الديوان » لبنان » سليمان البستاني » ذاك الحديث في السماء يجري

عدد الابيات : 159

طباعة

ذاك الحديث في السماء يجري

ونحو هيفستٍ ثتيس تجري

حيث بني الأعرج زاهي القصر

صرحاً من النحاس عالي القدر

في الخلد يسمو راسخاً للدهر

ألفته سح عرقاً فوارا

يدير منفخاً ويذكي نارا

مناضداً عشرين قد أدارا

على الجدار تبهر الأبصارا

مرفوعةً على عجال تبر

حتى بها بأعجب العجاب

من نفسها لمجلس الأرباب

تسرع بالذهاب والإياب

تمت سوى مقانبض الأجناب

مع عراها الشائقات الغر

أمامه قد حمي الوطيس

يشغله إذا أقبلت ثيتس

فأبصرتها عرسه خاريس

فبادرت بفرعها تميس

وصافحتها بعظيم البشر

يا ربة المقنعة المسدوله

ثيتيس يا خلتنا الجليله

علام أنت عندنا نزيله

على خلاف عادةٍ جميله

هيي بنا حيث الضيوف نقري

وأجلستها طلقة الإيناس

عرشاً بديعاً محكم القياس

قتيره من اللجين القاسي

ذاموطئٍ لأرجل الجلاس

وزوجها نادت بصوت الجهر

هيفست قم ثيتيس عونك ابتغت

فقال أهلاً بإلاهةٍ سمت

تلك التي الكربة عني فرجت

لما من السماء بي أمي رمت

ثكتم عاهتي بشرّ الكبر

فهي وافر ينومة الإحسان

بنت المحيط الجازر الهتان

بالبشر والأنس تلقتاني

أولا فما كان إذاً أشقاني

ووارتاني في عباب القعر

حللت كهفاً حوله قد دارا

مجرى الخضم مزبداً هدارا

كم صغت فيه لهما سوارا

خواتماً قلائداً أزرارا

تسعة أعوامٍ بط الستر

سواهما في الأرض والسماء

لا أحدٌ درى مقامي النائي

هما هما قد خففا شقائي

والآن ثيتيس هنا إزائي

إأنى أأدي حق فرض الشكر

خاريس وافيها بواجب القرى

حتى أريح منفخي وأحضرا

وغادر العلاة عنها مدبراً

تخمع ساقاه به فأخرا

مفاخه عن حر واري الجمر

وأودع المدة درج فضة

يعمد من ثم إلى إسفنجة

يمسح صدره وعالي الجبهة

كذا يديه ومتين الرقبة

ثم اكتسى برداً وعاد يسري

بصولجانٍ شائقٍ صلبٍ ذهب

معتمداً على وصيفتي ذهب

أعطيتا صوتاً وعقلاً وأدب

لخدمة الأرباب في كل أرب

كغادتين ازدانتا بالفكر

وليتا هيفست من حيث انثنى

حتى إلى ثيتيس بالجهد دنا

حل على عرشٍ بهي معلنا

ترحابه لها ومن ثم انحنى

مصافحاً لها بقول الحر

يا ربة المقنعة المسدوله

ثيتيس يا خلتنا الجليله

علام أنت عندنا نزيله

على خلاف عادةٍ جميله

مري فإنني رهين الأمر

قالت تسيل الدمع هل مث

لي ترى شقية ما بين ربات الورى

دون بنات الماء زفس قدرا

علي أن أصيب بعلاً بشرا

فيلا وأمضى أمره بالقسر

فيلا لقد أقعده فرط الكبر

عجزاً وزفس كادني كيداً أمر

أعطيت نجلاً فاق أبطال البشر

أنشأته كالغصن في روضٍ أغر

فثارت الحرب على ما تدري

أنفذته في الفلك للطعان

آه فلن يعود للأوطان

قصر عن إمداده بناني

حيا ولكن ثائر الأشجان

يرى سنا الشمس قصير العمر

حبته غادةً بنو الآخاء

جزاء حسن الذود والإبلاء

فرامها أتريذ بالدهاء

أقعده الكيد عن الهيجاء

فشهر الطرواد سيف النصر

ودفعوا الإغريق للأسطول

فهبت الصيد إلى أخيل

تطمعه بنائلٍ جزيل

أبى قبول تحفة القيول

لكن دعا فطرقل للمكر

ألبسه شكته سلاحا

فهب في أصحابه وراحا

فكافحوا عداهم كفاحاً

لسور إليونهم اكتساحا

فأوشكت تعنو لهم بالقهر

لكنما فيبوس فطرقل قتل

لما رآه مزق الجيش وفل

وخول النصر لهكطور البطل

لذاك بادرت إليك بالعجل

أبسط فوق ركبتيك عذري

أحسن إذاً لولدي الحبيب

من سيلاقي الموت عن قريب

بخوذةٍ ومجوبٍ عجيب

ولأمةٍ مع حذاً قشيب

تحرز ثنائي وجميل الأجر

قال اطمئني آه لو يوم القدر

يتاح أن أقيه أهوال الخطر

كما يتاح الآن في هذا المقر

إعداد عدةٍ له أيٌّ نظر

إلى سناها بسواها يزري

ثم مضى يدير نحو الكور

منافخاً دارت بلا مدير

فأججت بمثل لمح النور

عشرين موقداً لظى السعير

تفرغ ما يحتاجه بالقدر

تهب طوراً هبة الأنواء

وتارةً تنفخ بالإبطاء

ثم رمى بالعسجد الوضاء

للنار فوق الفضة الغراء

فوق فلزه وصلدٍ الصفر

وإذا دحى سندانه المهيلا

ففي يدٍ مطرقه الثقيلا

وفي يدٍ ملقاطه الطويلا

أعلى وقام شاغلاً مشغولا

يشرع في المجن بدء الأمر

ترسٌ عظيمٌ شائق الأوصاف

وطوقه البهي فوق الحاف

يكنفه مثلث الأطراف

على حمائل اللجين الصافي

يزهو على خمس طباق الظهر

أودعه نقشاً به تحار

لحسنه الأنظار والأفكار

فالأرض والسماء والبحار

منهن لاحت فوقه الآثار

وساطع الشمس وتم البدر

وصاغ فيه جملة الدراري

مثل الثريا الجمة الأنوار

والدبران ولقا الجبار

دبٍّ دعوا مركبةً دوّار

من دونها لا يرتوي بالبحر

وبلدتين غصتا بالناس إحداهما

بالبشر والإيناس

زف بها الزوجان بالأعراس

بين غناءٍ وسنا مقباس

ورقص فتيةٍ لهت وصفر

ونغمة الرباب والشباب

تصدح والنساء في الأعتاب

وقفن للزفة بالإعجاب

وغير هذا الحشد بانتصاب

هنالك اثنان استطالا جدلا

لديةٍ حق قتيلٍ قتل

هذا ادعى إيفاءها مكملا

يعلن ذاك الأمر ما بين الملا

وذاك منكرٌ أشد النكر

كلاهما يطلب حكم القاضي

والناس بين ساخطٍ وراض

ضجوا لأيٍّ ساعة التقاضي

أحسن والفيوج باعتراض

تأمر بالصمت لحسم الأمر

هنالك الشيوخ من ضمن حرم

على مقاعدٍ من الصخر الأصم

قاموا بأيديهم على مرأى الأمم

صوالج الفيوج يبدون الحكم

فرداً ففرداً أدوا الأحكاما

أمام هاتيك السرى قياما

وشافلان ذهباً تماماً

بينهم قد أودعت إكراما

لمن محا بالعدل شر الوزر

والبلدة الأخرى هفست رسما

جيشين حولها عليها هجما

جيشٌ لقد آلى بأن تهدما

وذاك نصف المال يبغي مغنما

وأهلها تحصنوا بالسر

كمينهم بينهم أعدوا

وفوق سورهم أقام الولد

والأهل والشيوخ ثم امتدوا

أمامهم رب الكفاح الصلد

كذا أثنيا ملجأ المضطر

كلاهما من ذهبٍ وضاح

بالجسم والملبس والسلاح

تراهما العين على البراح

أعظم قد من سرى الكفاح

ما مس آل الخلد شين الصغر

فبلغوا جدة نهر جاري

مورد غر الشاء والثيار

فوقفوا بالرمح والبتار

وأرصدوا عينين للصوار

ليرقبا عند ورود النهر

فأقبلت أمام راعيين

بنغمة المزمار لاهيين

عن ذلك الكمين غافلين

فوثبوا وقتلوا الغرين

ونحروا السوام شر النحر

فارتفعت عجاعج الضواضاء

فبلغت مسامع الأعداء

فأقبلوا بغارةٍ شعواء

واشتبكوا وانهال باللقاء

غيثٌ من النصال فوق الثغر

بينهم فتنة والغوغاء

كذا مبيد الأمم القضاء

يعلو على كهله رداء

تسيل من أطرافه الدماء

يفر عن هذا وذاك يفري

وآخرا أمسك بالأقدام

يزيح عن مواقف الصدام

تلك رسوم بذكا الرسام

ترى على المجن كالأجسام

تسحب موتاها وبرياً تبري

ودون هذا الرسم رسم حقل

خصبٍ ثلاثاً حرثوا بالفعل

رجاله قامت بعبء الشغل

قد عمقوا الثلم بسطرٍ عدل

يرتشفون من لذيذ الخمر

في منتهى الأرض انبرى غلام

إذا انقضى ثلمهم التمام

ناولهم كاساً وهم قيام

فانقلبوا ونيرهم أقاموا

بكل وجهةٍ بملء الصبر

والأرض سوداء تلوح للنظر

وإن تكن من ذهبٍ تلك الصور

كأنما الفلاح في الحال عبر

نعم فذي معجزةٌ ممن قدر

أن يخضع العسر لأمر اليسر

وقربه يانع زرعٍ بادي

دارت به مناجل الحصاد

ومن وراها زمرة الأولاد

تجمع ما يلقى على التمادي

وخلفهم ثلاثةٌ تستقري

تضم ما ألقوا لهم ضمن حزم

وثم رب الأرض ما بين الحشم

قد قام صامتاً يرى تلك الهمم

معتمداً على عصاه فابتسم

ينظر بالبشر لوفر الذخر

وتحت سنديانةٍ قام الندل

يهيئون الزاد في ذاك المحل

قد ذبحوا ثوراً به الكل اشتغل

وعاونتهم النساء في العمل

على لحومه الدقيق تذري

كذاك كرمٌ بدوالي ذهب

قامت فمالت تحت ثقل العنب

سمكه من فضةٍ لم تشب

قد سطرت دون وشيعٍ أشهب

يكنفها وخندقٍ مغبر

ليس له إلا طريقٌ رسما

يعبره الكرام أيام النما

وللرد تبدي والعذاري الهمما

تجني وفي السلال تلقي كل ما

جنته من قطفٍ ذكا محمر

بينهم فتىً بعودٍ قاما

مردِّداً بنقره الأنغاما

نشيد لينوس الذي تسامى

فرددوا النشيد والأقداما

في الأرض دقوا وفق ذاك النقر

ودون ذا سربٌ من الثيار

من الفلز ومن النضار

مندفقٌ يزأر للبراري

يرى لدى نهرٍ على مجار

محاطةٍ بالقصب المخضر

رعاته أربعةٌ من عسجد

وتسعةٌ كلابه للرصد

وثم ليثان مروعا المشهد

قد فرسا ثوراً فكرت تغتدي

رعاته وغضفه في الإثر

قد مزقاه مغنماً بينهما

وازدردا الأحشاء وامتصا الدما

فأوغر الرعاة من خلفهما

كلابهم فهالها بطشهما

هرت وهدت شديد الذعر

ودون ذا في مرجةٍ خضراء

صرائفٌ محكمة البناء

لدى حضائرٍ تسر الراءي

بين مرابع لغر الشاء

كذا غياض فوق روض نضر

وقرب هذا رسم مغنى طرب

كأنه نادس بديع العجب

ألف في أكنوس ذيذال الأبي

لحظ أريانا بماضي الحقب

من فتيةٍ من عذاري زهر

رداهم المنسوج كالزيت برق

وبرقع الحسان بالحسن نطق

وحليهم سيفٌ من التبر انطلق

على نجاد فضة هيفست دق

لكن حليهن تاج زهر

تعاضدوا بالكف والإبهام

فرقصوا بالعلم والإلمام

كأنهم بحقه الأقدام

محال خزافٍ رماه الزامي

ثم جروا سطرٌ وراء سطر

حولهم حشدٌ وفي وسطهم

قام مغنٍّ بشجي النغم

إن نقر العود فمن بينهم

قرمان دارا بحفيف القدم

رقصاً يرددان لحن الشعر

وعندما أتم هاتيك البدع

مجاري المحيط في الحاف وضع

فأكمل المجن من ثم ابتدع

درعاً سناها كسنا الشمس سطع

ما صلحت إلا لذاك الصدر

وخوذةً بقونسٍ جميل

من عسجدٍ ومحملٍ ثقيل

لاقت لذاك البطل الجليل

ومن نحاسٍ لينٍ مصقول

طرق خفين تمام البر

وإذ أتم كل تلك الغرر

ألقى بها لأم آخيل السري

من لدنٍ ربٍّ تحفةً للبشر

فانحدرت من الألمب الأزهر

واندفعت بها اندفاع الصقر

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن سليمان البستاني

avatar

سليمان البستاني حساب موثق

لبنان

poet-Suleyman-al-Boustani@

139

قصيدة

86

متابعين

سليمان بن خطار بن سلوم البستاني. كاتب وزير، من رجال الأدب والسياسة، ولد في بكشتين (من قرى لبنان) وتعلم في بيروت. وانتقل إلى البصرة وبغداد فأقام ثماني سنين، ورحل إلى ...

المزيد عن سليمان البستاني

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة