تطريزُ ثوبِكِ صامتٌ ... ويقولُ الأخضرُ المبحوحُ نايٌ ناعمٌ مسّتهُ كفُّ الريحِ والراعي وأزرقُهُ دفوفٌ حولها شعلٌ وأحمرُه طبولُ ومنمنماتُ رسومه همسٌ وإصغاءٌ وغامقها به نَعَسٌ وفاتحها له نَفَسٌ وفاجرُها خجولُ والخطُ يصعدُ، مستقيماً، من وقار الذيل حتى الخصرِ يلمس قوسه، فيميلُ وعلى اتّساع الصدر تصخبُ حفلةُ الأشكال، زهزهة الجنائن، مندرينٌ هائجٌ ذهبٌ ورمّان ٌيرنُّ، وأشهبٌ يرنو وكحليٌّ كوخز الجرح، عشبيٌّ كلذعةِ غصنِ نعناع بكوب الشاي والأكمام في وهجٍ تجمَّعَ فوقه وهجٌ وأسرارٌ موزّعةٌ على كفّيك خافيةٌ وباديةٌ ومن زمنٍ إلى زمنٍ تزوغ من الزوال ولا تزولُ وسوادُ ثوبكِ إن حكى أوجاعَهُ أبكى العرائسَ والشيوخَ وذلك الغيمَ الذي يمشي جوار الله حسبَ هواه حتى لا يطيقَ الإكتنازَ بمائه فيسيلُ هذا حدادُكِ منذ كنتِ فأيُّ ذاكرةٍ تسير على التراب إذا مشيتِ وأي هولٍ إن عتبتِ على زمانكِ يا كريمةُ، وهو مقلالٌ بخيلُ من عهد كنعانَ البعيدِ ومن حكاياتِ الخرافةِ وهي تلمعُ كالذخيرة تحت توراةِ الحديد ومن خبيئاتِ الموانىء في سوادِ البحر والحراسُ نصفٌ في سُباتٍ دائمٍ، والنصف حولُ لم يبصروا الأولادَ مصرورين في صوف البطاطين القديمة والبغال تكاد تدمعُ وهي تحملهم وراء النهر والأقفاص تأخذهم بعيداً فوق موج البحر وانفرط المكانُ على الأماكن فجأةً لتضيعَ زينتُنا على الطرقات حتى ظَنَّنا الرائي قباحاً في الخيام ولم نكن بل إنه المنفى قبيحٌ، والرحيلُ التينُ والزيتونُ والبلد الأمينُ وشالُ رأسكِ، كحلُ عينيك الإلهيُّ القلاعُ الغامقاتُ رنينُ إبرتكِ التي وقعت على ليلٍ سهرتِ سواده وبياضه ومخدّةُ الغيم التي اتّكأت عليها قامةُ السرو المسافر في الأفقْ وخطى الضيوف صهيلُ حبِّ الهال ضوءُ البرتقالة حين مال الغصنُ وانتبه الشفقْ وبخورُ كهّان الجبال خطى الصحابيّين تربيتُ النخيل على القبابِ ورعشةُ الرُطَبِ الجنيِّ وشمسُكِ الأولى وبحرُكِ كيف زُجَّت كلّها في خيمةٍ والأزرق العينين يغزل أحجيات السحر صحراء وخضّرها/ فسبحان الذي لم يعرفِ الأشجار إلا منذ جاء الإشكنازيون من وارسو لتكسيرِ العظام على بيادرنا ليغمرَها حدادك والحقولُ متنا كما متنا، ونحيا مثلما نحيا ونعلمُ أن من يلقَ العذابَ كما لقينا سوف يصفنُ صفنةً، ويقولها إنّ الفلسطينيّ مخلوقٌ جميلُ ليلٌ ينوّرُ ليله الليليّ أكثرُ من قمرْ فعلى رقائقِ قبّة الذهبِ التي نعست، وما نامت، قمرْ وعلى أصابع ذلك الولد المحجّبِ قرب متراسٍ، قمرْ وعلى قميصِ البنتِ وهي تميلُ نازفةً، قمرْ وعلى جبينك حين تلتفتين للجنديِّ نافرةً، قمرْ وأكفُّنا بلهاثها الملهوف تدفعُ كلَّ بابٍ مغلقٍ والموتُ يلمعُ سنُّهُ المكسورُ في ضوء القمرْ وسوادُ ثوبِكِ صامتٌ، لكن كفَّكِ منذ أن قالت، تقولُ تدحو الفطائر كل عيد أو تزوّق للمواليد القماط وتمسح الأحزان والدم والبلاط وتعصر الزيتون في القفف المهولة تنسج الأزهار في ركن المخدّة للصغير وفي الصباح تشدّ شحمةَ أذنه وتعالج البللَ الغزيرَ على السرير تردُّ شالتها تعزّي في القتيل تردُّ شالتها وتذهب للتهاني تزرع الريحان في الشرفات تشغلها مقاديرُ الأرز وآخر الأخبار من جهة الفدائيّين والبنت التي حردت لأن حماتَها وصلت وأنباءُ الوفاق العالميّ ووجبةُ الغد والغسيلُ مُدّي يديكِ إلى المراسي النائيات جميعها لمّي الصناديقَ التي حملت صغارك في سواد الموج ربّيهم أعدّيهم ليوم الملك فكّي السحر والألغاز عنهم واجمعيهم مثلما جمعت يداكِ الزعترَ البريَّ في الصبح النظيف ومثلما علّمتِ إبرتَكِ الصغيرةَ أن تلملمَ شاردَ الألوان في أطرافِ ثوبكِ مثلما اجتمعت علاماتُ القيامةِ بين كفّكِ والأصابع وهي ترمي صبرَها في مقلعِ الصوّان ثم تهزّ أكتافَ الشوارعِ وهي تُقصي وهي تُدني وهي تحجبُ أو تنيلُ أنت الكنائسُ والكمائنُ والمساجدُ والمساجينُ الذين يراكضون زمانهم بالقيد أو بالقرفصاء وأنتِ من ماتوا على خط النهاية والمتاريسُ المقامة حولهم والفلُّ والفولاذُ أنتِ وأنتِ ما في الشوق من غضبٍ وأنتِ اليأسُ مكتملاً، يحاول أن يشدَّ غزالة الأمل الكبيرة من رؤوس قرونها أنتِ البقاءُ والابتداءُ وأنتِ أولُّ أمّهاتِ العيد بهجته ودمعته عمود الدار، والبالُ الطويلُ تمشين بين مسالكٍ فيها المهالكُ دانياتٌ والنجاةُ بعيدةٌ والخوفُ كالذئب الأليفِ بباب بيتكِ صامتٌ، متنعّمٌ بالشمس يغلقُ عينه، ويطلُّ بالأخرى عليكِ على خطاكِ، على نواياكِ الصغيرة فليكنْ! خفنا بما يكفي لنذكرَ كلَّ ما شاءوا لنا نسيانه خافي قليلاً ثم مرّي من نداءات الجدود إلى زقاقٍ فيه حصّة خوفهم خوف الغريب من المقيمِ وخوف زي العسكر الكاكي من الألوان تزحفُ في الطريق وخوف عيني قاتلٌ من أن يحدّقَ في ارتكابهما القتيلُ أنتِ انكشافُ الرأس في هذا العجاج بناره ودخانه مُرّي كأنّكِ كالبلاد تمرُّ بين عيونهم فلكِ الطريق لك الطرقْ ولكِ المكانُ على امتداد مكانه لكِ وخزُ كوعِ جنينِكِ المشتاقُ في جدرانِ بطنكِ للحياة بحلوها وبمُرّها لك قوّةُ الموتى الذين تأبّدت فيهم مطالبهم فلا أحدٌ يروّضُهم ولا أحدٌ يخوّفُهم ولا أحدٌ يضلُّلهم ولا أحدٌ يبدّلُ فكرةً سقطوا على دمها فإنّ الموتَ نوعٌ من عنادٍ خالدٍ لا يبرحُ الموتى وينتظرون، ينتظرون في صبرٍ طويلٍ لهثةَ العدّاء بالدمع الذي لا دمعَ يشبهُهُ، فمُرّي، ولتمرّي الآنَ، مُرّي بعد عامٍ، بعد أعوامٍ خذينا حيثما شاءت خطاكِ وحيث شئتِ وأينما أعطت يداكِ إشارةً فهي الإشارة، والقيادة، والدليلُ.
شاعر وكاتب فلسطيني، من مواليد مدينة رام الله عام 1944. تخرج البرغوثي في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بجامعة القاهرة عام 1967، ولم يتمكن من العودة إلى مدينته إلا بعد ذلك ...