مؤنبة مرثية من التأبين وهو مدح الميت وتسمى بمعنى تسمى أي أنت أجل من أن تعرفي بإسمك بل وصفك يعرفك بما فيك من المحاسن والمحامد التي ليست في غيرك كما قال أبو نواس، فهي إذا سميت لقد وصفتن فيجمع افسم معنيين معاً
لا يَملِكُ الطَرِبُ المَحزونُ مَنطِقَهُ
وَدَمعَهُ وَهُما في قَبضَةِ الطَرَبِ
من استخفه الحزن غلب على لسانه ودمعه فلا يبقى له ملكة عليهما وإذا ملكهما غلبه الطرب وصارا في قبضته والمعنى أن المحزون يسبقه لسانه ودمعه فلا يملكهما ويريد بالطرب ها هنا ما يقلقه من الحزن
اللجب: الصوت في الحرب.
يقول: يا موت غدرت بهذه المتوفاة: بعد أن كنت تصل بها إلى إفناء الأعداء: الذين هم الكفار، وإلى إسكات لجبهم، لأنها تجهز الجيش، وتنفق في سبيل الله تعالى
خبر: مرفوع بجاءني. وفي طوى ضمير على شريطة التفسير. وفي قول الكوفيين مرفوع بالفعل الأول وجاءني مسند إلى ضميره: أي حتى جاني هو. والجزيرة: مدينة معروفة على شط دجلة بين الموصل وميافارقين.
يقول: جاءني خبر موتها من الشام وقطع الجزيرة حتى وصل إلي، فلما سمعته التجأت إلى التعلل بالآمال الكاذبة فقلت: لعله يكون كذباً، فلم ينفعني ذلك
حَتّى إِذا لَم يَدَع لي صِدقُهُ أَمَلاً
شَرِقتُ بِالدَمعِ حَتّى كادَ يَشرَقُ بي
أي حتى إذا صح الخبر ولم يبق أمل في كونه كذبا شرقت بالدمع لغلبة البكاء أياي حتى كاد الدمع يشرق بي أي كثرت الدموع حتى صرت بالإضافة إليها لقلتي كالشيء الذي يشرق به والشرق بالدمع أن يقطع الانتحاب نفسه فجعله في مثل حال الشرق بالشيء والمعنى كاد الدمع لاحاطته بي أن يكون كأنه شرق بي
تَعَثَّرَت بِهِ في الأَفواهِ أَلسُنُها
وَالبُردُ في الطُرقِ وَالأَقلامُ في الكُتُبِ
أي لهول ذلك الخبر لم تقدر الألسن في الأفواه أن تنطق به ولا البريد في الطريق أن يحمله ولا الاقلام أن تكتبه ولم يلحق الياء في به بالهاء واكتفى بالكسرة ضرورةً وقد جاء عن العرب ما هو أشد من هذا كقول الشاعر، وأشربُ الماء ما بي نحوه عطشٌ، إلا لن عيونه سيل واديها، وهذا كقراءة من قرأ لا يؤده إليك بسكون الهاء ويروي تعثرت بك يخاطب الخبر ويترك لفظ الغيبة
وَهَمُّها في العُلى وَالمَجدِ ناشِئَةً
وَهَمُّ أَترابِها في اللَهوِ وَاللَعِبِ
الأتراب: جمع ترب وهو اللدة وأكثر ما يكون للمؤنث.
يقول: كان همها اكتساب المعالي وهي ناشئة حديثة السن، وهم أمثالها ومن كانت في سنها: اللهو واللعب. يعني: وحرمة من كانت كذلك
المبسم: الثغر. والشنب: برد الريق، وقيل أراد بالشنب ها هنا: الكناية عن المال.
والمعنى: أن أترابها يعلمن حسن مبسمها حين يجئنه؛ لأنها كانت تستعمل البشر إذا حييت، وذلك عنوان العطية، فهن يعرفن هذا القدر والله يعلم ما يتبع التبسم من المال، فكنى عن ذلك بالشنب حيث ذكر المبسم
مَسَرَّةٌ في قُلوبِ الطيبِ مَفرِقُها
وَحَسرَةٌ في قُلوبِ البَيضِ وَاليَلَبِ
اليلب: ترسة تعمل من جلود الإبل، وقيل جلود تضفر ويضم بعضها إلى بعض وتلبس على الرأس مثل البيضة، وقيل: تلبس إذا لم يكن لهم درع وقيل تحت الجواشن، وقيل تحت البيض.
يقول: إن الطيب يسر بحصوله في مفرقها؛ لأنها كانت تستعمل الطيب، والبيض واليلب يتحسران عليها ويحسدان الطيب؛ لأنها لا تلبسهما لكونها امرأة
التقدير والمعنى: إذا رأى البيض رأس من يلبس البيض، ورأى هذه المرأة، علم أن المقانع أعلى منزلة من البيض؛ لأنها على رأسها، وهي أشرف من الرجال الذين يلبسون البيض واليلب
وَإِن تَكُن تَغلِبُ الغَلباءُ عُنصُرَها
فَإِنَّ في الخَمرِ مَعنىً لَيسَ في العِنَبِ
تغلب: قبيلة؛ فلهذا أنثها فوصفها بالغلباء وهي تأنيث الأغلب والعنصر: الأصل.
يقول: هي وإن كانت من تغلب، ففيها من معاني الكمال وأنواع الخصال ما ليس في تغلب، كما أن الخمر وإن كانت من العنب، ففيها معان ليست فيه: من التفريح، والتصحيح للأبدان وطيب الرائحة
جعلها وشمس النهار شمسين ثم قال ليت طالعتهما وهي شمس النهار غائبة وليست غائبتهما وهي المرثية لم تغب أي أنها كانت أعم نفعا من شمس النهار فليتها بقيت وفقدنا الشمس
يقول إذا ذكرت صنائعها بكيت لمحبتي إياها والمحبة لها سبب وسبب محبتي صنائعها لدي وإحسانها إليّ وروى ابن جنى بلا ود ولا سبب أي لم يكن بكائي لود أو سببٍ سوى صنائعها
يقول للأرض: أطلت عليها السلام، وأنا بعيد منها، فهل سمعت سلامي وصل إليها وهي في بطنك؟
وكيف تبلغ موتانا الّتي دفنت … وقد يقصّر عن أحيائنا الغيب؟
الغيب: جمع غائب.
يقول مستبعداً لوصول سلامه إليها: كيف يصل سلامي من المكان البعيد إلى من دفن في التراب؟ وهو يقصر عن الأحياء الغيب! فالميت أحرى ألا يصل إليه السلام. وقيل: أراد بالحي سيف الدولة
الغيب: جمع غائب.
يقول مستبعداً لوصول سلامه إليها: كيف يصل سلامي من المكان البعيد إلى من دفن في التراب؟ وهو يقصر عن الأحياء الغيب! فالميت أحرى ألا يصل إليه السلام. وقيل: أراد بالحي سيف الدولة
يا أَحسَنَ الصَبرِ زُر أَولى القُلوبِ بِها
وَقُل لِصاحِبِهِ يا أَنفَعَ السُحُبِ
الهاء في بها للمرأة المرثية، وفي صاحبه تعود على: أولى القلوب.
يقول: يا أحسن الصبر زر قلب سيف الدولة، فإنه أولى القلوب بأخته، وأقربهم منها، وقل لصاحب ذلك القلب: يا أنفع السحب؛ لأن عطاياه مهنئة، بلا من ولا كدر، كالسحاب بلا صاعقة
وَأَكرَمَ الناسِ لا مُستَثنِياً أَحَداً
مِنَ الكِرامِ سِوى آبائِكَ النُجُبِ
النجب: جمع نجيب، وهو الكريم. ومستثنياً: نصب على الحال. أي قل غير مستثن.
