أنا كلَّما نظرتُ إلى الهاوية رأيتُ سهامي تتعثَّرُ بآثامِها كأنني ملائكة ينتحرونَ ببعضهم ولم يبْقَ منِّي سوى شركاء في الهاوية. أنا كلَّما نظرْتُ في الهاوية تهيَّجتْ حملاني بنداءِ نارٍ ضريرة لكأنَّني أمشي عَلَىْ صمْتي، بينما خيوطٌ من ظلالٍ مدْفونة، تتشاجر فيما بينها كلَّما تفتَّتَ تحتَ أقدامي، حجر الهاوية. لكثرة مَنْ رثيتُ ـ في الطريقِ إلى الهاوية ـ نمتُ مع السَّماء، وتمشَّيتُ في النارِ ومعي قبلاتُ كثيرةٌ. وصار أصدقائي ينفلتون من المشاجراتِ جريحاً جريحاً ولمعانُ أفواههم يتخبَّطُ في كلِّ الجهات. روائحهم بلا خرائط، كأنَّهم يخلطونَ حبْرَهم بالأدوية ويرْسلونَ حقائبَهم بالبريدِ أو القواربِ، وليسَ لديهم ما يستحقُّونه! قبْلَ هذا وبعدَه الليلُ مأهولٌ بأشجارٍ عزْباءَ، وقوافلُه تجرُّ أسرارَها عَلَىْ الأرْض. صورةُ مَنْ هذهِ الملوَّنة بآلامٍ وساعتُها عاطلة؟ لعلَّها خيانة تُشرقُ في الماضي، وعَلَىْ فمي منها تفَّاحة، وأنا نائمٌ في الأنقاض. * أنا مسْرعُ في مواجهةِ النَّهار الذي يعدُّ لي وليمتَه غير منتبهٍ لسحَّاب بنطالي الذي يثرثرُ منذ الصَّباح! كأنَّني أخْلقُ من نسياني خجلاً لمظليين يهاجمون الجنَّة منذ عدَّة قرون وأنا كلَّما نظرت في الهاوية، ارتعشت آباري في نومها وحلَّقتْ من عيوني قططٌ مقوَّسة الظهْر كأنَّها تودِّعُ السَّماء وتشمُّ رائحة طائراتٍ في المستقبل. * فلماذا أوصيتُ عَلَىْ نظَّارة طبية، لعيوني التي تتكاثر في الغابة، هل أنا العازفُ الأخيرُ تحتَ نوافذك المغلقة أيتها الهاوية؟ * قُلتُ للصحْراء وكانت كثيرينَ، لا تقْربوا الأضرحة بآثامي أنا شريككم في الجنَّةِ الممحوَّة، قلتُ للنهْر، وكانَ هارباً من الجنَّةِ ايضاً: مَنيُّ العبيدِ أسودُ! وما البياضُ سوى حبلٍ سريٍّ لتهريب المستقبل. * أنا كلَّما نظرتُ في الهاوية وجدتُني واقفاً في العرْس، بينما شخصٌ يحاولُ الظهورَ معي في الصورة، وبعْدَ عشرينَ عاماَ وأكثر، أجلسُ، عريساً، كأنَّني خنْتُ وقوفي، وحولي مسافرونَ إلى بلدانٍ شتَّى، تهْدرُ محرِّكاتُ طائراتهم أمام باب الصالة، كأنَّني بيْنَ سفرتين، أختارُ وقتاً خارجَ الأمكنة. * أوقظُ ملابسي وأمتعتي، وأنا مهدَّدٌ بآثامي التي ترقدُ خلفً مرْتفعاتِ هذا الفجر، لا شمْسَ إلاَّ وسَحَرةٌ حرَّضوها عَلَىْ دفعي إلى الهاوية. أنا محاربٌ ضائعٌ في تضاريس ظلامهِ الخالد، أنا الرجلُ البعيد أضعُ أيَّامي في الماء. وأتعقَّبُ روائحَ الغرْقى وأخَلِّدُ يأسَ اللصوصِ وهمْ يتعثَّرونَ بآثارهِم، كأطفالٍ، في أولمبيادِ الهروب من السَّماء، بقواربَ في كتاب. بينما الأرْضُ ليستْ أكيدةً حُفرَةٌ نساها اللهُ قبلَ أن يبْرَحَ طائراً إلى بيتِه في النقوش المُرْتعشة. * وها أنا بعْدَ مُنتَصَفِ الليلِ، أعودُ بزوجتي، إلى المنزل أيضاً، وحيدين معَ الله العائد مِثلَنا مُتعقِّبين ثرثرةَ الأثر. * أنا كلكامش الهاربُ من ثأرِ الحَيَاْةِ إلى حَيَاْةٍ غيْر مُعنْونة. أنا محمدُ الغائبُ أدخلُ المقهى ـ في ظهيرة الشبهات ـ بقمصان التشابيه. أنا أميرٌ آشوريٌّ مدفونٌ، مع أسلحتي، في شرقِ دجلةَ بينما يسافرُ رأسي إلى أستراليا! أنا سعادةٌ مقصوصة الشَّعر وأعيادها طويلة وسوداء! وها أنا أنظرُ في الهاوية، أرمي بنردي فرْصَةً أخيرةً لانبعاثِ الخسائر، هازَّاً كتفيَّ من الضحكِ، ومتكئاً عَلَىْ أحدٍ يحاول الظهورَ معي في الصورة.
محمد مظلوم شاعر ومترجم عراقي، ولد في بغداد منطقة الكرادة من مواليد 1963، أكمل دراسته الجامعية فى بغداد. لاقى أهوال الحياة العراقية كغالب أبناء جيله داخل العراق وخارجه، فكان جندياً ...