الديوان » فلسطين » مريد البرغوثي » موسيقى بلا نحاس

أعرفُ أنها لا تجيبُ
لكنني، بين غارتين
سألتُ الحربَ أسئلةً بسيطةً:
من أين تأتين بهذه الهمّة؟
أتعلمين أنك لم تطلبي إجازةً
من عملك على أرض البشر
منذ كان البشر؟
ألا تفكّرين ببيتٍ يخصُّك
له بابٌ يُنَجِّرُهُ نجّارون حقيقيّون
من خشبٍ مألوف
بابٌ إذا انفتح، يستطيع، كأمثاله،
أن ينغلق
ونافذةٌ حين تطلُّ على مشهدٍ
فإنها لا تغيّره؟
ألم تصادقي يوماً مخدّة؟
ألا تفكرين بغرفة استقبالٍ
تقدّمين فيها لضيوفك
شاياً غير مُهَدَّد
وموسيقى بلا نحاس؟
ثم تعالي نتحدّثُ في أمرٍ محرجٍ:
حتى العنزةُ تُنَظِّفُ مكانَها أيتها الحرب
وأنتِ لا تنظّفين مكانك
كيف تسحرين ضحاياك للقيام بخدمتكِ
حتى وهم، بأكملهم، داخل البكاء؟
حتى أدوات عملكِ اليوميّ
هم يوفرونَها لك
يجرّون لكِ الثقيل والخفيف
ويهيّئون لكِ الذرائع
ويجددون لكِ الإقامة
يحملونكِ على ظهورهم المكسورة
ليجوزوا بكِ الجبال والمنحدرات والأنهار وتجاعيد الليل
يزيحون من طريقك القلاعَ والعقلَ
وفي المشهد الأخير
هم من يحفرون، على عجلٍ،
ما لا بدّ من حفره
ويرتّبون الصمتَ الأبديّ
في صناديق الخشب
يحيّرهم حذاؤكِ الموهوبُ،
حذاؤك القادر.
كيف تظهرين في مكانين في وقتٍ واحد؟
في ثلاثةِ أماكن؟
يحيّرهم كيف تحتفظين بهذا القوام
وأنتِ تأكلينَ كلَّ ما يخطرُ ببالكِ؟
ألهذا يُغرَمُ بكِ صاحبُ الرتبة على الكتف
وصاحب الأرصدة في البنوك؟
وما لديهما من خدم؟
لم أركِ يوماً تعتنين بعجوزٍ أو حديقة
تكرهين السقوف
ونظافة الممرات
وثبات الأدراج
ورفوف المخللات في المطابخ
تحبّين الأجسامَ الناقصةَ تماماً
والحدقات الثابتة تماماً
والجسر المحنيّ على ركبته المكسورة
في ماء النهر
وفرار الناس من الناس
والأيدي المعقودة، ذعراً، فوق الرأس
والشجر الأفقيّ
ثمّ لماذا تكرهينهم تحديداً،
لماذا تكرهينهم إلى هذه الدرجة،
الأطفال؟
ألأنهم، من ورقٍ ومن رملٍ
وعلى دفاتر الرسم،
يبنون بيوتاً أينما ذهبوا
وأنت، يوماً، لم تضعي طابقاً
فوق طابق،
أو حجرا فوق حجر
أم لأن الأطفالَ سقوفُ أجدادهم؟
أم لأن الأطفال هم البيوت؟
أرباحك أحيانا صغيرة:
مزقةٌ من شال جدّة
صندل طفلةٍ نقشت عليه زهرةٌ
تبدو كزهرة
طمأنينة دوري يدرسُ بمنقاره
نضوجَ حبّةٍ تين
استعدادُ عاشقين لما يستعدُّ له عاشقان
شهوةُ فتاةٍ انتهت قبل أن تعرفَ
ما يخبّئه الرجال
ركوةُ قهوةٍ ستغلي، لو نجت، بعد دقيقتين
ساقُ فارسٍ برونزيّ
تمشي وحدها خارج المتحف
راكضٌ يصاب بالإسمنت
جدرانٌ تصابُ بالركض
شرفة في الأعالي تصابُ، فجأةً، بالجاذبية
ونظّارةُ ولدٍ بعدت عن أنفه مئات الأمتار
فعاشت،
ومات
وأرباحُكِ أحياناً كبيرة:
مدنٌ بكامل غموضها وسهرها
غاباتُ النمور،
سهوبُ الفيلة،
لهفةُ المعابد،
احتمالات الجَدِّ في الجنين،
أسوارُ الذود، أرقُ الفلاسفة،
عضلات الأبراج، وذهول الناجين
كيفَ جعلتِ من الحصانِ الخشبيِّ، الفصاحةَ، الرغيفَ، الكرامةَ، النفطَ، الناقةَ، الفيزياءَ، القداسةَ، الوشوشةَ، الحدودَ، الخرزَ الملوّنَ، قُبلةَ هيلين، وعودَ الآلهة والسلامَ ذاتَهُ عبيداً لخطوتك الآمرة؟
وأخيراً أيتها الحرب
لماذا لا ينتهي عملُكِ عندما ينتصرُ المنتصر
لماذا لا ينتهي عملُكِ عندما يُهزَمُ المهزوم؟
وجلستُ منصتاً
لعلها، هذه المرة، تجيبُ
لكنني لم أسمع
إلا دويَّ الغارة التالية

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن مريد البرغوثي

avatar

مريد البرغوثي حساب موثق

فلسطين

poet-Mourid-Barghouti@

28

قصيدة

477

متابعين

شاعر وكاتب فلسطيني، من مواليد مدينة رام الله عام 1944. تخرج البرغوثي في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بجامعة القاهرة عام 1967، ولم يتمكن من العودة إلى مدينته إلا بعد ذلك ...

المزيد عن مريد البرغوثي

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة