُعِدُّه منوالُ
يا نديمي: ستونَ، مرت، ثقالُ
رازحاتٌ كأنهن جِمالُ
مثقلاتٌ .. أو مثلَما تنهالُ
صوَراً في روايةٍ، أبطالُ
يا نديمي وتنهضُ الأطلالُ
من جديدٍ .. إذ نحن غيبٌ،زوالُ !
* * *
يا نديمي: وما هي القيَمُ
غيرَ ما زُخرفتْ به نظُم
شاءهنَّ الخصيمُ والحَكمُ
وحَماهنَّ صارمٌ خَذِمُ
مَنْ رعاهنَّ فهو محتشَمُ
أو جفاهنَّ فهو مُتّهم
يا نديمي: ومِن لظى سقَرِ
صِيغَ هذا اللِّجامُ للبشرِ
* * *
يا نديمي: وقد تحيرَ ظنُّ
في اشتراعِ الثاراتِ في الأديانِ
فسيبقى ما قارعَ السنَّ سنُّ
بَشرٌ أدردٌ بِلا أسنانِ
وزنودٌ بمثلهنَّ تُطَنُّ
أنْ تُباعَ الزنودُ بالأطنانِ
يا نديمي: أليسَ ثمّة ثاني
لاختلاف الإنسان والإنسان ؟
* * *
لا يُهينُ النجومَ غزوُ الفضاءِ
نحنُ ندري بأنها أجرامُ
سوفَ يَبْقَينَ قُدوةَ الشعراءِ
ريثَ يحلو لهم بأرضٍ مُقامُ
سَدَّ أبصارَنا بهيرُ الضياءِ
أنَّه كان في النفوسِ الظلامُ
سوف تعلو بالمُلْهِم الأحلامُ
ما تَردّتْ شريعةٌ ونظام
* * *
يا حفيظاً على الكرى أن يَطُوفا
بقِباحٍ كالوحشِ مزدَرياتِ
كُنْ بمكبوتةٍ تخفَّى لطيفا
وترفَّقْ بمَيتِ الذكرياتِ
لا تُزِرني أشباحَها والطُّيوفا
من شخوصٍ صدقٍ ومفترَياتِ
جئتني من عوالِمٍ أخرياتِ
كالزواني فواحشاً مُغرِياتِ
يا نديمي: ورانتِ العُقَدُ
واشتكى ثِقلَ روحهِ الجسدُ
شاب صفوَ المطامحِ الحَسدُ
وهوى بالتجلدِ الجَلَدُ
وانطوتْ أنفسٌ بما تَجِدُ
فعليها من نفسها رَصدُ
وتدنَّت علاقةُ البشرِ
لحضيض الشُّكوكِ والحذرِ
* * *
وبكى الزهرُ أن يُرى تيجانا
لرؤوسٍ محشوَّةٍ بفسادِ
وشكا الشِعرُ ذُلَّهُ والهوانا
ل "حبيبٍ" و "أحمدٍ" و "زياد"
وشجا الحرفَ أنَّ هُوجاً هِجانا
تهتِك الستر عن بناتِ الضاد
كم دعيٍّ دُعي فلم يَحِرِ
مثل بغلٍ عاصٍ فلم يدُرِ
* * *
رُبَّ ليلٍ قطعتُه إِرَبا
أرقَبُ النجمَ كيف يرتكسُ
وغديرَ الصبحِ الذي اقتربا
من خِلال الغُيوم ينبجِسُ
وغيوماً بنَتْ لها طُنُبا
بمهبِّ النسيم ينتكسُ
صوَرٌ كالخُيوط تلتبِسُ
الدجى، والصباحُ، والغلَسُ
* * *
قيل لي: ماتَ أمسٍ، عفواً، فلانُ
قلتُ: كبَّا على يدٍ وفمِ
كان قفراً زمانُهُ والمكانُ
فازدهنْهُ توافهُ النِّعمِ
فاته من شبابها العُنفوانُ
فتَكفّى بفضلةِ الهرمِ
قلْ لمستنكفٍ من العدَمِ
مهدُ " عيسى " حظيرةُ الغنمِ
* * *
يا نديمي: ولو خُلقتُ نبيّا
لتطبَّعتُ منهمُ بهَناةِ
هبنيَ الزهر عاشَ غضاً جنيّا
ثم عاثتْ به أكفُّ الجُناةِ
ما تراني وقد بلغتُ العِتيّا
فاستنامتْ على الحُنوِّ قناتي
أتملى في النور شيّاً فشيّا
عِبراً كنَّ أمسِ ظلاً وَفيا
