عدد الابيات : 77

طباعة

ودَّعتُ شرخَ صِبايَ قبلَ رحيلِهِ

ونَصَلتُ منه ولاتَ حَينَ نُصولِهِ

وَنفَضتُ كفّيَ من شبابٍ مُخلِفٍ

إيراقهُ للعين مِثلُ ذبوله

وأرى الصِّبا عَجِلاً يَمُرُّ وإنني

ساعدتُ عاجلَهُ على تعجيله

سَعُدَ الفتى متقّبلاً مِن دهره

مقسومَه بقبيحهِ وجميله

وأظُنّني قد كنتُ أرْوَحَ خاطراً

بالخطبِ لو لم أُعنَ في تأويله

لكن شُغِفْتُ بأن أُقابلَ بينه

أبداً وبين خِلافه ومثيله

وَشَغَلتُ بالي والمصيبَةُ أنني

أجني فراغَ العُمرِ مِن مشغوله !

يأسٌ تجاوزَ حَدَّه حتى لقد

أمسيتُ أخشى الشرَّ قبلَ حُلوله

وبَلُدْتُ حتى لا ألَذُّ بمُفْرحٍ

حَّذَرَ انتكاستهِ وخوفَ عُدوله!

إيهٍ أحبَّايَ الذينَ ترعرعوا

ما بين أوضاحِ الصِّبا وحُجوله

إني وإنْ غَلبَ السلُّو صَبابتي

واعتضتُ عن نجم الهوى بأُفوله

لتَشوقُني ذكراكُمُ ويهُزُّني

طَربٌ إلى قالِ الشباب وقِيِله

أحبابَنا بين الفُرات تمتَّعوا

بالعيش بين مياهه ونخيله

وتذكَّروا كَلفَ امرئٍ متشوّقٍ

منزوفِ صبرٍ بالفراق ، قتيله

حرّانَ ، مدفونِ الميولِ ، وعنَدكم

إطفاءُ غُلَّتِه وبعثُ ميوله

حَييْتُ " سامَرّا " تحيَّةَ مُعجَبٍ

بروُاءِ مُتَّسِعِ الفِناء ظَليله

بَلدٌ تساوَى الحسنُ فيه ، فليلُهُ

كنهاره ، وضَّحاؤه كأصيله

ساجي الرياحِ كأنما حلَفَ الصَّبا

أن لا يمُرَّ عليه غيرُ عليله

طَلْقُ الضواحي كاد يُربي مُقفِرٌ

منه بنُزهتهِ على مأهوله

وكفاكَ من بلدٍ جَمالاً أنَّه

حَدِبٌ على إنعاش قلبِ نزيله

عَجَبي بزَهْوِ صُخوره وجباله

عَجَبي بمنحَدرَاته وسُهوله

بالماءِ منساباً على حَصبائه

بالشَّمسِ طالعةً وراء تُلوله

بالشاطئِ الأدنى وبَسطةِ رملِهِ

بالشاطئِ الأعلى وبَردِ مَقيله

بجماله ، والبدرُ يَملؤه سناً

بجلالهِ رهنَ الدُّجى وسُدوله

بالنهر فيَّاضَ الجوانبِ يزدهي

بالمُطْربَينِ : خريرهِ وصليله

ذي جانبْينِ ، فجانب مُتطامِنٌ

يقسو النسيمُ عليه في تقبيله

بإزاءِ آخَرَ جائشٍ متلاطمٍ

يَرغو إذا ما انصبَّ نحوَ مَسيله

فصلتهما " الجُزُرُ " اللِّطافُ نواتئاً

كلٌّ تحفَّزَ ماثلاً لعديله

وجرتْ على الماءِ القوارِبُ عُورضت

بالجري فهي كراسفٍ بكبوله

فإذا التَوت لمسيلهِ فكأنَّما

تبغي الوصولَ إليه قبلَ وصوله

وإذا نظرتَ رأيتَ ثَمَّةَ قارَباً

تَمتازُه بالضوء مِن قِنديله

أو صوتِ مِجدافٍ يُبينُ بوقعه

فوقَ الحصى عن شجوه وعويله

سادَ السكونُ على العوالم كُلَّها

وتَجلبب الوادي رِداءَ خموله

وتنبَّهتْ بين الصخورِ حَمامةٌ

تُصغي لصوت مُطارِحٍ بهديله

وأشاعَ شجواً في الضفاف ورقَّةً

إيقاظُ نُوتيًّ بها لزميله

ولقد رأيتُ فُويقَ دجلةَ مَنظراً

الَشِعرُ لا يقوى على تحليله

شَفَقاً على الماءِ استفاضَ شُعاعُه

ذَهَباً على شُطآنه وحُقوله

حتى إذا حكَم المغيبُ بدا له

شفقٌ يُحيطُ البدرَ حين مُثوله

فتحالفَ الشفقانِ ، هذا فائرٌ

صُعُداً وهذا ذائبٌ بنزوله

ثُمَّ استوى فِضّيُّ نُورٍ عابثٍ

بالمائِجَيْنِ : مِياههِ ورموله

فاذا الشواطئُ والمساحبُ والرُّبى

والشطُّ والوادي وكلُّ فُضوله

قمراءُ ، راقصةُ الأشعَّةِ ، جُلّلت

