ما مرَّ حرُّ الصيفِ والهجيرِ وآذن الخريفُ بالظهورِ حتى ذوت عرائسُ الزهورِ وانقطعت زقزقةُ الطيورِ وزال حسنُ الروض والغديرِ جُرِدّت الأغصانُ من حلوِ الثمر واكتستِ الأرضُ باوراق الشجر فالروضُ كالعاشقِ يبدو للنظر سكوتهُ يتركُ في النفس أثر تضيقُ عنهُ فُسحَةُ الصدورِ لا حسَّ في ذاك المكان المقفِرِ يُسمع الا صوت ريحٍ صرصرِ وليس للحيِّ بهِ من أَثرِ لولا خيالٌ لاح بين الشجرِ كأنهُ من عالم النشورِ فتىً بلا عزمٍ حزينُ النفسِ اوشك ان يُدرَجَ طيَّ الرمسِ يَمشي ببطءٍ خافضاً للرأسِ مشرَّدَ الحسِّ شديدَ اليأس مستغرقاً في لجة التفكير إذ وقف الفتى عن التقدُّمِ ورَمقَ الروضَ بطرفِ المغرمِ ثم جرت أدمعهُ كالديمِ وصاح صوتاً من عظيم الالم حنَّت لهُ جلامدُ الصخورِ روضي الذي اهواهُ مذ كنتُ صبي إِقبَل وَداعَ عاشقٍ معذَّبِ كم علَّل النفسَ بنيلِ الأربِ فلم يَفُز في الحبِّ بعد التعبِ إلا بقلبٍ موجعٍ كسيرِ يا روضُ مَن تعهدُ قلبي عبدَها قد نَكَثت حبي وخانت عَهدها أما أنا فلستُ انسى وُدها وحيث لا يطيبُ عيشي بعدها وجدت موتي اطيبَ الأمورِ اقضي وذا حدادُكَ المروعُ إلى انقضا عمري أراهُ يُلمعُ وكلُّ ورقةٍ امامي نَقَعُ فيها دليلٌ أن موتي مسرعُ وأنني ساعٍ إلى القبورِ أيتها الأوراقُ دومي وقعا وستري هذا الطريق المُفجعا وحجبي عن عين أمي موضعا يكون لي عماً قريبٍ مضجعا يحوي عظامي أبد الدهورِ لكن إذا جاءَت حبيبتي إلى قبري تبكي تحتَ استارِ الدُجى فأحدثي حركة فوق الثرى وايقظي من نومهِ طيفي عسى يذوق حيثاً لذة السرورِ فاهَ بذا القول وولّى مُدبرا ولم يعد من بعدُ في الروض يُرى آخرُ ورقةٍ هوت فوق الثرى قد لفظت آخِرَ حرفٍ سُطِّرا من عمرهِ في دفتر المقدورِ قضى ولم تُقضَ لهُ بغيتهُ في حبّ من ذابت بها مهجتهُ في ظلّ سروٍ جُعلت حُفرَتُهُ لكنما لم تأتِ محبوبتُهُ تنوح فوق الحجر المهجورِ لم تأتِ تبكي ميتَ الغرامِ ولا رعت للحبّ من ذمامِ بل كان راعٍ بصدى الاقدامِ يُقلِقُ وحدهُ على الدوامِ سكون ذاك المدفن الحقيرِ
(1872-1930) إلياس فياض. أديب لبناني، تعلم ببيروت، ثم بمدرسة الحقوق بالقاهرة. وكتب في مجلتي إبراهيم اليازجي (الضياء) و(البيان) في القاهرة، وتولى رئاسة التحرير بجريدة (المحروسة) اليومية. ثم عاد إلى لبنان، ...