إلى/ صديقي الشفيف جداً ، أدامس ، مرة أخرى في متاهةِ مشافهتي التي لا تخلو مِن لعانةٍ بالطبع!! صِدقاً ، أجدني الآن ، ممتنٌ جداً إلى الحرمان ، ذلك الحرمان الذي دفع بي نحو سحيق الأدب والكتابة! الحرمان مِن المرأة/الجنس ، مِن المال ، مِن السعادة ، مِن مساعدة الآخرين ، ومِن تقديم شيء جميل للحياة ، التي يعتبر الحرمان مِن أشد سماتها بروزاً . كانت الكتابة ، عندي ؛ تعويض عن الحرمان الذي يكتنفني ، منذ أن تفتح وعي على الحياة ، كانت عزاءً عن سعادةٍ أفتقدتها بشدة ، وكانت عزلة أيضاً عن حياةٍ لم أقبض على جدواها! الكتابة ، في بعض مِن معانيها ، هي بحث عن المعنى ، بحث عن جوهرِ إنسانٍ ، وعن معنى أعمق للحياة . وفي أكثر صورها تجليّاً ، هي بحث عن ذاتنا الضائعة ، ( ليس الأنا طبعاً ) ،وسط متاهة المُسايرة ، التي لم نزل ننساق معها بلا وعي أو بوعي منّا . بالطبع ، رغم أن الكتابة قد تكون في كثير أحيانٍ ، رحلة بحثٍ مضنيٍّ عن الذات ، ولكن قطعاً ، هي ليست كتابة موجّهة نحو الذات ، هي كتابة مِن أجل الآخر ،،، هي إبحار نحو الخارج لا الداخل! وبذا يكون ، المبرر الساذج الذي فيما معناه ، نحن نكتب لأنفسنا أو مِن أجل أنفسنا ، هو مبرر مردود . ومِن الصحيح أيضاً ، أن ذلك لا ينفي ، بأننا في بعض فتراتنا الكتابية ، نكتب مِن أجل أنفسنا فقط . وبما أن الإنسان ، دائماً وأبداً ، في حاجة ملحة إلى محفز أو دافع قوي جداً مِن أجل فعل أمر ما ، أي يكن ذلك الأمر ؛ كتابة ، حب ، أو حرفة يدوية ، فإنه بغياب ذلك الدافع قد لا يستمر طويلاً في فعل ذلك الأمر ، لأن المجانية/ اللا مقابل ، هي تنافي نزوات الإنسان! الكتابة هي حالة كليّانية لا فردية ، الكل وليس الجزء . نكتب ، لأننا نريد أن نقول شيئاً للآخر ، أن نعبّر عنه ، حتى ولو مِن خلالنا ، أن نجده فينا . كل شخص في الحياة لديه شيءٌ يريد أن يقوله للعالم شيئاً خاصاً وعاماً في آن ، شيئاً يرى فيه التفرّد ، يرى فيه الخصوصية ، وصور الآخرين كذلك . الكتابة هي لوحة تزخر بطيفٍ مِن الألوان ، لا سطوة فيها للونٍ على الآخريات ، وهُنا تنبع جماليتها . لا أحب الذين يختزلون الكتابة في الذات ، ومِن أجلها ، فهي ليست كذلك بأي حال! ذلك الإختزال ، بالنسبة لي ، ما هو إلا ضرب مِن الشطط ، وتسويغ بليد للوهم والخديعة . بل هو في حقيقته تسويق لأدب رديء جداً مِن جهة ، ومِن جهة أخرى ، تسويغ لفردانية سالبة وسافرة . للأدب ، وكذا الكتابة ، غاية نبيلة جداً؛ روحية ، عقلية وجودية وجمالية وأخلاقية أيضاً . لا يجب أن يحيد الأدب عن الطريق ، أي غايته . وبما أن الكتابة هي نتوجاً وتعبيراً للأدب ، يجب عليها ، هي أيضاً ، أن لا تحيد عن طريقها وغايتها . يجب أن تكون الكتابة موجّهة نحو هدف أو غاية ، وليست ضرب مِن سراب أو حرث في الفراغ! الكتابة العبثية ، أي التي لا غاية لها ، التي لا معنى لها ، هي أشد أشكال العدمية قتامةً ، هي عدميةٌ سالبة! هي جنوحٌ نحو الهاوية ، قفزٌ في الجحيم ، هي موتٌ مؤلمٌ جداً ، موتٌ لا جمال فيه! لكن هذا لا ينفي بأنني عدميٌّ لعينٌ ، لا قطعاً ، فأنا عدميٌّ ومتشائمٌ أيضاً ، بل وكلبيٌّ أيضاً! ولكنّي عكس هؤلاء العبثيون الأنذال ، الذين يبيعون الناس بضاعة الفردانية الفاسدة ، التي لا تصلح حتى للرمي إلى مكب نفايات مِن أجل التدوير! نحن الآجيال الجديدة الذين وجدنا أنفسنا في غفلة منّا داخل سفينة البشرية المثقوبة ، في لج الأمواج التي تتلاطم وتهدر بلا توقف ، والبحر الذي ينذر بالغرق ؛ في خضم هذا المأزق الوجودي ، وهذا المصير الذي يكتنفه المجهول ، علينا أن ننزع نحو عدمية جديدة ، عدمية أكثر إشراقاً وأقل قتامةً ، عدمية خلّاقة! عدمية لا تزال تحاول معالجة ثقب السفينة المنكوبة ، مِن أجل إنقاذها ، والركّاب الذين على متنها . عدمية لم تستنفد بعد ، ولم تفقد ثقتها بالكامل ، في هذا الإنسان الخرائي ، الذي بحاجة إلى تطهير وتعقيم ، حتى يغدو إنساناً جميلاً يصلح للحب والحياة! لستُ مخبولاً يرزح تحت وطأة جنون سافر ، يحلم بعصا موسى ، قطعاً ، لستُ كذلك البتة ، لستُ متفائلاً ، كفتاة عادية ، تحلم بفارسها المِقدام ، لكنّي لا أزال ، أرى بصيص أمل في إنقاذ السفينة مِن غرقها الوشيك ، أو على الأقل الموت على الضِفاف! أنني أكتب لهدف ، لغاية ، أكتب مِن أجل الإنسان ، رغم أن ثقتي فيه قد اهتزت بصورة مخيفة جداً ، ولكنّي أكتب مِن أجله ، ومِن أجل الحياة أيضاً ، أكتب مِن أجلنا ، ومِن أجل الأجيال الآتية . يتخللني بعض التشاؤم ، في أوقات متقطعة ، وذلك لأنني أعرف أو أتوهّم " بأن تغيير العالم عبر الكتابة هو فعل ميؤس منه ، بل حرث في المحيط ، ليس إلا " . ولكنّي لا أزال أكتب ، كما مِن قبل ، أو ربما بصورة أكثر عمقاً وصدقاً وتشاؤماً أيضاً ، لكنّي بشغفٍ أكتب!
الشاعر الشاب عبدالوهاب محمد يوسف المعروف باسمه الأدبي عبدالوهاب لاتينوس، ابن مدينة نيالا المولود في العام 1994م، درس الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة الخرطوم ،عضو مشروع الفكر الديموقراطى، ومجموعات القراءة من ...