بخفيِّ سِرٍّ رائعٍ مجهوله

والجوُّ أفرطَ في الصفاءِ فلو جرى

نَفَسٌ عليه لَبانَ في مصقوله

هذي الحياةُ لِمِثلها يحنو الفتى

حِرصاً وإشفاقاً على مأموله

وإذا أسِفتُ لمؤسِفٍ فلأنَّه

خِصْبُ الثَّرى يُشجيكَ فرطُ مُحوله

قد كانَ في خَفْضِ النَّعيم فبالغتْ

كفُّ الليالي السودِ في تحويله

بَدَتِ القصورُ الغامراتُ حزينةً

من كلّ منهوبِ الفِناءِ ذليله

كالجيشِ مهزومَ الكتائبِ فلَّه

ظَفَرٌ ورَقَّ عدوَه لفلوله

" العاشقُ " المهجورُ قُوّضَ رُكنُهُ

كالعاشق الآسي لفقدِ خليله

" والجعفريُّ " ولم يقصِّررسمُهُ

الباقي برغُم الدَّهر عن تمثيله

بادي الشحوبِ تَكادُ تقرأ لوعةً

لنعيمه المسلوبِ فوقَ طلوله

وكأنَّما هو لم يجِدْ عن " جعفرٍ "

بدلآ يُسَرُّ به ولاً عن جِيله

فُضَّتْ مَجالسُهُ به وخلَوْنَ مِن

شعر " الوليدِ بها ومن ترتيله

إن الفحُولَ السالفينَ تعهَّدوا

عصرَ القريضِ وأُعجبوا بفحوله

يتفاخرونَ بشاعرٍ فكأنَّما

تحصيلُ معنى الحُكْمِ في تحصيله !

فجزَوْهُمُ حُلوَ الكلامِ وطرَّزوا

إكليلَ ربِّ المُلْك مِن إكليله

كانوا إذا راموا السكوتَ تذكَّروا

فَضلَ المليكِ الجمَّ في تنويله

من صائنٍ للنفس غيرِ مُذيلها

شُحُاً ومُعطي المالِ غيرِ مُديله

وإذا شَدَوا فكما تغنَّى طائرٌ

أثرُ النعيمِ يَبينُ في تهليله

ولقد شجتني عَبرةٌ رَقراقةٌ

حَيرانةٌ في العين عند دُخوله

إني سألتُ الدهرَ عن تخطيطهِ

عن سَطحه، عن عَرضه ، عن طُوله

فأجابني : هذي الخريبةُ صدرُه

والبلقعُ الخالي مَجرُّ ذيوله

وَسَلِ الرياحَ السافياتِ فانَّها

أدرى بكلِّ فروعه وأصوله

وتعلَّمَنْ أنَّ الزمانَ إذا انتحى

شُهُبَ السَّما كانت مداسَ خُيوله

مدَّت بنو العبَّاس كفَّ مُطاوِلٍ

فمشى الزمانُ لهم بكفِّ مَغوله

واجتاحَ صادقَ مُلكهِمْ لما طَغوا

بدعيِّ مُلكٍ كاذبٍ مَنحوله

وكذا السياسةُ في التقاضي عندَه

تسليمُ فاضلهِ الى مفضوله

خُلِّدْتِ سامراءُ ، لم أوصِلْكِ مِن

فَضْلٍ حَشَدتِ عليَّ غيرَ قليله

يا فرحةَ القلبِ الذي لم تتركي

أثراً لِلاعجِ همّه ودخيله

وافاكِ مُلتهِبَ الغليلِ وراح عن

مغناكِ يَحمَدُ منكِ بردَ غليله

أنعشتِهِ ونَفَيْتِ عنه هواجساً

ضايقْنَه ، وأثرتِ من تخييله

وصدقته أملاً رآكِ لِمثله

أهلاً فكنتِ ، وزدتِ في تأميله

هذا الجميلُ الغضُّ سوف يردُّه

شِعري إليكِ مُضاعفاً بجميله

ولقد غَلوتُ فكمْ يقلبي خاطرٌ

عَجزتْ مَعاني الشعر عن تمثيله

وَلطيفِ معنىً فيك ضاقَ بليدُها

بذكِّيهِ ، ودقيقُها بجَليله

ولعلَّ منقولَ الكلامِ محوَّلٌ

في عالَمٍ آتٍ إلى مَعقوله

فهُناكَ يتَّسِع التخلّصُ لامرِئٍ

من مُجمَل المعنى إلى تفصيله

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن محمد مهدي الجواهري

avatar

محمد مهدي الجواهري حساب موثق

العراق

poet-jawahiri@

216

قصيدة

2

الاقتباسات

2341

متابعين

محمد مهدي الجواهري (26 يوليو 1903 – 27 يوليو 1997): شاعر عربي عراقي، يعتبر من بين أهم شعراء العرب في العصر الحديث. تميزت قصائده بالتزام عمود الشعر التقليدي، على جمال ...

المزيد عن محمد مهدي الجواهري

أضف شرح او معلومة