كَمَنْ يتعقَّبُ آثار المَطر الذي مشى تحته الرعاةُ، أنا أكتبُ المشاغبات. نكايةً بما اقترفْتُ من محبَّة وندماً عَلَىْ كنايات محجوزة في المسْتقْبلِ، أجرِّدُ النِّسورَ من طيرانِها إلى ذكرياتي كمَنْ يَضَعُ قفْلاً عَلَىْ حياتِه ويهرب. طبول التشابيه تثيرُ فجْراً نائماً منذُ عشرة أيَّام، نحاس أصواتِ يطرقُ الأبوابَ المحنَّاة منذُ ثلاثة أيام، وأبواقٌ ـ نحاسية أيضاً ـ تتشاجَرُ في ممرًَّات الفضاء مع بيارقَ تخشْخشُ رؤوسُ ألوانها. وبقفْزة واحدة، كمن عضَّه حلمٌ من نومهِ كان الصبيُّ يتخلَّص من شبكة النعاس في سريره ويتعقَّبُ ـ حافياً ـ روائحَ تبتعدُ في طرفِ الزُّقاق. رُبَّمَاْ لهذا، يَكْتَمِلُ حُلُمِيْ ـ دائماً ـ وأنا أتمشَّىْ حَاْفِياً وبكامل ِ أناقتي في المدينة! ولا ينتبهُ الناسُ لصرخاتي النائمة وهي تناديني إلى السَّرير. رُبَّمَاْ لهذا، كلَّما مسحْتُ العرقَ عنْ وجهي ابتعدْتُ أكثرَ خارجَ النهار. أيقظوه، فلا ينطقُ من نومٍ وكلِّموه، فهْو لا يُخْبرُ عن حَيَاْة. أمامه صحْراء مقتولين، وماؤه مختلٌّ كأنه يتذكَّر صورتَه. ليتَه لي هذا الذي ليسَ لأحد، لأشاهدَ الغيابَ ممهوراً بإعجابي. أجراسُ ماءٍ أم سماءٌ هدَّها الزلزالُ أم صافرةُ أوبئةٍ، هذه التي تحْتضنُني في المنام؟ ترْتَفعُ آلامي في هروبِها كآبارٍ منْزليَّة يئنُّ طينُها وحيداً آخر الليل. المكان يستبْدلُ حنجرتَهُ وأنا أسمعُ أنينَ ألعابٍ شعبية وأنفاسَ درَّاجاتٍ مزركشة تمضي لقتلِ دروسِها خلفَ التلال. ألغامٌ في النوم، تتنفَّسُ قبْلَ أشجاري وأحلامي تسْعل في كلِّ اتجاه. أنا منْذ أن تهندَستْ جثَّتي، أمدُّ يديَّ بعلوِّهما، مصفِّفاً شعْرَ ملائكةٍ غرْقى، تاركاً قدميَّ تخوضانِ في ملحِ الماضي. يوميَّاً نلتمُّ، كأنَّنا وباءٌ قادمٌ من حدودٍ أخرى. يومياً ننْقصُ في الأيام، وأنا أجمعُ غروبَهُم كما لو انَّ السَّماء تلتقطُ صورةً لأرضِ معْركةٍ غادروها للتوِّ! كنَّا نتبوَّلُ عَلَىْ ظلال بعْضنا، مشيِّدينَ مجْداً من الكراهية، وها بعدً أرضٍ مرَّ فوقها القطارُ، ظلالنا جفَّتْ تماماً. ومجدُنا ما زال. أيضاً كنَّا نكتبُ عَلَىْ الأرْضِ أسماءنا بمياهِ قضبانِنا الحارة. من يدري لعلّنا ماء يهربُ من التسْمية؟ (الدشاديشُ) المخطَّطةُ، تلْمعُ إزاءَ منبِّهاتِ الشاحناتِ، وأيدٍ تطشُّ الترابَ عَلَىْ دمٍ من إبهام قدمٍ مهشَّم… الأرْضُ أيضاً مُصطكَّةُ الأسنان. ( الدشاديشُ) ذاتُها تطْبخُ في قدورٍ سوداءَ، لتفْرَحَ حتَّى العاشرِ من الحزْنِ عندما القدورُ ذاتها تسْهرُ حتَّى الفجْر بالقمْح والخرْفان. لمْ يتهدَّم أمام عينيَّ تمثالُ النعاسِ، فمنْ سأقاومُ بعدَ نهاري هذا؟ الألعابُ لم نُنجزْها إلى الآن، علينا أن نغادرَ هذه اللعبة، بلا مراهنات. درَّاجاتٌ رجوليِّة تمرَّ بنا إلى مواعيدَ خارجَ المدينة. وبما يشبهُ منافساتٍ مع الآلهة نركضُ خلْفها. طرَفُ( الدشاديش) بين أسناننا وأفخاذنا الملساءُ النحيفةُ ترتجفُ في كسل الوعورة. نحتضنُ أعمدة الكهرباء كصاعدي النخيل، وبينَ أفخاذنا يلمعُ ماءُ الشهْوة. لسنا مسنينَ بما يكفي لفقدانِ العظام في الظلام، وأحدُنا يهربُ طارقاُ عمودً الكهْرباء بعظامٍ أخرى، ملوِّحاً بعودةٍ إلى الحَيَاْةِ التي لم نجدْ. هل تركْنا الأبطالَ وحيدينَ في السينما وعدنا إلى بيوتنا منْشغلينَ بصنعِ أسلحة وأعداء ننافسُهم في الشوارع والذكريات. وهؤلاء أيضاً رجعوا إلى تركاتهم مقوِّسينَ أيَّامَهم ليمرُّوا من شاشة الحروب. أكنَّا جميعاً شعراءَ، مفرداتنا الأشياء التي لا تتشكَّلُ إلاَّ بالخوفِ أم ترانا صيادونَ خائبون يعودونَ إلى منازلِهم بالشهْرة وأحاديثَ عن المشاهدات؟ منْ شرفةٍ أخيرةٍ، لتوديع زورقٍ مليءٍ بالأقليِّات صرخْتُ: هذا أنا المتثائبُ خلْفَ جسدهِ. وهنا تقريباً دفنتُ رأسي بينَ ركبتيَّ متورِّطاً برحلةٍ مع قياصرة بأكاليلَ مسمومة. بكيتُ تقريباً، بلا أصدقاء، مع أن الزوْرقَ لم يتعقَّب مجرى النَّهْر، فقط، أنا أصغر الغرباء عَلَىْ اليابسة. الماضي ثورٌ في شاحنة نَسيَ عينيه في مكان آخر وها هو مائلٌ كغيمة في شاحنة! يجدرُ بي أن أحييه كأننا نرى بعضنا من خُرمِ إبرة.
محمد مظلوم شاعر ومترجم عراقي، ولد في بغداد منطقة الكرادة من مواليد 1963، أكمل دراسته الجامعية فى بغداد. لاقى أهوال الحياة العراقية كغالب أبناء جيله داخل العراق وخارجه، فكان جندياً ...