القِطاراتُ ترحلُ فوق قضيبينِ: ما كانَ ما سيكُونْ! والسماءُ: رمادٌ;.. به صنعَ الموتُ قهوتَهُ, ثم ذَرّاه كي تَتَنَشَّقَه الكائناتُ, فينسَلّ بينَ الشَّرايينِ والأفئِده. كلُّ شيءٍ خلال الزّجاج يَفِرُّ: رذاذُ الغبارِ على بُقعةِ الضَّوءِ, أغنيةُ الرِّيحِ, قَنْطرةُ النهرِ, سِربُ العَصافيرِ والأعمِدهْ. كلُّ شيءٍ يفِرُّ, فلا الماءُ تُمسِكُه اليدُ, والحُلْمُ لا يتبقَّى على شُرفاتِ العُيونْ. *** والقطاراتُ تَرحلُ, والراحلونْ.. يَصِلُونَ.. ولا يَصلُونْ! (الإصحاح الثاني)
سنترال: أعطِ للفتياتِ اللواتي يَنَمْنَ الى جانب الآلةِ الباردةِ (شارداتِ الخيالْ) رقمي; رقمَ الموتِ; حتى أجيءَ الى العُرْسِ.. ذي الليلةِ الواحِدهْ! أَعطِه للرجالْ.. عِندما يلثُمُون حَبيباتهم في الصَّباحِ, ويرتحلونَ الى جَبَهاتِ القِتالْ!!
(الإصحاح الثالث)
الشُهورُ: زُهُورٌ; على حافَةِ القَلبِ تَنْمو. وتُحرقُها الشَّمسُ ذاتُ العُيون الشَّتائيَّةِ المُطفأهْ. *** زهرةٌ في إناءْ تتوهَّجُ في أوَّلِ الحبِّ بيني وبينَكِ.. تُصبحُ طفلاً.. وأرجوحةً.. وامرأة. زهرةً في الرِّداء تَتَفَتَّحُ أوراقُها في حَياءْ عندما نَتَخَاضرُّ في المشْيةِ الهادِئه. زهرةُ من غِناء تَتَورَّدُ فوق كَمنجاتِ صوتكِ حين تفاجئكِ القُبلةُ الدافِئه. زهرةٌ من بُكاء تتجمَّدُ فوقَ شُجيرةِ عينيكِ في لحظاتِ الشِّجارِ الصغيرةِ, أشواكُها: الحزنُ.. والكِبرياءْ. زهرةٌ فوق قبرٍ صغيـرْ تنحني; وأنا أتحاشى التطلعَ نحوكِ.. في لحظات الودَاعِ الأَخيرْ. تَتَعرَّى; وتلتفُّ بالدَّمعِ في كلِّ ليلٍ إذا الصَّمتُ جاءْ. لم يَعُدْ غيرُها.. من زهورِ المسَاء هذه الزهرةُ اللؤلؤه!
(الإصحاح الرابع)
تحبلُ الفتياتْ في زيارات أعمامِهنَّ الى العائله. ثم.. يُجْهِضُهُنَّ الزحامُ على سُلَّم "الحافِله" وترام الضَّجيج! ***
يا أبانا الذي صارَ في الصَّيدليَّات والعُلَبِ العازله نجّنا من يدِ "القابِلهْ" نَجنّا.. حين نقضُم في جنَّة البؤسِ تفّاحَةَ العَربات وثيابِ الخُروجْ!!
