وأَنا أَغسل الصحون ، أمتلئ بفراغ منعش وأَملأ الوقت بفقاعات الصابون . لماء الحنفيَّة إيقاعٌ يفتقر إلى آلة موسيقية. أُصاحبه بصفير متقطّع ، و بمقطع من أغنية شائعة لا شخصية لها . أَلهو بالرغوة الشبيهة بغيمة تلمع فيها ألوانٌ موسميَّةٌ وتنطفئ . أُمْسِك الغيمةَ بيديّ و أوزِّعها على الصحون والكؤوس والفناجين والملاعق
و السكاكين . تَنْتَفِخُ الغيمة كُلَّما سالت عليها قطراتُ الماء. أحفِنها وأُطيِّرها في الهواء فتضحك لي، و أزداد امتلاء بفراغي . لا أفكِّر بشيء كأني ظهيرة لا مبالية. لكن صُوَر ذكريات محايدة تهبط من مكان بعيد إلى حوض الماء ، ذكريات لا تجرح و لا تفرح ، كنزهة في حرش صنوبر، أو كانتظار حافلة تحت المطر، فأغسلها بحرصِ مَنْ يحمل إناء من بلّور أدبي . و حين أتأكد من أنها لم تنكسر تعود سالمةً إلى مصادرها الأولى في حرش صنوبر، و أبقى هنا. أَلهو برغوة الصابون ، و أسهو عمَّا ليس موجوداً. أنظر برضا إلى ذهني الصافي كزجاج المطبخ ، و إلى خُلُوِّ قلبي من الشوائب كصحن مغسول بعناية. و حين أحسّ بأني امتلأت تماماً بالفراغ المنعش، أملأ الفراغ بكلمات لا تخصّ أحداً سواي : بهذه الكلمات!
محمود درويش شاعر المقاومه الفلسطينيه ، وأحد أهم الشعراء الفلسطينين المعاصرين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة و الوطن المسلوب .محمود درويش الابن الثاني لعائلة تتكون من خمسة أبناء وثلاث بنات ...