* * *
يا نديمي: إنّ الحياةََ مُنى
فإذا زُلْنَ فهي كالعدمِ
ومنىً كنَّ يقتدحْنَ سنى
في دُروبٍ تعِجُّ بالظُلَمِ
عِفتُ مما حمَّلنني ثمنا
هو أغلى من عِيشةِ السأم
إنّ عيشي، أمسي، على حذرِ
صنوُ يومي يعاشُ في خدرِ
* * *
يا نديمي: ووَقنى بلدا
عَقُمَ الخيرُ فيه أن يَلِدا
هو جَوْعانُ، متخَمٌ حَرَدا
وهو عُريان، مكتسٍ عُقَدا
وهو إذ صِيغَ أهلُه بَددا
يَكرهُ الخلقَ أينما وُجِدا
يا نديمي: وأقصِ عن بصُري
بشراً حاقداً على البشرِ
يا نديمي: ولم أجدْ نَصَفا
أعوز الناسَ كلَّهم نَصفُ
مَن جَسا منهمُ ومَن لَطُفا
ومنِ التاثَ باسمهِ الشرفُ
وقوانينُ شُرِّعتْ هَدفا
ما بها رميةٌ لمن هَدَفوا
يا نديمي: ورغمَ ما وصفوا
ظلَّ شُحٌّ بجنبه سَرَفُ
* * *
يا نديمي: ومَسّني صممُ
وتبنَّى النصيحَ متَّهمُ
يا نديمي: ولو زَكا ندمُ
لاستردَّ الشبيبةَ الهرمَ
لو وعى الوجدُ ما جنى العدَمُ
لتمشَّتْ بمُقعَدٍ قَدمُ
غير أنّ الخفيضَ لم يَطرِ
ورداءَ الشبابِ لم يُعَرِ
* * *
قد سئمتُ الحياةَ لا جَزَعا
ما تسَنى منها فلن أدعا
بل لأني لم أنْهَزِ المُتعا
قابَ قوسينِ نبعُها شَرَعا
ولأنَّ الهيّابَةَ اللُّكعا
نال منها ما اسطاع وافترَعا
ولأنَّ ابنَ مَنبِتٍ قذرِ
لم يدعْ في الحياةِ من وطرِ
* * *
يا نديمي: وما هي المُثلُ
إذ يُساطُ الإيمانُ والدَجلُ
والرِسالاتُ أين والرُسُلُ
حين يُلوي بهنَّ مُنتحلُ
يا نديمي أصحَّ ما نقلوا
أم هو النُّجْحُ كان والفشلُ
فلذيَّاكَ باقةُ الزَهرِ
ولهذا الشُّواظُ مِن سقرِ
* * *
يا نديمي وشَفَّني حَزَنُ
أن تساوى القبيحُ والحسَنُ
والغبيُّ السفيه والفَطِنُ
وطَهورٌ وجيفةٌ عفِنُ
يا نديمي وضاع مؤتَمنُ
في خَؤونٍ، وأفوهٌ لَسِنُ
في حَصورٍ، ومُحكمُ السّوَرِ
في خضمٍ من تافِهِ الهذَرِ
* * *
يا نديمي كم أكرهُ المَلَقا
والكذوبَ المنافقَ الخَرِقا
يا نديمي وعزَّ من صدقا
إنَّ بي من كليهما فَرقا
غير أني ألِفت ما اتفقا
حينَ لم ألفِ غيرَهُ طُرُقا
يا نديمي: وصنعُ منتحرِ
أن تُرى رهنَ مجمعٍ أشِرِ
* * *
يا نديمي والنفسُ كنزٌ نفيسُ
والكنوزُ المبعثرات كِثارُ
ومدى الدهرِ سوفَ تشقى نُفوسُ
داجياتٌ بألفِ نجمٍ تُنارُ
ونفوسٌ طابتْ فهنَّ شُموسُ
مشرقاتٌ لم تَدرِ كيف النهارُ !
يا نديمي وأين أينَ الفِرارُ ؟
ألنا غيرَ هذه الدارِ دارُ
يا نديمي لم يبق لي ما أُرجِّي
غيرُ ليتٍ، و"ليتُ" زرعٌ بصخرِ
ليتَ أني لبربرٍ أو لزَنجِ
أتغنّى شجونَهم طولَ عمري
نِصفَ قرنٍ ما بين دُفٍّ وصَنجِ
أتُراني كنتُ انتُبِذتُ بقفرِ
وتُجوهلتُ مثلَ واوٍ لعَمرو ؟
لستُ أدري ولا المنجمُ يدري !
* * *
يا نديمي: وأنت لي وَطرُ
وأنا في الحياةِ لي أوطارُ
ضلّ من ظنَّ أنني حجرُ
يُبتنى منه للجموعِ جدارُ
وبأنّي دمٌ لهمْ هدرُ
مِن ثرىً سال فيه تُشوى جِرارُ
أنا لي من طبيعتي قيثارُ
بالذي شئتُ تنطِقُ الأوتار
* * *
يا نديمي: وقد رجَعْت لرُشدي
فوجدتُ الرُشدَ المُبينَ ضلالا
وسراباً ما خَلتُ أعذبَ وردِ
وجنوباً ما قد حسِبتُ شمالا
ما تُراني وقد تبينتُ لحْدي
أتمنى على الزمان المُحالا
أن ترى النفسُ من جديدٍ مجالا
يُوسع الفكر والحياة انتقالا
* * *
يا نديمي: شاهتْ نفوسٌ ضِعافُ
تتقاوى كِذْباً فتزدادُ ضَعفا
تستدِرُّ العطفَ الشياهُ العِجافُ
فإذا تِهْنَ زِدنَ عُجفاً وسُخفا
ومدى العذرِ أنهنَّ خِرافُ
كنّ لحماً، وكنَّ صُوفاً، وظلفا
كم مُقلِّ بما يُكاثِرُ أصفى
ومُسفٍّ عالى فكان الأسَفّا
* * *
يا نديمي: ورهبةُ العَدمِ
شأنَ حبِّ الحياةِ، ملءُ دمي
وشبابٌ حصيلةُ الألمِ
ظل ذِكْرَى تُشابُ بالندمِ
غير أني وجدتُ في الهرَمِ
طعمهُ الحلوَ عالِقاً بفمي
يا نديمي: وأرذلُ العُمُرِ
ما يُعيد التلوينَ في الصِغرِ
* * *
يا نديمي: وأمسِ كان أجيرُ
وأجيرٌ منهم تعرَّتْ صدورُ
حَلقاتٌ بها استبدَّ الحبورُ
حولَ كأسي كؤوسُهم تستديرُ
يا نديمي: وفارَ فيَّ شعور
أنَّ نبعَ الحياةِ منهم يفورُ
إنَّ عُجبي لهذه الزُّمرِ
هو عُجبُ الحجولِ بالغُررِ
يا نديمي وكان ليلٌ فجالا
فارسٌ يَبهرُ العيونَ اختيالا
شِمتُ فيه ممَّنْ عَرَفْتُ خيالا
هو أبهى شكلاً وأرفهُ حالا
كان يُزهى فُتوةً وجمالا
كان شهماً للكادحين مثالا
كان رمزاً لسادةٍ أُخَرِ
غَيرِ أولاءِ سادةِ البَطرِ
يا نديمي: وهذه الزُمَرُ
هي أغلى ما خلَّفَ البشرُ
هي أمَّارةٌ وتأتمرُ
وهي كلُّ الغنى وتَفتقرُ
وهي إن عاث فاتكٌ إشِرُ
قوةٌ للشُعوب تُدَّخرُ
يا نديمي: وخيرُ مدَّخرِ
بشرٌ عاطفٌ على البشرِ
* * *
أنا بين الطُغاةِ والطُّغمِ
شامخٌ فوق قِمَةِ الهرَمِ
فإذا حانَ موعدُ الأزَم
وارتطامِ الجموعِ بالنظُمِ
خلتُني عند سيلها العرِم
قطرةً لامستْ شفاهَ ظَمي
يخضِد المدُّ شوكةَ الجزَرِ
إذ تصُبُّ البِحارُ في الغُدُرِ
* * *
يا نديمي ولي حَشىً يَخِزُ
لجُموعٍ عن واحدٍ عَجَزوا
هم كماةُ الوغى إذا ارتجزوا
ويطيحون إن هُمُ لُكِزوا
فَهُمُ من تناقُضٍ لُغُزُ
وهمُ في يمينهِ خرَزُ
يتَلهّى بها عن الضَّجَرِ
ويدُكُّ الأوضاحَ بالغُرَرِ
* * *
يا نديمي: أمسِ اقتنصتُ طريدا
شاعراً كان يستضيفُ البيدا
كان هِمّاً وكان صُلباً حديدا
يملأ القَفرَ، مُوحشاً، تغريدا
قلتُ مَن ؟ قال: شرطَ أن لا تزيدا
أنا أُدعى: "مسافراً ويزيدا"
من بلادٍ أعدتْ عليَّ القرودا
ونفتني وكنتُ فيها نشيدا
* * *
وتولَّى عني .. فظَلْتُ مليّا
في قرودٍ مُفَكّراً ونشيدِ
وعلى أنّهُ أجادَ الرَّوّيا
أم أجدْ في رَويّهِ من جديدِ
كان قلباً غضاً وفِكراً طَرياً
شاءه الحظُّ في مَزاحفِ دُودِ
كلُّ طيرٍ "مسافرُ بن يزيدِ"
حين يغدو فريسةً لقُرودِ
* * *
يا نديمي: وكان أمسِ يُكَنّى
لفلانٍ عن محنةٍ لفلانِ
وهو ممن بفضلهِ يُتَغَنَّى
بين فرضَيْ صَلاته والأذانِ
فإذا ب "المِجَنِّ !" يُضحي مِسنَّا
ومِقَصّاً لأكلِ لحم "فلانِ"
عائداً من خُرافة .. "المتفاني !!"
بحديثٍ عما " جنته اليدان !! "
* * *
و "جنتهُ اليدان !!" سَقْطُ مَتاعِ
عن سِفاحٍ، وفاسقِ النظُمِ
وهو سمٌ مروقٌ في " العراقِ "
من فمٍ يَبصقُونهُ لفَمِ
وهو حُلو المساغِ عذبُ المذاق
لصعاليكَ في حِمى النِعمِ
يستحلُّونه مع الحُرَمِ
لازدراء الوفاء في الأزَم
يا نديمي: إنَّ النضالَ مريرُ
بَدؤهُ الفقرُ، والرَّدى مُنتهاهُ
ونضالٌ، ونعمةٌ، وقصورُ !!
ليس يدري معناه حتى اللهُ
يا نديمي، كمِ ادّعى مُستجيرُ
بجمُوعٍ: أنَّ الجموعَ شياهُ
غير أنَّ التاريخَ حين طواهُ
لم يجد فيه عِبرةٌ منْ سواهُ
* * *
يا نديمي: وفي خِضمِّ نضالِ
ينزوي تارةً وطوراً يُوالي
وجدَ العائشون في الأدغالِ
فُرصةً لانتهابِ كَرْمِ الدَّوالي
يا نديمي، وبين قِيلٍ وقالِ
كسرَ اللصُّ مُصْمَت الأقفالِ
غيرَ ساهٍ في وهجة الدُرَرِ
عن نصيب الحرَّاس والخفرِ
* * *
يا نديمي وثَمَّ ألفُ زعيمِ
لحفاةٍ مضلَّلين عُراةِ
ألفُ نجمٍ كابٍ بليلٍ بهيم
لم يرَ الصبحَ من جباه السَّراة
ألفُ وجهٍ مَرقْرَقٍ بنعيمِ
صاعرٍ بين أوجهٍ مُزدراة
يتعاطى بأحرفٍ مُفتراةِ
مُزدهاةٍ، مبيعةٍ، مُشتراةِ
* * *
والسَّراةُ "المبغددون" كِثارُ
ألفُ دارٍ لهم هناك ودارُ
كم كؤوسٍ بما تشهَّوا تُدارُ
ونعوتٍ، ليست لهم، تُستعارُ
كلُّ بيتٍ للمُترفين مَزارُ
بدمِ الخلقِ لا بزيتٍ يُنارُ
كما بما يبتدعنَ من صُوَرِ
في حروفِ الهجاء من عِبرِ ؟
* * *
يا نديمي وإنَّ أُوْلاء عارُ
وإنْ اشتطَّ مَزعمٌ وفَخارُ
أمسِ حَلّى نِجارَهم دينارُ
كالعروس استخفَّها زُنّارُ
وهمُ اليومَ سادةٌ أبرارُ
يعزفُ المجدَ حولهمْ قيثارُ
يَصفُون "العوراء" بالحَوَرِ
ويُناغونها على السُرُرِ
* * *
يا نديمي وسال ألفُ شهيدِ
وشهيدٍ دماً بعُود السَّراةِ
ما ترى في مورَّدات الخُدودِ
بُقَعاً من دم الحُفاةِ العُراةِ
وقديماً من ألفِ ألفِ وريدِ
سِلنَ ما بين دجلةٍ والفراتِ
أنهرٌ كنَّ في يد " التَترِ "
خيرَ إرثٍ من زاهر العُصرِ !!
* * *
أفَتدري ما قالَ قومٌ سَراةُ
لجماهيرَ أصبحتْ أُجراءا ؟
لقيَ الضيمَ باعةٌ وشُراةُ
عطّل الشعبُ بيعَهم والشراءا
إي وعينيك قال ذاك عُراةُ
حسِبوا الكذِبَ والرياءَ كِساءا
إيْ وعينيك أودعوه نِداءا
وأذاعُوه بكرةً وعِشاءا
يا نديمي ومرَّ يومٌ وشهرُ
وإذا القومُ زِينةُ "البرلمان"
وإذا في مُلاءة العُهر طهرُ
وإذا المُحْصناتُ هنَّ الزواني
وإذا تلكُمُ النياباتُ أجرُ
عن مبيعِ الشهيد في "دكان"
يا نديمي: ومرَّ عامٌ وثاني
ثم جفَّت خواضبُ الأكفانِ
* * *
يا نديمي وسوف يبقى عِثارا
في مصيرِ الجُموع هذا الرُّكامُ
ريثَما تُبصرُ الطريقَ حَيارى
لأتعي أين تُوضع الأقدامُ
وكما تَدَّري شُخوصاً صِغارا
في ظلامِ الدجى فهنَّ ضخامُ
هم عَماليقُ ما تدنَّى نظامُ
فإذا ما ازدهى فهم أقزامُ
* * *
يا نديمي أمسِ استبدَّتْ طغاةُ
سُلّطتْ أربعين عاماً وعاما
لُويَتْ بالجموع منهم قناةُ
بعدها عنّتِ الحياةُ لِماما
حُلُماً ثم بدَّدته عتاةُ
سنّتِ البغيَ من جديد نظاما
فتمنَّت خلائقٌ أن تُساما
بغيَ ماضين هم أخفُّ انتقاما
* * *
يا نديمي: لك النصيحةُ مني
ليس لي في نصيحتي ما أغِلُّ
خُذْ بعُرس القُرودِ دُفاً وغنّي
وقلِ الأهلُ أنتمُ والمحلُّ !
