سأترك في وطن الحرب ما أبقت السنوات العجاف من الجسد المتهالك أتركه ، وأطير بروحي إلى عالمٍ ليس فيه بكاءٌ على طللِ الوقت ، أو تتغشّاه حربٌ ضروسٌ تسوق القرابين نحو مذابح لا شيء فيها يباركه الله لا شيء فيها لخير البشرْ . * * * سأترك بين يديه ذنوبي وما اقترف القلبُ من حلمٍ وعواطفَ جيّاشةٍ وأمر بقلبي على قبرِ أمي لأُوَدِعَها ما تجدّد من ذكرياتيَ مُذ رَحَلَتْ وأنجو بجلد القصيدةِ تلك التي هي نبض دمي وأفِرُ إلى عالمٍ ليس تُسفكُ فيهِ الدماءْ . * * * تلك أرض الحروب ولا شأنَ للهِ في ما جرى فوقَها أو سيجري ، هنا أرضهُ وسماواتهُ حيث تجري شؤونُ الحياةِ كما شاء سبحانَهُ بين ناسٍ هم الناس ، في مدنٍ يعجز الشعر أن يتخيلَها ، وقرىً كاللآلىء منثورةٍ في سفوحِ الجبال وقربَ الشواطئ غير ملوثةٍ بالسياسةِ صافيةٍ ومبرأةٍ من قذى الانتماءات والتفرُقةْ . * * * أرض "يوتوبيا" لم تلدها القصائدُ والأمنيات ولا أبدعتها من الغيب أشواقنا، هي قائمةٌ منذ بدءِ الوجود ولكننا لا نراها بأعيننا الكابيات ، هنا الصبح ما زال فيها طرياً نقياً شفيفاً كما كان ساعةَ أن بدأ الكون رحلتهُ، والسماءُ التي اقتربتْ من أصابعنا كلَّ ليلٍ توشوش للأرض تمنحها بعض أسرارها لا تخاف رقيباً ولا طلقةً سوف تدركها من هنا أو هناكْ . * * * آه "يوتوبيا" كنتِ طيفاً جميلاً يرافقني في الطفولةِ ، ضوءَ كتابٍ يداعب اخيلتي في الشباب ، و أغنيةً تترقرق ألحانُها في انسيابٍ بديعٍ يضيء ليالي الكهولةِ ، والآن جئتُ إليكِ بروحي فمدي يديكِ خذيني ولا تتركيني على حافة الهاوية . * * * بَشراً ما أرى أم ملائكةً ؟ نورُهم يتقدّم أجسادَهم وأحاديثُهم مثل همسِ الطيور وهم يعملون كثيراً ويستمتعون كثيراً، حالُهم مثلما حدثتنا الرسالاتُ عن جنةِ الخلد أشجارُها لا تشيخ وأزهارها تتحدى الذبولْ . * * * هدوءٌ أرقُّ من الصمت أحنى على الروح من همسات الكمنجةِ في الليلة القمريةِ يوشك أن يتعالى صدى قطراتِ الندى حين تسقط ناعمةً فوق ما افترّ من ورق الوردة النائمةْ . * * * كل أرضٍ على الأرض أو في السماوات مغمورةٍ بالسلام كما ينبغي هي "يوتوبيا" وإليها تسافر أحلامنا تورق الكلمات وتنثر أنداءَها، السلام الذي تتلألأ في ظلهِ الكائناتُ وليس كلاماً تردده ألسنَ العابرين وتكتبه صحفُ اليوم بالأحرفِ البارزةْ . * * * دعِ الكلماتِ بعيداً وعِشْ حالةً من نعيمٍ ومن غبطةٍ لا توفرها رعشة الكلمات ولا شطحات الخيال فأنت هنا ضيف “يوتوبيا” حيث لا ندمٌ يعتريك ولا خوفَ يتبع ظلكَ يرصد أنفاسك الذابلات كما كان حالُك في بلدٍ لا ينام ويرقد تحت أزيز الرصاص. * * * إنه عالَم ٌ فاضلٌ وفضيلتهُ أنه لا سلاح بهِ لا خناجرَ لا شيءَ يومي إلى الحرب كل النفوس أنابتْ إلى ربها وارتضتْ بالتعايش في أُلفةٍ ، وكذا الجنة الأم تلك التي وعد الله من خلقهِ المؤمنين . * * * لن أعود إلى العالم الدنيوي إلى العالم الدموي، سوف أبقى هنا حيث روحي معلقةٌ بفضاءٍ من الأمنيات ، يصلي لأهلي ويبكي على وطنٍ أثخنته الحروب وخانته حكمتهُ ثم ألقت به حيث لا أملٌ يرتجى أو غدٌ واعدٌ تتجلّى إذا ما دنا آيةُ المعجزاتْ .
ولد الشاعر والأديب اليمني المقالح سنة 1937م،في محافظةإب اليمنية،ويعد من ابرز الشعراء في العصر الحديث،تخرج من دار المعلمين في صنعاء سنة 1960م،الى أن حصل على الشهادة الجامعية سنة 1970م ، ...