(الإصحاح الخامس)
تصْرخين.. وتخترقينَ صُفوفَ الجُنودْ. نتعانقُ في اللحظاتِ الأخيرةِ,.. في الدرجاتِ الأخيرةِ.. من سلّم المِقصلَهْ. أتحسَّسُ وجهَكِ! (هل أنت طِفلتيَ المستحيلةُ أم أمِّيَ الأرملةْ?) أتحسسُ وجهَكِ! (لمْ أكُ أعمى;. ولكنَّهم أرفقُوا مقلتي ويدي بمَلَفِّ اعترافي لتنظرَه السلُطاتُ.. فتعرفَ أنِّيَ راجعتهُ كلمةً.. كلمةً.. ثم وَقَّعتُهُ بيدي.. ربما دسَّ هذا المحقِّقُ لي جملةً تنتهي بي الى الموتِ! لكنهمْ وعدوا أن يُعيدوا اليَّ يديَّ وعينيَّ بعدَ انتهاءِ المحاكمة العادِلهْ!) زمنُ الموتِ لا ينتهي يا ابنتي الثاكلهْ وأنا لستُ أوَّلَ من نبَّأ الناسَ عن زمنِ الزلزلهْ وأنا لستُ أوَّلَ من قال في السُّوقِ.. إن الحمامةَ في العُشِّ تحتضنُ القنبلهْ!. قَبّلبيني;.. لأنقلَ سرِّي الى شفتيك, لأنقل شوقي الوحيد لك, للسنبله, للزُهور التي تَتَبرْعمُ في السنة المقبلهْ قبّليني.. ولا تدْمعي.. سُحُبُ الدمعِ تَحجبني عن عيونِك.. في هذه اللَّحظةِ المُثقله كثُرتْ بيننا السُّتُرُ الفاصِله لا تُضيفي إليها سِتاراً جديدْ!
(الإصحاح السادس) كان يجلسُ في هذه الزاويهْ. كان يكتبُ, والمرأةُ العاريهْ تتجوَّل بين الموائِدِ; تعرضُ فتنتَها بالثَّمنْ. عندما سألَتْه عَن الحَربِ; قال لها.. لا تخافي على الثروةِ الغاليهْ فعَدوُّ الوطنْ مثلُنا.. يخْتتنْ مثلنا.. يعشقُ السّلَعَ الأجنبيَّهْ, يكره لحمَ الخنازيرِ, يدفعُ للبندقيَّةِ.. والغانيهْ! .. فبكتْ! كان يجلسُ في هذه الزّاويهْ. عندما مرَّت المرأةُ العاريهْ ودعاها; فقالتْ له إنها لن تُطيل القُعودْ فهي منذُ الصباحِ تُفَتّشُ مُستشفياتِ الجُنودْ عن أخيها المحاصرِ في الضفَّةِ الثانيهْ (عادتِ الأرضُ.. لكنَّه لا يعودْ!) وحكَتْ كَيف تحتملُ العبءَ طِيلة غربتهِ القاسيهْ وحكتْ كيفَ تلبسُ حين يجيءُ ملابسَها الضافيهْ وأرَتْهُ لهُ صورةً بين أطفالِهِ.. ذاتَ عيد .. وبكت!!
(الإصحاح السابع) أشعر الآنَ أني وحيدٌ;.. وأن المدينةَ في الليلِ.. (أشباحَها وبناياتِها الشَّاهِقه) سُفنٌ غارقه نهبتْها قراصنةُ الموتِ ثم رمتْها الى القاعِ.. منذُ سِنينْ. أسندَ الرأسَ ربَّانُها فوقَ حافتِها, وزجاجةُ خمرٍ مُحطّمةٌ تحت أقدامهِ; وبقايا وسامٍ ثمين. وتشَبَّث بحَّارةُ الأمسِ فيها بأعمدةِ الصَّمتِ في الأَروِقه يتسلَّل من بين أسمالِهم سمكُ الذكريات الحزينْ. وخناجرُ صامتهٌ,.. وطحالبُ نابتهٌ, وسِلالٌ من القِططِ النافقه. ليس ما ينبضُ الآنَ بالروحِ في ذلك العالمِ المستكينْ غير ما ينشرُ الموجُ من عَلَمٍ.. (كان في هبّةِ الريحِ) والآن يفركُ كفَّيْهِ في هذه الرُّقعةِ الضيِّقه! سَيظلُّ.. على السَّارياتِ الكَسيرةِ يخفقُ.. حتى يذوبَ.. رويداً.. رويداً.. ويصدأُ فيه الحنينْ دون أن يلثمَ الريحَ.. ثانيةً, أو.. يرى الأرضَ, أو.. يتنهَّدَ من شَمسِها المُحرِقه!
(الإصحاح الثامن) آهِ.. سَيدتي المسبلهْ. آه.. سيدةَ الصّمتِ واللفتاتِ الوَدودْ. *** لم يكنْ داخلَ الشقَّةِ المُقفله غيرُ قطٍ وحيدْ. حين عادت من السُّوق تحملُ سلَّتها المُثقله عرفتْ أن ساعي البريدْ مَرَّ.. (في فُتحةِ البابِ.. كان الخِطابُ, طريحاً.. ككابِ الشَّهيدْ!) .. قفز القِطٌ في الولوله! قفزت من شبابيكِ جيرانِها الأَسئِله آه.. سيدةَ الصمتِ والكلماتِ الشَّرُودْ آه.. أيتُها الأَرملَه!
(الإصحاح التاسع) دائماً حين أمشي أرى السُّتْرةَ القُرمزيَّةَ بينَ الزحام. وأرى شعرَكِ المتهدِّلَ فوقَ الكتِف. وأرى وجهَك المتبدِّلَ.. فوق مرايا الحوانيتِ, في الصُّور الجانبيَّةِ, في لفتاتِ البناتِ الوحيداتِ, في لمعانِ خدودِ المُحبين عندَ حُلول الظلامْ. دائماً أتحسَّسُ ملمَسَ كفِّك.. في كلِّ كفّ. المقاهي التي وهبَتْنَا الشَّرابَ, الزوايا التي لا يرانا بها الناس, تلكَ الليالي التي كانَ شعرُكِ يبتلُّ فيها.. فتختبيئينَ بصدري من المطرِ العَصَبي, الهدايا التي نتشاجرُ من أجلِها, حلقاتُ الدخانِ التي تتجَمَّعُ في لحظاتِ الخِصام دائماً أنتِ في المُنتصف! أنتِ بيني وبين كِتابي, وبيني وبينَ فراشي, وبيني وبينَ هدُوئي, وبيني وبينَ الكَلامْ. ذكرياتُكِ سِّجني, وصوتكِ يجلِدني ودمي: قطرةٌ بين عينيكِ ليستْ تجِفْ! فامنحيني السَّلام! امنحيني السَّلامْ!
(الإصحاح العاشر) الشوارعُ في آخرِ اللّيل... آه.. أراملُ متَّشحاتٌ.. يُنَهْنِهْنَ في عَتباتِ القُبورِ البيوتْ. قطرةً.. قطرةً; تتساقطُ أدمُعُهنَّ مصابيحَ ذابلةً, تتشبث في وجْنةِ الليلِ, ثم.. تموتْ! الشوارعُ في آخر الليلِ آه.. خيوطٌ من العَنْكبوتْ. والمَصابيحُ تلكَ الفراشاتُ عالقةٌ في مخالبِها, تتلوَّى.. فتعصرها, ثم تَنْحَلُّ شيئاً.. فشيئا.. فتمتصُّ من دمها قطرةً.. قطرةً; فالمصابيحُ: قُوتْ! الشوارعُ في آخرِ الليلِ آه.. أفاعٍ تنامُ على راحةِ القَمرِ الأبديّ الصَّموتْ لَمَعانُ الجلودِ المفضَّضةِ المُسْتَطيلةِ يَغْدُو.. مصابيحَ.. مَسْمومةَ الضوءِ, يغفو بداخلِها الموتُ; حتى إذا غَرَبَ القمرُ: انطفأتْ, وغَلى في شرايينها السُّمُّ تَنزفُه: قطرةً.. قطرةً; في السُكون المميتْ! وأنا كنتُ بينَ الشوارعِ.. وحدي! وبين المصابيحِ.. وحدي! أتصبَّبُ بالحزنِ بين قميصي وجِلْدي. قَطرةً.. قطرةً; كان حبي يموتْ! وأنا خارجٌ من فراديسِهِ.. دون وَرْقَةِ تُوتْ!