صِيدُ إنسٍ أنتم وأقيالُ جنِّ
"جنَّةُ الخلد" دون قردٍ تُملُّ !!
لا نُبالي من يُجتوى أو يُبلُّ
ما تمشّى منكم على الأرض ظلُّ !
* * *
يا نديمي: أشِدْ وأنتَ الأريبُ
بالذي قاله الغداةَ "الرئيسُ"
قال: إني لكل شاكٍ طبيبُ
ولمن يبتغي عروساً عروسُ !!
يا نديمي: وقل عدتك الخطوبُ
هكذا هكذا تكون الرؤوسُ
لا كمن ساسَ أمسِ شعباً .. تبوسُ
لم يغادَر رِكزٌ لهم أو حَسيسُ
* * *
يا نديمي: وقلْ لطاغٍ عتيِّ
اِقضِ ما شئتَ لا تَشَلَّ يداكا
وزِّعِ الموتَ بين هيَّ وبيَّ
جعلَ اللهَ مَن عَداك فِداكا
يا نديمي: وسرْ بهذا الرويِّ
ترقَ في سُلّم المُنى أفلاكا
تجِدِ الناسَ كلَّهم ما عداكا
لا يُساوون من نعالٍ شِراكا
* * *
يا نديمي: ولا يَعُقْكَ الحياءُ
فابتذالٌ يَشيعُ يَنفي الحياءا
وإذا الحكمةُ امتطاها الهُراءُ
ساقَ، فيمن يسوقُه، الحكماءا
يا نديمي: إنَّ الذكاءَ عَناءُ
في محيطٍ يُدلِّلُ الأغبياءا
وإذا شئتَ فاسألِ الأنبياءا
تجدنهُمْ أضاحياً أبرياءا
يا نديمي: ورُبَّ نجوى سِرارِ
ليَ كانت مع النجومِ السواري
لا لشيء إلاّ لفرطِ حَذار
من نفوسٍ ديفت بحُبٍّ مُواري
لا لليلٍ داجٍ ولا لنهار
بُثَّ شكواكَ صاحبي لجدار
فهو أولى من خُدَّعٍ نُكُرِ
ليس فيهم براءةُ الجُدُر
* * *
يا نديمي: وكان يومٌ مَطيرُ
ونديمٌ وعازفٌ ومغنّي
وكؤوسٌ كادتْ شعاعاً تطيرُ
في أكفِّ السقاةِ مِن فرطِ حُسنِ
وكأن الرعودَ بَمٌّ وزيرُ
وكأن الرذاذَ إيقاعُ لحنِ
وإذا نحن نحتمي بِمِجَّنِّ
من صروفِ الزمانِ في يومِ دَجْنِ
* * *
وتقَضّى لهوٌ وغاضتْ مُدامُ
وتجاسى عودٌ ومات النديمُ
فإذا بالرذاذِ وهو سِهام
وإذا بالغيوم مَوتى تحومُ
وإذا هذه الحياةُ انسجام
أشقاءٌ أتاحها أم نعيمُ
وإذا نحنُ إذْ تَرِقُّ نسيمُ
هبّ منها وحين تقسو سَموم
* * *
يا نديمي: والعلمُ أضحى حسابا
زاد جذراً أو راحَ يَنْقُص كُعْبا
والخفيُّ المجهولُ شقَّ الحِجابا
لم يُداهنْ عبداً، ولا خاف ربّا
غير أنَّ النفوسَ ظلّت كتابا
مُغلقا، مُوحشَ الصحائفِ، صعبا
قُل لمن شارَفَ النجومَ وأربى
هل تلمسْتَ في مطاويكَ دربا ؟
* * *
يا نديمي: وقد بَشِمْت احتقارا
لضجيجِ الهُتافِ والتصفيقِ
عِشْتُ أشقى ليلاً به ونهارا
عاشَ فيهنَّ من دمي وعُروقي
ثم لَمْ أُلفِ إذ لقيتُ العِثارا
في الملايينِ من صديقٍ صَدوق
غيرَ دعوى كفارغِ الهَذرِ
كصفيرِ الرياح في الشجرِ
* * *
يا نديمي: كم من شعارٍ كذوبِ
من مضامينه تهزّا الحروفُ
كُلُّ ما فيه من هناءٍ وطيب
عن معانٍ أضدادُها تحريف
كان فيهنَّ شِبه مرعىً جديب
أخطأتْ قصدها إليه ضيوف
يا نديمي كلُّ الحروفِ تُخيفُ
في دساتيرَ شرَّعَتْها السيوف
* * *
يا نديمي: وأمّةٌ تَثِيبُ
ثم تغفو لَقِصَّةٌ عَجَبُ
عَجَباً كيفَ ينخُرُ السّغَبُ
في عظامٍ كأنها قَصَب
نُهزَةٌ للرياحِ تنتحبُ
فإذا هزَّ عودَها غَضَب
آذنتْ للعيون بالشررِ
ثم تغفو فليس مِن خَبر
يا نديمي: ونِعْمَ ما صنعا
حينَ ألفى مرعىً به فرعى
أطلسٌ منه حالَفَ السَبُعا
رثّ حبلُ القُطعانِ فانقطعا
فهما يأكُلانِه قِطَعا
وهوَ يخشى كليهما فَزعَا
يا نديمي: وحُبَّ من وَطرِ
ما يحثُّ الجزارَ في الجَزَر
* * *
يا نديمي: وبينَ أخْذٍ وردِ
ضاعَ حدٌّ ما بين ضِدٍّ وضِدِّ
كم مُنيفٍ هوى ركيساً لوهد
وركيسٍ سما لِقمَّةِ مجد
يا نديمي: ورُبَّ عبدٍ لعبد
تاه في بُرد سيّدٍ من مَعّد
كان من صنع أُمةٍ شَذَرِ
لا لبدوٍ كانت ولا حَضَر
* * *
يا نديمي: لم يَبرحِ الفلكُ
كيفَ شاءَ الغباءُ والخرَقُ
من غَنُوا تحتَه ومن فُلِكوا
عندَهُمْ من خَصاصَةٍ فَرَق
كلُّ شيءٍ لِدْرهَمٍ شَرَكُ
كثرتْ نحوَ "مكّة" الطُرُق !
قبلُ صُبَّ السبيكُ والوَرِقُ
وأتى النبلُ بعدُ والخُلُق
* * *
يا نديمي: أمسِ استمعْتُ جِدالا
بينَ عقلين منتجٍ وعقيمِ
قال هذا: ساءَتْ رؤىً ومِثالا
كُتَلٌ من مشاكلٍ وهموم
ومشى ذاك يضربُ الأمثالا
بكديحٍ ومستغِلٍّ زنيم
واجداً في النظام والتنظيمِ
هوةً بين رافِهينَ وهِيم
* * *
يا نديمي: وكَمْ خَفِيِّ شعورِ
هاجه فيَّ خَفْقُ رعدٍ وبَرقِ
وارتجافُ الأضواء فوقَ النمير
لمصابيحَ كالزُمُرُّدِ زُرْق
كم ترى بينَ مُصْمَتاتِ الضمير
من تلاقٍ، وبينَ خفْقٍ وخفق
يا نديمي: وبين فِرْق وفِرقِ
لحَمٌ لَسْنَ بين شِقٍّ وشِقِّ
* * *
يا نديمي: أمسِ استمعتُ هُتافا
من بعيدٍ .. من غابراتِ القرونِِ
أنْ كُنِ المرءَ لا يهابُ مَطافا
لنجاءٍ مشى به أو كمين
إنَّ " سُقراطَ " ذاق سُماً ذُعافا
ليرى الفكرَ فوقَ رَيبِ الظُنون
يا نديمي: ورغمَ كرِّ السنين
ظَلَّ " سُقراطُ " فوقَ ريبِ المَنون
* * *
يا نديمي: والفَقْرُ عارٌ مُهينُ
والنواميسَ عارُها الفقراءُ
درجتْ أعصرٌ ومرَّتْ قرون
وأناسٌ لغيرهم أُجراء
وأناسٌ كما تُريد تكون
وأناسٌ كما يُريد الشَّقاء
يا نديمي: وكُلُّ دعوى هُراءُ
ما تبقّى مُحَسَّنٌ ومُساء
يا نديمي: وعِشْتُ بين غُلاةِ
أفرغوا فوقَ "خِنجرٍ" بُردَ عيسى
لا لحَضرٍ كانوا ولا لبُداةِ
إن عند البُداةِ نُعمى وبوسى
همْ من الشرقِ شرُّ ما في الفَلاة
ومن الغربِ ما استجدَّ لَبوسا
عافَ "بُوذا" تَجارها المأيوسا
وأبى "أحمدٌ" و "عيسى" و "موسى"
* * *
يا نديمي: أمسِ احتملتُ كِتابا
وكأنّي احتملتُ فِكراً بنعشِ
إن رأساً أوحاه أمسى ترابا
وهو ما انفكَّ فيه يُوحي ويُنشي
يا نديمي: وقد لقيتُ عُجابا
من عقولٍ شتَّى على الأرض تمشي
أبتِ الموتَ بين أنيابِ وحشِ
فاغراتٍ ما بين لَحدٍ ورفش
* * *
يا نديمي: وللنجومِ انحدارُ
وصعودٌ .. وللشعوبَ ارتكاسُ
ووثوبٌ .. حالٌ بحال تُغار
غير أنَّ الشعوبَ حين تُساس
بالعصا طولَ عُمرِها تنهارُ
ويروح الشذوذ وهو قِياسُ
كم شعوبٍ لها النُعاس مِراسُ
وشعوبٍ لم تدرِ كيف النعاسُ
* * *
يا نديمي: ورُبَّ ديوانِ شِعرِ
سلتُ فيه دماً، وفكراً، وروحا
وتمازجتُ مثلَ كأسٍ وخمرِ
أتبنّى جمالَه والقبيحا
كنتُ منه وكان منّي كشطرِ
لِصْقِ شطرٍ فيما يُناجَى ويُوحى
أتملأُ خاسراً وربيحا
وأُعاني جروحَه والقروحا
* * *
يا نديمي: إنّ الحياةَ طيوفُ
يتحدى اللطيفَ فيها العنيفُ
وهي إن تقسُ أو تَرِقَّ ظُروفُ
تبْهِجُ النفسَ تارةً وتُخيفُ
ليتَ شعري والمرءُ طيفٌ سخيف
رصدته عَبرَ المطافِ الحتوف
من تراه يجيءُ بالخبر
كيف تبدو الدنيا لمُحتَضَرِ ؟
* * *
يا نديمي: زُفَّت لُعرْسِ غُرابِ
أمسِ مليونُ باقةٍ من زهورِ
ورثَوه فعادَ مَحضُ النُعاب
نغماً يَسْتَرِقُّ سمعَ العصور
وتغنّوا بكل عارٍ وعاب
فأحالوهما لمجدٍ وخِير
وأقاموا لفَحمةٍ في حَفير
مأتما لم يُقَمْ لبدرِ البُدور
* * *
يا نديمي: وألفُ صَنْجٍ ودُفِّ
ضِعْنَ ما بين "أطلسٍ" و "الخليجِ"
وقوافٍ على شفاه المقفّي
عِشْنَ ثمَّ اندثرنَ بالتهريج
يا نديمي: لا تعلُ فوق المُسِفِّ
وتلاءم خيطاً لكل نسيج
وتحجَّجْ ما دمتَ بين الحجيج
أو فمُت موتَ ضِفدعٍ في خليج
* * *
يا نديمي: كَمْ جائعينَ طعاما
أطعمُوهمْ قنابِراً، وحريقا
خيُّروا بين أن يُشَبوا ضِراما
لعُتاةٍ، أو أن يُساقوا رقيقا
يا نديمي: وكان ذاك نظاما
حاز عوناً، وناصراً، ورفيقا !
يا نديمي: ولن تُحِسَّ العُقوقا
لحقوقِ الشعوبِ حتى تذوقا
يا نديمي وشاهَ مجتمعُ
نخِرتْ في عظامه البِدَعُ
منذ ألفٍ وأهلُه شيع
منْ غَزَاهمْ فَهُمْ له تَبَع
يتهزّا بالجائعِ الشَبِعُ
ويُسَبُّ العفيفُ والورِع
فهو عبد لكل محتَقرِ
وخؤونٍ، ومدَّعٍ ، وثري
* * *
يا نديمي: وواخزُ النَّدمِ
هو أندى جُرحاً وأقوى لَجَاجا
تلِجُ النفسُ منه بالألم
أيَّ باب للحزن يأبى رِتاجا
أبداً في متاهة الظُلَم
تُطفئ الذكرياتُ منها سِراجا
أبداً في صميمها النِخرِ
يرتمي سمُّ حيّةٍ ذكرِ
* * *
يا نديمي وجُبْتُ شتّى بِقاعِ
فإذا الخلقُ كلُّه عبدُ وضعِ
وإذا كلُّ نأمةٍ في الطباع
هي ملزوزةٌ بمخلوق صنع
وإذا كلُّ عبقريٍّ صَناعِ
هو في المُبدعين أفضعُ بَدع
يا نديمي: هوتْ كمنخور جِذع
حِكَمٌ عن دعائمٍ، لُحْن، سَبعِ
* * *
يا نديمي والحبُّ محضُ نفاقِ
ما تخلى عن حُرمةٍ وذمامِ
كم ظنينٍ حتى يرُقية راقٍ
راح يُعطيك روحَه في الكَلام
لك منه الأشواق يومَ التلاقي
وعناقٌ ما بينَ عامٍ وعامِ
ثم يعلو ببُرج بدرٍ تمامِ
ويُخلّيكَ تائهاً في ظلامِ
* * *
يا نديمي: وَنغَّص العيشَ عِلمُ
أنه رهنُ رِقبة الرُقباءِ
ألفُ مغروسةٍ بلؤمٍ تَلُمُّ
رمشةَ الجَفن أو خيوطََ القبَاء
ليتَ عيناً تَعمى وأُذنا تَصَمُّ
عن ظهارٍ، وعن سِرارٍ سواء
إنَّ عيشا نُهى سميعٍ ورائي
كجُواءٍ مُهدَّدٍ بوباءِ
* * *
يا نديمي: لا يَخْدَعْنَك سُكونُ
في نفوسٍ يغلي بهنَّ اضطرابُ
أيُّ بؤسٍ به تَنمُّ العيونُ
وهمومٍ بهنَّ يعيا الإهاب
ربَّ صبرٍ على بَلاء يكون
فيهِ من نفسه عليه ثواب
يا نديمي: وإذ يُثاب المُثابُ
تتساوى جريمةٌ وعِقابُ
* * *
يا نديمي: زاد النفوسَ اضطرابا
كونُها بين شدةٍ ورخاء
يستسيغ العافي السُّموم شرابا
ومُعافى خِلوُ يَغَصُّ بماء
ويرى الموتَ راكبون صِعابا
خيرَ ما اختير من دواءٍ لداء
فإذا ما ابتُلوا بداء الرَّخاء
فهمُ عنه أجبنُ الجُبَناء
* * *
يا نديمي: ومجمعٌ خَرِقُ
نحن وهنٌ في نفسه علَقُ
نحن شئنا أو لم نشأ فِرَق
مِزَقٌ طوعَ أمره خِرق
نحن وَهْوَ الرياحُ والورق
ونجيعُ الدماء والعَلق
نحن صَلصالةٌ من الحُفرِ
آسنات عريقةُ الجُذُرِ
يا نديمي إنَّ الوُجود طبيعهْ
حسناً كان أم هناةً شنيعهْ
إن كوناً للعاطفاتِ صنيعه
واجدٌ فيه كلُّ إثم شفيعَه
يسبِق الطبعُ حكمةً وشريعه
مثلَما يسبِق المجلّي تبيعَه
ثم تأتي روادعُ الزَّجرِ
كلجامٍ يقي من الخطر
* * *
غير أنَ اللجام كان اصطناعا
وعَصوفَ الرياحِ عفواً طباعا
فإذا صادفت خيولٌ يَفاعا
أوتدهدتْ إلى الحضيض سِراعا
كَسَرت شوكةَ اللجام اندفاعا
وكذاك الطباعُ تأبى انصياعا
حين تهوي لمزلِّقٍ خَطِرِ
لنواهي نهيٍ ومُزدجَر
* * *
يا نديمي: إنَّ الجْمالَ متاعُ
وحياةٌ بلا متاعٍ جحيمُ
ليت هذا النِصْفَ اللطيفَ اقتراع
لا كظيظٌ منه ولا محروم
ظُلِمَ الشرقُ عند شرقٍ جياع
كضباعٍ وعند غربٍ حريمُ
يا نديمي وهكذا سيدومُ
في صراعٍ مع الشقاءِ النعيمُ
* * *
يا نديمي: وأمسِ خمسٌ كعابِ
كاشفاتِ الصدورِ واللَّباتِ
حول فردٍ جُمّعن كالأنصاب
لِصقَ خمس كالهيمِ في الفلوات
كعِطاشٍ إلى عتيقِ شَراب
أُلزِموا بالصيام والصَلوات
فهمُ يلعقون في الخلوات
ما لدى غيرِهم من الصَّبَوات !!
* * *
يا نديمي: وأمسِ غِبَّ كرى
عانَقَ النفعُ خصمَه الضررا
والتقى ناحرٌ ومن نحرا
فأجدّا مآسياً أُخَرا
ربَّ دمعٍ من مُقلتين جرى
كان فيه الربيحُ من خسِرا
والربيحُ الجزّارُ في خُسُرِ
دِيَةُ النصرِ دمعُ منتصِر
* * *
يا نديمي: وأمسِ في الحُلُمِ
لاح لي طيفُ غامسٍ بدمِ
عارياً غيرَ حُلَّةِ الندم
وقميصِ السَّقام والألم
قذفَتْهُ إليَّ من أَمَم
غابةٌ مكتظَّةُ الأجَم
يتحدّى بالنابِ والظُفُرِ
شِرعةَ الثاوين في الحفر
* * *
كان مِسخاً .. مما اصطلى وجنى
وبما سام غيرَه الحَزنَا
كان بؤساً ومأتماً قُرِنا
فهمنا يبغِيانِه ثمنا
كان يُلِقى ضميرَه العِفنا
يأكل الروحَ منه والبدنا
يا نديمي: وهان ذو خَطَرِ
وتساوى والدودَ في الحُفَر
* * *
يا نديمي: عَوَت ذئابُ الكلامِ
حين شمّتْ قُتارةً من ثريدِ
حلَّلت ما على خِوانِ اللئام
شرطَ أن يُشتوى "بفُرنٍ" جديد
طلبت من طُهاةٍ أشقى نظام
أنْ يُعدّوا خِوانَ عهد سعيد !
طمعاً باقتطاع لحم الزُّنودِ
أُسوةً منهمُ بكل العهودِ
محمد مهدي الجواهري (26 يوليو 1903 – 27 يوليو 1997): شاعر عربي عراقي، يعتبر من بين أهم شعراء العرب في العصر الحديث. تميزت قصائده بالتزام عمود الشعر التقليدي، على جمال ...