لا ماء في البحر لا حياة في القبلة لا عدالة بين نابي أفعى و لا شمس ساطعة في قلبي قطيع من الموتى في فمي و الغسيل على الشرفات موظفون لزرق الكآبة في الشرايين ملائكة بقوانين حمورابية لإغتيال الموتى و الأحياء و القبور محاسبون لإحصاء الأظافر و الأيدي و الرؤوس المتعبة ثيران بقوائم لطيفة لشرب البيرة و إصدار المراسيم حشرات ملوّنة على الشرفة و فراشات كالحة على الرمال عشاق فاشلون لوحات تشكيلية فاشلة ربطة عنق ناجحة دوائر، و امرأة محطمة صورة بإطار. صورة بلا إطار صورة بيضاء. صورة سوداء. صورة سكوب بالألوان و لكن ليس هذا هو العالم كله: فالرمال ما زالت ناعمة و دافئة و البحر ما زال يرسل للصيادين الخرافات و الأسماك ماء النهر صافٍ و الأطفال ما زالوا يحبون الفستق ثمة رجل يبحث في جيوبه عن امرأة ثمة امرأة تبحث عن حذائها في الطريق و الصغار يستطيعون أن يبتكروا ألف لعبة بإصبع واحدة من الطباشير إذن، لا تحلموا بالشمس كثيرًا فالشمس ستشرق في الساعة السادسة و الثلاثين دقيقة حتمًا إذن، لا تسألوا العصافير عن لون السماء في البلاد البعيدة لا تسألوا الزمن عن الذكريات لا تسألوا الأشجار عن نكهة الفؤوس في الخاصرة لا تسألوا الصعاليك عن رطوبة الأرصفة لا تسألوا التوابيت عن رائحة الموتى لا تسألوا القتلة عن رائحة الدم و لا تسألوا سمر عن قلبي فالأسئلة البسيطة قذيفة الأسئلة المعقدة انتحار و نحن سكان الأرض الأسوياء من الأفضل أن نوزّع الأقمطة و النياشين على مغتصبي العالم: "من الأفضل أن نوزّع التعب الإسبارطي و النقود البيزنطية على الناس بالتساوي" هذا ما قالته المرأة الواسعة التي مسحت أحذية القادة بلسانها الملتهب و كانت تقول لي: و أصابعها تتحرك كقطيع من الوعول في شَعري: ألديك غرفة بطول قامتي؟ و هل نافذتها تطلّ على الشارع أم على المقبرة؟ المرأة التي عبرت المجنزرات بين نهديها كسرب من النوارس البيضاء كانت تقول لي أيضًا و هي تنتحب بانفطار: لماذا لم أعد أراك؟ لماذا لم أعد أراك في المطر؟ هل أخذوا منك معطفك الداكن ليمسحوا به أحذية الملوك؟ المرأة التي تركت على سترتي صوتها المضيء تهتم بالحب و الأغاني المكتوبة و تقول لي: أتريد أن تقبلني؟ أتريد أن أقبلك؟ إذن، اغمض عينيك و دع الشرفة مفتوحة المرأة التي لم تقبّل أحدًا منذ معركة واترلو معركة العلمين مذبحة دير ياسين و مذابح العالم الأول و الثاني و الثالث و الرابع كانت تقول لي و هي تضع يدها الطرية على صدري: قلبك لم يعد طريًّا و نبضك يدق ببرود فهل جعلوا من قلبك منفضة لرماد سجائرهم؟ و من شرايينك أحزمة لبواريد جنودهم؟ المرأة التي كانت تبكي في الأزمنة البعيدة كانت تقول لي: ألديك أصابع؟ أين هي أصابعك؟ هل سرقوها منك دون أن تدري؟ هل أخذوها عنوة بمساعدة السكاكين؟ هل سقطت منك و أنت تركض في الليلة الفائتة وراء ظلّك؟ و كانت تقول لي –المرأة اليابسة كقشور الكستناء الممتلئة كالكستناء الناعمة كالكستناء الطيبة كالكستناء: أمس لم يسأل عنك أحد لا ماء في البحر و لا سمكة على الشاطئ أمس لم يسأل عني أحد زارني الموت و لم يكن على الرفّ قهوة و لأن الموت يحب القهوة مثل جميع الناس فلقد قلب شفتيه و صفق الباب وراءه و مضى في قطار العتمة. و كانت تقول لي: أنت لا تبكي أنت لا تبتسم فمن احتسى دموعك بدلاً من الفودكا بالبرتقال؟ و من أكل ابتسامتك بدلاً من فطائر الكبد المشوي؟ فمك مغلق، و لسانك مصفّد تُرى، هل تختبئ في فمك أغنية أم نقالة موتى؟ حديثًا عن عطلة نهاية الأسبوع؟ أم طفلة بعينين مفقوءتين؟ هل نسفوا لسانك أيضًا؟ أم ثبتوه بسقف حلقك بالدبابيس الفضية؟ و كانت المرأة التي تعدّ على أصابعها قتلى حروب الطبقات تقول لي: هل تعرف نيرون؟ هل قرأت عن نيرون؟ نيرون لم يكن مذهلاً لكنه أحرق روما أنا هي عاصمتك المحترقة و أعرف أنك لست نيرون و لكن قل لي: هل تحبني؟ هل تحبني؟ هل تحبني؟ هذا ما قالته المرأة الواسعة قبل أن تحمل مظلتها الضيقة و تمضي في المطر الناري و أنا –المهذب، المهذب، المهذب إلتففت بمعطفي و مضيت و أنا أذكر أنها قالت: من الأفضل أن نبتلع المجنزرات بدلاً من حبوب الكورسيدين!.
الشاعر السوري رياض الصالح الحسين ولد في محافظة درعا السورية بتاريخ 10 آذار/ مارس 1954م، وعلى الرغم من حياته القصيرة والقاسية، ومرضه الذي أدى به لفقدان حاستي النطق والسمع، انطلقت ...