يقول: وقل لصاحبه يا أكرم الناس كلهم، من غير أن تستثني أحداً من الكرام، سوى آبائه الكرام الذين هو ينسب إليهم
إنما استغفر له من الأحران لأن الحزن كالغضب والغضب ممن هو تحتك إذا أصابتك منه ما تكره والحزن ممن هو فوقك وقد جمعهما الله تعالى في قوله ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا فالغضب إنما كان على قومه الذين عبدوا العجل والأسف إنما كان بسبب خذلان الله إياهم حين عبدوا العجل والإنسان إذا حزن لمصيبةٍ تصيبه فكأنه على القدر المقدور حيث لم يجر بمراده والغضب على المقدور مما يستغفر منه
أي كان الدهر سلبك وأنت تجزع لأنك لا تسخو بالسلب وهذا كقوله، لا جزعا بل أنفا شابه، أن يقدر الدهر على غصبهِ، وقوله ولا يسخون إخبار عن النفوس كقوله تعالى إلا أن يعفون يعني النساء
النبع: شجر صلب تتخذ منه القسي، ومنبته في رءوس الجبال، وما ينبت في سفح الجبال فهو: الشريان وما كان في الحضيض فهو: الشوحط وجميعها شجرتها واحدة واختلفت أسماؤها لاختلاف منابتها والغرب: شجر ضعيف يشبه شجر الخلاف.
يقول: لا أصابتك حوادث الدهر، فإن أحداً لا يقدر على دفعها، فمتى شاءت الليالي قهرت القوى بالضعيف، والعزيز بالذليل، والأصيل بالدخيل، وضرب النبع والغرب مثلا
الخرب: ذكر الحباري وجمعه خربان.
يقول: لا أعانت الليالي عدواً لك مقهورا في يدك، ذليلا في جنبك؛ فإنها إن أعانته عليك قهرك، وإن كان أضعف منك شوكةً فإنها لو أرادت أن تصيد الصقر - مع قوته - بالخرب - مع ضعفه - لامكنها ذلك. وروى: ولا يعز عدو أي لا عز عدوك وروى: ولا يعز عدواً أي الليالي لا أعزت عدواً
وَإِن سَرَرنَ بِمَحبوبٍ فَجَعنَ بِهِ
وَقَد أَتَينَكَ في الحالَينِ بِالعَجَبِ
يقول: إن الليالي تجمع بين المسرة والمصيبة، وهما ضدان وهذا من العجب: وقيل: العجب أنها سرتك بحياة المرثية مسرةً عظيمة، وفجعتك بموتها فجيعة عظيمة.
وقيل: إنها سرت من غير علة، وفجعت من غير علة
لم يقضِ أحد حاجته من الليالي لن حاجات الإنسان لا تنقضي وهو قوله ولا انتهى اربٌ إلا إلى أرب كما قال الآخر، تموت مع المرء حاجاته، وتبقى له حاجةٌ ما بقي، واللبانة الحاجة والأرب الغرض
تَخالَفَ الناسُ حَتّى لا اِتِّفاقَ لَهُم
إِلّا عَلى شَجَبٍ وَالخُلفُ في الشَجَبِ
الشجب: الهلاك، وهو شجب وشاجب: أي هالك.
يقول: إن الناس اختلفوا في كل شيء، حتى لا يوجد منهم اتفاق إلا في الموت، فإنهم اتفقوا على كونه ومع ذلك اختلفوا فيه
هذا تفسير للخلاف في الموت.
يعني: أن الناس مع اتفاقهم على أنه كائن، اختلفوا فيه أيضاً، فقال قوم: إن الجسم يموت والنفس تبقى حية، وهو قول الفلاسفة. وقال آخرون: تموت النفس مع الجسم، وهذا قول أهل الحق. والله أعلم بالحق
وَمَن تَفَكَّرَ في الدُنيا وَمُهجَتِهِ
أَقامَهُ الفِكرُ بَينَ العَجزِ وَالتَعَبِ
يقول: من تفكر في أحوال الدنيا وتقلبها بأهلها، وفي حال نفسه فيها، وأراد الوقوف على حقيقة الأمر، أتعب فكره وانقطع عاجزاً لم يحصل له علم بأحوالها ولم يقف على حقيقة أمرها
احمد بن الحسين بن الحسن بن عبدالصمد الجعفي الكوفي الكندي ابو الطيب المتنبي.(303هـ-354هـ/915م-965م) الشاعر الحكيم، وأحد مفاخر الأدب العربي. له الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. وفي علماء الأدب من ...