الديوان » فلسطين » محمد القيسي » رسالة النبي في حاشية البحر

(1)
إنَّها تمطر الآن ، تمطر ، تمطر ...
والعاديات يمشّطن تلا من الزعتر ،
العاديات يجرَّدن برقوق نيسان من زهره ،
كان يمشي إلى السوق والبحر ،
كانت خطاه المدعى والصدى
كان يحكي ويحكي مع الصمت ،
كان ينزُّ على شرفة الموت ،
كان يلوَّح بالأحمر الفاقع ،
الأصفر الجازع ،
الأبيض الساطع ،
الأسود الفاجع
الليل والأشرعة
(يخرج البحر من ثوبه الأزرق هائجا : كيف نلتقي!)
(2)
لا يجيب النبيُّ المحاصر بالموج ،
لكن ينادي ، اخرجي يا عصافير جرحي ،
اخرجي يا دمائي ،
اخرجي يا سنين التشرُّد والفاقة ، اليوم يومي ،
وقاتلتي مخلب شاهر سمَّه ،
واخرجي من مسام المعمَّد بالنار والانتظار ،
اخرجي من حدودي الجديدة ،
من خيمة الانكسار ،
اخرجي نرجسا ، زعترا
اخرجي مهرة اللّه راكضة ،
من جحيم المهازل والأقنعة
(يخرج البحر من ثوبه جلجلة وذهول هائجا : سيّدي ما تقول)
(3)
والنبيُّ الطريد يواصل تغريبة اللّه في الأرض ،
تغريبة الأمهات المحاطات بالكره والبغض ،
ينثر أحزانه في البلاد زهورا ،
يمدّ جسورا ،
ويدعو إلى الماء والماء
يدعو إلى الوقت والموت ،
يدعو إلى البيت ،
يدعو إلى جبل نافر،
ويشدُّ الحزام ...
يواصل تغريبة اللّه ،
شارة بدء إلى الزوبعه
(يخرج البحر من ثوبه والسؤال صارخ في دمي : تعال)
(4)
يعقد الموج مؤتمرا داميا ،
حيث يدعو إلى السنابل والعشب والقبّرات ،
لبحث مصير النبيَّ الطريد ،
فتحتجُّ أشجاره الداميات ،
وتكتب برقية للغيوم ،
مطعَّمة بالهموم
اهطلي واغسلي كلَّ هذي البقاع ،
ولا تتركينا لريح الوداع
ولا ترحلي ،
قبل أن تشعلي ،
النار في القوقعة .
(يخرج البحر من ثوبه ويجيء سائحا في دمي المضيء)
(5)
لم يعد مستطاع الخروج متاحا ،
يشعُّ النبيُّ رؤى وجراحا
عصافيره قيّدت .
سمك البحر مرتعش لا يحوس ،
يموَّج في القاع ، من ذا يجوس ،
يجلّله الزعتر البلديًّ
تجلَّله خرقة النار والطلقات ،
يشقُّ إلى اللّه دربا
يفيض المخيَّم ، من غيره البرق ..
برق النبيَّ الطريد ، النبيَّ الوحيد ،
النبيَّ المحاصر يجرع في أوج دعوته كأسه المترّعة
(يخرج البحر من ثوبه عاتبا مرة هادئا ، مرة غاضبا)
(6)
لم يعد للغموض مذاق ،
هي الشمس واضحة والصراط ..
هو الأفق يمتدُّ من جرحه ،
القمح من صبحه ، والعياط،
يعرّش فوق جفون الصغار ،
يرشُّ المدى بالغبار ،
يضجُّ المسا بالوضوح فيحتجُّ ،
ترتجُّ من تحته الأرض ،
من في حناياه ضلع ،
وتأتي النباتات
تأتي الزواحف
والبحر يقبل عبر فضاء النبيَّ المحاصر في الصومعة .
(يخرج الآن ، تخرج أسماكه العارية خلفه تتجوَّل في نزهة دامية)
(7)
هكذا ابتدأ الاشتعال الخرافيُّ ،
زلزلت الأرض زلزالها
يسأل البحر مالها
المدى لاسع
الردى جامع
فجأة يطلق البحر بركانه الهادر العاصف –
الآن يشهد أسماكه .. الذعر يسكنها ..
وهي ترسل أنفاسها في اللهيب الترابيَّ ،
يكتمل الحفل في حدقة البحر
حفل الجنازة والموقعة .
(صارخا ، صارخا ، ويموج
الخروج ، الخروج ، الخروج)
(8)
زعتر ودم باقة للعشاء الأخير ،
البنفسج في عروة البحر نافذة للزفاف الدراميَّ ،
واشتعل القلب شيّبا ، وعزَّ التواصل ،
إنّ الطبيعة تهمد تحت قباب الحداد ،
تسجّل صرخة أبنائها في جهاز الضلوع ،
وشهقة أسماكها في الهجير السعيريَّ ،
ينثال مدّ الغناء الجماعيّ ،
حزن النبيَّ ،
الصبايا المضيئات ،
والأمهات ،
وحزن المخيَّم والسروة الدامعة .
(هاهنا هاهنا ابتدأ المهرجان
النبيُّ الطريد وحاشية البحر يلتقيان )
(9)
اسمعي يا جراحي وعي
من قديم لدغنا ، لدغنا ، لدغنا ،
ومثَّل كلُّ الغزاة ، وكلُّ الطغاة بنا ،
لا تقولي – فتغضب فيَّ الدما – لم تكن مؤمنا
كنت أومن أنك شمسي
وأنك يومي وأمسي ،
وأنَّ صباحي الذي سوف يشرق منك سيأتي ،
اسمعي يا جراحي وعي
ليس مؤتمرا أو بيانا ،
وليس خطاب النهاية ..
بعض الضلوع ، وبعض السواعد تعزف ،
ثمّة وقت لنا فاسمعي
يا جراحي وعي
قبل أن ينصبوا في الفضاء الصليب ،
وتعلن كلُّ الاذاعات عن مصرعي
اسمعي
اسمعي
اسمعي
قالت الريح لي والشجر
لن يجيء المخلَّص إن لم تكن وحدك السيَّد المنتظر
وحدك السيف غائصا في حنايا النهر
وحدك النخل ، والأغنيات الثمر .

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن محمد القيسي

avatar

محمد القيسي حساب موثق

فلسطين

poet-mohammed-al-qaisi@

147

قصيدة

50

متابعين

محمد خليل القيسي ولد في كفر عانة/ يافا عام 1944، حصل على ليسانس لغة عربية من جامعة بيروت العربية عام 1971، وعمل بعد تخرجه حتى عام 1979 في التربية ...

المزيد عن محمد القيسي

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة