مُفرداً، شاهقاً، شرفتي غيمةٌ دلّلتها السماء أُطِلُّ على شاطئٍ جنَّةٍ، قال أخضرُها كلَّ أقوالِهِ هامساً، هادراً فستقيَّ الذوائبِ، يوشك يلمعُ، أخضرُ يرضعُ، يحبو، يكادُ يشبُّ إلى المشمشيِّ المضيءِ ويدخلُ في الصدئيِّ الموشّى كما قشرِ رمّانةٍ أوغلت في النضوجِ وأخضرُ فيه الدخانيُّ يهربُ من زرقةٍ خالطته وفيه الجمانُ الذي يتدرّجُ نحو النحاسيِّ والعنبيِّ الشفيفِ، وما لستُ أعرفُ غاباتها تستريحُ بمنحدراتٍ تلامسُ صمتَ البحيرةِ من كلِّ جنبٍ ورائحةُ الزهرِ تعلو من السفحِ نحوي علوَّ الدفوفْ وتبدو الجبالُ جدوداً كأجدادنا يألفونَ أماكنَهم عادةً فالجبال زمانٌ، إذا ما تمعّنتَ في أمرِها إنها الوقتُ متّخذاً جسداً ومياهُ البحيرةِ، منقوشةً بالمراكب، تبدو كثوبِ الحفيدةِ تُصغي لسحرِ حكاياتهم مَّسَّها نَعَسٌ والنسيمُ يطوف القرى حول قوسِ المياه خجولاً يكادُ يُقَدِّمُ أعذارَهُ للحفيفْ وأنا بجناحينِ قد حدثا فجأةً شاهقاً، ومطلاً على كلِّ هذا المدى ربما صرتُ طيراً ولي نظرةُ الطيرِ، فالآن أعرفُ بالضبطِ ما نظرةُ الطير، أعرفُها قلتُ هذا صباحٌ يحنَّ على من يشاهده بل صباحُ مشاهدَ حنّت على بعضها سوف أحتاج عاماً لأعرف أسماءَ أشجارها والنباتات والزهر والطير أو أعرف اسمي أنا ها هُنا وهنا يحسنُ الشعرُ فاكتب كما تشتهي يا غريبُ، هنا تشتهيكَ الحروفْ. تأمَّلتُ جسمي فأربكني: خلفَ أزرارِ هذا القميص الخفيفْ، حاضرٌ، مثل ركبتكَ ارتطمتْ بالرخامِ. وماضٍ مُخيفْ، كذئبٍ يُفَكِّرُ في طفلةٍ ويصرُّ على أن أسمّيه مستقبلاً. ومنازلُ أهلي التي غيّرت أهلَها والخسائرُ مصفوفةٌ كالقواميس فوق الرفوفْ وأغمضُ جسمي وعينايَ مفتوحتانِ كشبّاك أمي وشبّاكها لم يطلَّ على لهو أحفادِها في حديقتها بل على لهوِ "ربّ الجنودِ" بأيّامنا وانقلابِ الصفاتِ إلى عكسِها وفسادِ الضحيّةِ من رأسِها وانهيارِ المُنى والسقوفْ خلفَ أزرارِ هذا القميص الخفيفْ، أواصلُ أشغالَ من ظلَّ حيّاً: أُدَفِّئُ "رضوى" من البرد،ِ يسهرُ عندي "مجيدٌ" وتقطفُ "أمُّ منيفٍ" زهورَ حديقتها في انتظارِ "منيفْ". وها نحن نمشي معاً في صباح الجبال نقولُ ونسمعُ نتعبُ نبطئُ نرتاحُ نسرعُ نغضبُ نغفرُ ننسى نتوهُ قليلاً ونسألُ نذكرُ بيتاً من الشعرِ للمتنبي ونضحكُ من نكتةٍ خالطت دمعنا هل أُغَيِّرُ للموتِ رأياً وأقنعه أنه فاشلٌ؟ أيقتنعُ الموتُ أنّي أسيرُ بأقدامهم؟ فخطاي خطاهم وعيناي أعينهم والقصيدة إصغاؤهم هل سأقنعهُ أنهم يحدثون لي الآنَ مثل النجاة ومثل العناقْ؟ يحدُثون لي الآن حتى نطيقَ معاً عبءَ هذا الجمال الذي لا يطاقْ وأنَّ خلوداً صغيراً يباغتنا الآن فعلاً؟ تميمٌ سيلتقطُ الصورةَ الآن، قلتُ انتظرْ لحظةً: سوف أصلحُ ياقةَ رضوى، وأدني منيفاً وأمّي إليّ وأطولَنا، والدي ومجيداً، إلى المنتصفْ أيقتنعُ الموتُ أنا بعثنا هنا كاملينَ وطرنا معاً من يديه مع الطيرِ فوق البحيرة، صرنا البحيرةَ صرنا الجبالَ وصرنا الظلالَ وصرنا مقاهي الرصيفْ. ها أنا أطردُ الشوقَ من لغتي، وهل الشوقُ إلا اعترافٌ بكسرِ المكانِ مكانين والجسمِ جسمين والواحدِ اثنين؟ إنَّ الضفافَ هي النهرُ من دونها لا نسمّيه نهراً وإن الجبالَ تصيرُ جبالاً بوديانها والزهور، أتنمو الزهورُ على غير سيقانها؟ أو تعيش المقابضُ دون السيوفْ؟ ومن يفصلُ الطيرَ عن ممكناتِ الجناحين والموجَ عن جسدِ البحرِ؟ من يفصلُ الآن بين السفينةِ والماء من قال إنّ الربيعَ انقطاعٌ عن الصيف من يفصلُ الغيمَ عن درجاتِ البياضِ ولا هالة ٌفي السماء إذا البدرُ ما كان في قلبها هل أنا قلتُ هذا أم ارتجلوهُ فوافقتهم؟ لستُ أدري ولكنّني لستُ أشتاقهم إنهم خلفَ أزرارِ هذا القميص الخفيفْ
شاعر وكاتب فلسطيني، من مواليد مدينة رام الله عام 1944. تخرج البرغوثي في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بجامعة القاهرة عام 1967، ولم يتمكن من العودة إلى مدينته إلا بعد ذلك ...