أذاع في مصرَ رسولُ البشرِ أَن ذكاءً غرقت في البحرِ فطلع البدرُ ضحوكَ الثغرِ وأَقبلَ النسيمُ لطفاً يسري وصفَّقت فوزاً مياهُ النهرِ وبلغَ الرياضَ ذاكَ الخبرُ فاهتزَّ إِعجاباً وماسَ الشجرُ وابتهجَ النورُ بها والثمرُ والزُهرُ من فوقُ إِليها تنظرُ ترى خيالَ ذاتها في الزهرِ ومن عجيبٍ أن ترى الطبيعه تظهرُ ذي الشماتةَ الفظيعه بالشمسِ وهي أمُّها البديعه وربَّة الكلمة المسموعه تُطيعها في نهيها والامرِ لكن بمصرَ ليسَ بالعجيبِ وقوعُ هذا الخطأ المعيبِ فكم بها من حادثٍ غريبِ والشمس فيها أحدُ الخطوبِ في الصيفِ فهي أصلُ ذاك الحرِ أنظر فبينا الدورُ والقصورُ ليس بها حسٌ ولا شعورُ صامتةُ كأَنَّها قبورُ قد انبرت بأهلها تمورُ وانفرَجت عقدةُ ذاك الحصرِ أطلَّتِ الغيدُ من الخدورِ كأنها الاقمار في سُفورِ يخطرنَ في الدمقسِ والحريرِ من كل ظبيٍ أغيدٍ غريرِ مهتضمِ الكشحِ دقيق الخصرِ وخرجَ الناس إلى الساحات يغتنمون فُرَصَ اللذاتِ وارتفعت طقطقةُ الكاساتِ من جِعَةٍ تُحسى ومن جلاتِ مبرِّداتٍ منعشات الصددِ تنفَّسَ الحيُّ ومنذُ حين كان يُعاني غصصَ المنونِ منطرحاً في ذلك الاتونِ فلم يكن يا ليلُ من معينِ سواك للخلاص من ذا الاسرِ يا أيها العبدُ الجميلُ الاسودُ أنتَ لنا المولى ونحنُ الأَعبُدُ بل أنت في مصرَ الهٌ يُعبَدُ ففيك طابت مهجٌ وأكبدُ أَودى بها لولاك صيفُ مصرِ لأَجل هذا قد تغنَّى المنشدُ باسمِكَ كلَّ ساعةٍ يردِّدُ يا ليلُ ليتَ الصبحَ ليس يولد وليت كلَّ أبيض يا أَسودُ فداءُ هاتيك الثنايا الغرِّ يا صاحِ فاسلُ هذه النوادي حافلة القاعاتِ بالقصَّادِ إِن رمتَ تشفي غُلَّةَ الفؤادِ فاقصد معي ضِفاف ذاك الوادي حيثُ أبو الخيراتِ ظلَّ يجري يا حبذا النيلُ على ضوءِ القمر وحبذا الغبوق فيهِ والسمر ركبته كأنني على سفر في ليلةٍ ما عابها غيرُ القِصَر كذلك الصفوُ قصير العمرِ معَ غزالٍ من بني الافرنجِ مهفهفِ الخصرِ كثيرِ الغنجِ ينظُرُ عن سودٍ صحاحٍ دعجِ وجدتُ فيها كلَّ ما أُرَجِّي من روضةٍ وخمرةٍ وشعرِ والريحُ تسري حولنا بليلا تبلُّ من صدورنا الغليلا كأَنها آس أتى عليلا وقد أبحناها اللمى تقبيلا فما اكتفت بل عبثت بالشعر والنيلُ يجري تحتنا غزيرا تهزنا موجاتهُ سرورا كما تهزُّ غادةٌ سريرا قد نام فيه طفلُها قريرا في مأمنٍ من عادياتِ الدهرِ والبدرُ تُلفي وجههُ في الماء سبائكاً من فضةٍ بيضاءِ تلمعُ إذ تموجُ في الهواءِ كأَنها السيوف في الهيجاءِ ما بين كرٍّ دائمٍ وفرِّ والأفقُ زاهٍ بالنجومِ الغرِّ كأَنها لآلئٌ في نحرِ جاريةٍ من الجواري السمرِ أو ياسمينٌ لاحَ في مخضرِ روضٍ تروَّى من دموع الفجرِ وللنخيل منظرٌ مهيبُ تُراعُ من جمالهِ القلوبُ فوقَ الضفافِ ظلُّها رهيبُ صفاً بصفٍّ زانها الترتيبُ من كلِّ جبَّارٍ عظيم القدرِ تحسبُها مَرَدَةً طوالا تحتَ مظلات زهت جمالا في النيل جاءت تبتغي اغتِسالا سحرها النيلُ فلن تزالا واقفةً بفعلِ السحرِ والذهبياتُ به جوارِ بين صعودٍ فيهِ وانحدارِ تبدو لنا زاهيةَ الأنوارِ كأَنها لوامعُ الدراري سابحةً فوق عُباب الغمرِ وللمياهِ حولنا تنهُّدُ وزفراتٌ نحونا تُصَعَّدُ وللشواطئِ لنا تردُّدُ فتارةَ ندنو وطوراً نبعدُ والريحُ في الشراعِ ذاتُ نقرِ هذا ونحن نألف الأُصولا في الحبِّ لا نبغي بها تبديلا فلا نملُّ الضمَّ والتقبيلا وقد سأَلنا الليلَ أن يطولا فحبَّذا لو دامَ طولَ الدَهرِ وكانتِ الأكوانُ في هجوعِ من حولنا باديةَ الخشوعِ والزُهرُ في السماءِ كالشموعِ قد أُوقدَت لعرسِنا البديعِ والليلُ قسيساً لعقدِ السرِّ فبينما نحنُ كذا سُكارى وقد خَلعنا في الهوى العذارى إذا الصباحُ قد نضى البتارا وضربَ الليلَ به فدارا وانسكبت دماؤُهُ كالخمرِ فراعنا مشد ذا القنيلِ وامتنعَ الحِبُّ عن التقبيلِ تهيباً للحادثِ الجليلِ فعدتُ معه لا أرى سبيلي غيظاً على الصباح ربِ الغدرِ
(1872-1930) إلياس فياض. أديب لبناني، تعلم ببيروت، ثم بمدرسة الحقوق بالقاهرة. وكتب في مجلتي إبراهيم اليازجي (الضياء) و(البيان) في القاهرة، وتولى رئاسة التحرير بجريدة (المحروسة) اليومية. ثم عاد إلى لبنان، ...