بلا أملٍ وبقلبي الذي يخفقُ كوردةٍ حمراءَ صغيرة سأودِّع أشيائي الحزينةَ في ليلةٍ ما بقع الحبر وآثار الخمرة الباردة على المشمّع اللزج وصمت الشهور الطويلة والناموس الذي يمصُّ دمي هي أشيائي الحزينة. سأرحلُ عنها بعيداً بعيداً وراء المدينة الغارقةِ في مجاري السلّ والدخان بعيداً عن المرأة العاهرة التي تغسل ثيابي بماء النهر وآلاف العيون في الظلمة تحدّق في ساقيها الهزيلين وسعالها البارد يأتي ذليلاً يائساً عبر النافذةِ المحطَّمة والزقاقُ المتلوي كحبلٍ من جثث العبيد. سأرحلُ عنهم جميعاً بلا رأفة وفي أعماقي أحمل لك ثورةً طاغيةً يا أبي فيها شعبٌ يناضل بالتراب والحجارة والظمأ وعدة مرايا كئيبة تعكس ليلاً طويلاً وشفاهاً قارسةً عمياء تأكل الحصى والتبن والموت. منذ مدة طويلة لم أرَ نجمةً تضيء ولا يمامةً تصدحُ شقراء في الوادي لم أعدْ أشربُ الشاي قرب المعصرة وعصافيرُ الجبال العذراء ترنو إلى حبيبتي ليلى وتشتهي ثغرها العميقَ كالبحر. لم أعد أجلس القرفصاء في الأزقة حيث التسكع والغرامُ اليائس أمام العتبات فأرسل لي قرميدةً حمراء من سطوحنا وخصلةَ شعرٍ من أمي التي تطبخ لك الحساء في ضوء القمر حيث الصهيلُ الحزين وأعراسُ الفجر في ليالي الحصاد. بِعْ أقراط أختي الصغيرة وأرسلْ لي نقوداً يا أبي لأشتري محبرة وفتاه ألهث في حضنها كالطفل لأحدّثكَ عن الهجير والتثاؤب وأفخاذ النساء عن المياهِ الراكدةِ كالبول وراء الجدران والنهود التي يؤكل شهدُها في الظلام فأنا أسهرُ كثيراً يا أبي أنا لا أنام حياتي سوادٌ وعبوديةٌ وانتظار. فأعطني طفولتي وضحكاتي القديمة على شجرةِ الكرز وصندلي المعلَّقَ في عريشة العنب لأعطيك دموعي وحبيبتي وأشعاري لأسافرَ يا أبي .
محمد أحمد عيسى الماغوط .من مواليد 1934م شاعر واديب سوري من ابرز شعراء قصائد النثر والقصائد الحرة في الوطن العربي.
ولد في بلدة سلمية (شرقي مدينة حماة - وسط سورية).عاش ...