(1)
إنَّها تمطر الآن ، تمطر ، تمطر ...
والعاديات يمشّطن تلا من الزعتر ،
العاديات يجرَّدن برقوق نيسان من زهره ،
كان يمشي إلى السوق والبحر ،
كانت خطاه المدعى والصدى
كان يحكي ويحكي مع الصمت ،
كان ينزُّ على شرفة الموت ،
كان يلوَّح بالأحمر الفاقع ،
الأصفر الجازع ،
الأبيض الساطع ،
الأسود الفاجع
الليل والأشرعة
(يخرج البحر من ثوبه الأزرق هائجا : كيف نلتقي!)
(2)
لا يجيب النبيُّ المحاصر بالموج ،
لكن ينادي ، اخرجي يا عصافير جرحي ،
اخرجي يا دمائي ،
اخرجي يا سنين التشرُّد والفاقة ، اليوم يومي ،
وقاتلتي مخلب شاهر سمَّه ،
واخرجي من مسام المعمَّد بالنار والانتظار ،
اخرجي من حدودي الجديدة ،
من خيمة الانكسار ،
اخرجي نرجسا ، زعترا
اخرجي مهرة اللّه راكضة ،
من جحيم المهازل والأقنعة
(يخرج البحر من ثوبه جلجلة وذهول هائجا : سيّدي ما تقول)
(3)
والنبيُّ الطريد يواصل تغريبة اللّه في الأرض ،
تغريبة الأمهات المحاطات بالكره والبغض ،
ينثر أحزانه في البلاد زهورا ،
يمدّ جسورا ،
ويدعو إلى الماء والماء
يدعو إلى الوقت والموت ،
يدعو إلى البيت ،
يدعو إلى جبل نافر،
ويشدُّ الحزام ...
يواصل تغريبة اللّه ،
شارة بدء إلى الزوبعه
(يخرج البحر من ثوبه والسؤال صارخ في دمي : تعال)
(4)
يعقد الموج مؤتمرا داميا ،
حيث يدعو إلى السنابل والعشب والقبّرات ،
لبحث مصير النبيَّ الطريد ،
فتحتجُّ أشجاره الداميات ،
وتكتب برقية للغيوم ،
مطعَّمة بالهموم
اهطلي واغسلي كلَّ هذي البقاع ،
ولا تتركينا لريح الوداع
ولا ترحلي ،
قبل أن تشعلي ،
النار في القوقعة .
(يخرج البحر من ثوبه ويجيء سائحا في دمي المضيء)
(5)
لم يعد مستطاع الخروج متاحا ،
يشعُّ النبيُّ رؤى وجراحا
عصافيره قيّدت .
سمك البحر مرتعش لا يحوس ،
يموَّج في القاع ، من ذا يجوس ،
يجلّله الزعتر البلديًّ
تجلَّله خرقة النار والطلقات ،
يشقُّ إلى اللّه دربا
يفيض المخيَّم ، من غيره البرق ..
برق النبيَّ الطريد ، النبيَّ الوحيد ،
النبيَّ المحاصر يجرع في أوج دعوته كأسه المترّعة
(يخرج البحر من ثوبه عاتبا مرة هادئا ، مرة غاضبا)
(6)
لم يعد للغموض مذاق ،
هي الشمس واضحة والصراط ..
هو الأفق يمتدُّ من جرحه ،
القمح من صبحه ، والعياط،
يعرّش فوق جفون الصغار ،
يرشُّ المدى بالغبار ،
يضجُّ المسا بالوضوح فيحتجُّ ،
ترتجُّ من تحته الأرض ،
من في حناياه ضلع ،
وتأتي النباتات
تأتي الزواحف
والبحر يقبل عبر فضاء النبيَّ المحاصر في الصومعة .
(يخرج الآن ، تخرج أسماكه العارية خلفه تتجوَّل في نزهة دامية)
(7)
هكذا ابتدأ الاشتعال الخرافيُّ ،
زلزلت الأرض زلزالها
يسأل البحر مالها
المدى لاسع
الردى جامع
فجأة يطلق البحر بركانه الهادر العاصف –
الآن يشهد أسماكه .. الذعر يسكنها ..
وهي ترسل أنفاسها في اللهيب الترابيَّ ،
يكتمل الحفل في حدقة البحر
حفل الجنازة والموقعة .
(صارخا ، صارخا ، ويموج
الخروج ، الخروج ، الخروج)
(8)
زعتر ودم باقة للعشاء الأخير ،
البنفسج في عروة البحر نافذة للزفاف الدراميَّ ،
واشتعل القلب شيّبا ، وعزَّ التواصل ،
إنّ الطبيعة تهمد تحت قباب الحداد ،
تسجّل صرخة أبنائها في جهاز الضلوع ،
وشهقة أسماكها في الهجير السعيريَّ ،
ينثال مدّ الغناء الجماعيّ ،
حزن النبيَّ ،
الصبايا المضيئات ،
والأمهات ،
وحزن المخيَّم والسروة الدامعة .
(هاهنا هاهنا ابتدأ المهرجان
النبيُّ الطريد وحاشية البحر يلتقيان )
(9)
اسمعي يا جراحي وعي
من قديم لدغنا ، لدغنا ، لدغنا ،
ومثَّل كلُّ الغزاة ، وكلُّ الطغاة بنا ،
لا تقولي – فتغضب فيَّ الدما – لم تكن مؤمنا
كنت أومن أنك شمسي
وأنك يومي وأمسي ،
وأنَّ صباحي الذي سوف يشرق منك سيأتي ،
اسمعي يا جراحي وعي
ليس مؤتمرا أو بيانا ،
وليس خطاب النهاية ..
بعض الضلوع ، وبعض السواعد تعزف ،
ثمّة وقت لنا فاسمعي
يا جراحي وعي
قبل أن ينصبوا في الفضاء الصليب ،
وتعلن كلُّ الاذاعات عن مصرعي
اسمعي
اسمعي
اسمعي
قالت الريح لي والشجر
لن يجيء المخلَّص إن لم تكن وحدك السيَّد المنتظر
وحدك السيف غائصا في حنايا النهر
وحدك النخل ، والأغنيات الثمر .