(1) قُنفذان، أعمى ومبصرٌ، كانا يخرجان كلّ ليلة إلى مراعي العشب وبقع الماء المتخلف من رذاذ المطر، أخوّةً في القرابة وقسمةً للمحنة وكرم الربيع. كان من علامات العدل الجميل أن يصفَ المبصر للأعمى روعةَ الليل ونقوش السماء بالكواكب والنجوم ونعاسَ القمر الفضيّ بين أغصان الشجر وسجادات الوادي ومرايا الماء وجواهر الندى. وكان من آيات العرفان الجميل أن يُدندن الأعمى بآهات الدهشة والعجب وضربات الأقدام بإيقاعات الرقص والفرح. قال الأعمى: هل أصف لك الليل كما أراه؟ إنه السواد الجميل لصوتك العذب، وإنه الوضوح المدهش الذي يضيء المسافة بين الخطوة والموسيقى. قال المبصر: حقّاً.. كلّ وصف هو نصف الرؤية، وكل موصوف هو نسيج الكمال بين العمى والبصر. (2) كان هدهدٌ مُنتفشٌ في زركشات ريشه الملوّن وعُرفهِ التّيّاه يرقبُ الدودةَ المختبئة في الطين، قال: أكلمها عساها تأنسُ فتأمَن فتُقتنَص. رفرف إلى الأعالي وهوى كالحصاة الساقطة من السماء، وفي ومضةٍ بسطَ جناحيه وحطّ على أقرب غصن، قال: أيتها الدودة.. ما أجمل الأفق، فهلّا انسلَلتِ من ظلامِ طيفكِ إلى فضاء الضوء وحرية الهواء في احتفالية المروج؟! قالت: وأنت.. هلّا تذوّقتَ – مرّةً – حرية الحلم الجامع للكمون في الظلمة والانتظار الخلّاق؟! قال: لكِ وقت مقدورٌ بعده لا تكونين. قالت: ولك قدرٌ موقوتٌ بعده لا تكون. قال: بقاؤكِ في الطين لا يُنجي. قالت: وسياحاتُك في الأعالي ولو بلغْتَ الشمسَ – لا تحرّركَ. قال: إنْ سقطتُ فسأكون سماداً لشجرةِ وردةٍ تُزهرُ على الدوام. قالت: وأنا سأخرج بالموت من طَوْرِ العذراءِ فراشةً محوّمةً على مكامن الرحيق. (3) من زمنٍ قديم وأنا أعشقُ الصحراء وأحب الحياة فيها لبعض الوقت، ربما لأتذوّق صفاء الوحدة والتأمل والاستغراق في إطلاق الأسئلة لنفسي حول الحياة والإنسان والتاريخ، وربما لأتذوق الرهبة والخوف والاعتماد على النفس والاستغناء عن كل شيء إلا الكفاف وأقل القوت، حتى أعرف القيمة الكبرى لقطرةِ الماء وكسرة الخبز، وربما لأشاهد المدى المتسع بلا حدود أو علامات سوى أعشابٍ وأزهارٍ بريّةٍ، وحشرات وطيور نادرة، وكواكب ونجومٍ برّاقة وليلٍ مجهول وشمسٍ ملتهبةٍ وسرابٍ يتدفّق بوهم الماءِ كالطوفان. في إحدى زياراتي للصحراء قابلني رجلٌ غريبُ الهيئة والملبس، كأنه جاء من عصور قديمة، رقبته معوجّة كأنّها مكسورة، وكتفاه متهدّلان كأنه ينوء بحملهما، وسمعته يبكي، ويصيحُ بصوتٍ عالٍ ويحرّك يديه كأنه يخشى السقوط من مكان شديد الارتفاع. حينما رآني وقف متأوّهاً بالدهشة والرعب.. قلت له: هوّن عليك يا سيّدي.. فأنا عابر سبيل لا أبغي شرّاً بأحد.. اقترَبَ مني في ريبة، ونطق بكلماتٍ هي خليطٌ مهشّم من لغة أجنبية قديمة ميتة وكلمات غريبة لم يعد يستخدمها أحد، واستطعت أن أفهم منه أنه يُدعى "سنمار"، وأنه المهندس الرومي الذي بنى قصر "الخوَرنَق" للملك النعمان بن امرئ القيس منذ ما يزيد على ألفي عام. قلت له: أنت سنمار؟! إنني أعرف حكايتك، بعد أن أصبحتْ مثلاً وأمثولة يتناقلهما الناسُ جيلاً بعد جيل لإبداء الشفقة والعجب، وأعرف حكاية القصر الذي أبدعتَ في تصميمه وبنائه فأصبح فريداً لا يشبهه قصرٌ في الدنيا، وكان جزاء الإبداع وإتقان العمل أن رمى بك للملك من أعلى القصر، حتى تموت فلا تبني لأحد قصراً مثله، وسمعتُ أيضاً أنك وضعت في أساس القصر حجراً إذا نزعته من مكانه انهار القصر كله رُكاماً، فخاف الملك فقتلك. قال سنمار: بعد أن ألقى بي الملكُ وأعوانه من أعلى القصر، كُسرت رقبتي وتحطّم كتفاي وامتلأ جسدي بالجراح، وظن الجميع أنني متّ، ألقوا بجسدي في الصحراء، فحملني أعرابي كان يسير بجمله إلى خيمته البعيدة، عالجني وداوى جروحي وجبر كسوري حتى شفيت، ولما قلت للأعرابي أريد أن أبني لك قصراً أكافئُ به إحسانك إليّ ومداواتك لي، نظر الأعرابي إليّ كمن ينظر إلى مجنون، وقال وهو يستأنسني ويُغالبُ مخاوفه: ماذا أفعل بالقصر؟! لا الجمل سيرضى به ولا أنا، وقد يحيط به اللصوص وقطاع الطرق، أو يعرف الملك مكانه فيغتصبه، أو يزاحمني أصحاب القصور ويفتكون بي، وأخذ ينظر إليّ محاذراً خائفاً، حتى إذا طلع الصباح وقمتُ من النوم لم أجد الأعرابيّ ولا الجمل ولا الخيمة.. لقد تركني ومضى، ومن يومها وأنا أتجوَّل في الصحراوات باحثا عن قصر الملك النعمان لأنتزع الحجر السريّ من أساسه فينهار على من فيه، وعن الأعرابيّ لأبني له قصراً. (4) نافذةٌ ضيقةٌ عاليةٌ كأنها منديلٌ صغيرٌ يشفُّ عن زُرقة السماء البعيدة، يُحدّق خلالها الشاعر السجين في الزنزانة لعله يرى طائرا يرفرف أو ورقةً خضراء تحملها الريح أو غيمةً منسوجةً بالماء والبرق تحمل الخير والحياة من مكان إلى مكان. يطول به الوقتُ وهو يتذكّر أهله وأصدقاءَه، ويتقلّب ماضيه البعيدُ والقريبُ أمام أسئلته الغاضبة وذكرياته المتناقضة التي تتجدد وتتحوّل معانيها ويشتدُّ وهجُها، ويرى زرقة السماء عبر منديل النافذة العالية وهي تميلُ شيئاً فشيئاً إلى غُبْشةِ الغروب وقتامة الليل، فلا يكاد يرى إلا أثراً باهتاً لنجومٍ بعيدة قليلة العدد. قال لنفسه: أحصي هذه النجوم، وأترقب الليالي القادمة لأعرف هل يزداد عددها أم يقل أم يظل ثابتاً. هو لم يعُد يعرف تواريخ الأيام من الأسبوع أو الشهر. قال لنفسه: كانت مراقبة الإنسان للنجوم والكواكب وقراءة رقعة السماء وتغيراتها هما مفتاح المعرفة للفلك والزمن وعدد السنين والحساب، فاشغلْ نفسك بقراءة منديل النافذة، كأنك إنسان بدائي يحاول معرفة الأفلاك وسبْر أغوار الكون. فاجأهُ منديل الفضاء ذات غروب بما يشبه قلامة الظفر من فضة مشوبة باخضرار خفيف وصفرة لامعة، قلامة يكاد طرفاها يتماسّان برشاقة وعذوبة، وتكاد رهافتُها تُكمل دائرةً وهميّةً من الضوء. إنه الهلال الوليد البازغ، وعلى مقربة منه نجمةٌ أخذت تلتمع ببريقها الوهّاج. أحس الشاعر السجين أن زنزانته اتسعت، وأخذ يتذكر علاقته وعلاقة قريته البعيدة بالأهلّة وأطوار القمر، منذ إطلالته هكذا كقلامة الظفر ثم امتلاء قوسه المرهف شيئاً فشيئاً حتى يكتملَ ليصبحَ بدرَ التمام في استدارته الكاملة، ليعود مرّة أخرى إلى التناقص حتى المحاق والذوبان الكامل في الظلام. تذكّر المواسم والاحتفاليات والحكايات والخرافات المرتبطة بالقمر بين مولد ومحاق وكسوف، وعلاقة كل ذلك بالحياة في القرية. وبقصائد الشعراء والمغنين ولوحات الرسامين في مختلف الأمم والشعوب والحضارات. هزّ الشاعر السجين رأسه، وقال لنفسه: حقّاً.. بالعقل والخيال والتذكّر يخترق الإنسان حدود المكان والزمان فيتجوّل حرّاً في فضاء الكون وتقلُّبات الأزمنة. (5) لم أعُد أذكر أين أو متى قرأت أن شاعراً طاعناً في السنّ تلقى رسالة مع مبعوث من الإمبراطور يسأله فيها أن يتفضّل معزّزاً مكرّماً بزيارته في قصره بالعاصمة البعيدة، ليسعد برؤيته وليقدم له آيات التبجيل والاحترام التي يستحقها الشاعر عن جدارة، وليعترف له بأن إمبراطوريته شديدة الفخر والزهو بأن يكون من بين شعبها النبيل شاعرٌ في عظمته وسموّه. صرف الشاعر العجوزُ مبعوثَ الإمبراطور بأدب ورقة، قائلاً له إنه سيكون سعيداً بأن يبدأ السفر إلى العاصمة ليَشرُفَ بلقاء الإمبراطور بعد موسم الشتاء برياحه وثلوجه ولياليه المظلمة الطويلة، فقد وهنت عظامه واشتدّ عليه الكبر والضعف. أخذ الشاعر العجوز يتذكّر عدد المرات التي دُعي فيها لزيارة قصور حكام المقاطعات المختلفة في طول البلاد وعرضها، وألوان الإغراءات والتهديدات التي سمعها في هذه القصور ليكون حليفاً أو بوقَ دعايةٍ لهذا الحاكم ضدّ ذاك، وليناصر واحداً ضد آخر في مسلسل الحروب الأهلية المدمّر بين حكام المقاطعات.. بينما يقبع الإمبراطور في قصره الشامخ في العاصمة البعيدة، مكتفياً بما يدفعه حكام المقاطعات من أموال وعبيد وإماء وهدايا، وما يتزلّفُ به حاكم كلّ مقاطعة من أساليب النفاق والولاء الكاذب، وما يسرقونه من أخبار ملفّقة ضد الحكام الآخرين. وتذكّر الشاعر العجوز أيضاً مئات القصائد التي كتبها طول عمره وهو يستصرخ الحكّام والإمبراطور لمواجهة المظالم وبؤس الرعية واجتياح المجاعات والأوبئة، ومئات القصائد التي يصف فيها البلاد ويعلّم الشعب حب الطبيعة والخير وحرية المواطن والوطن، وكم سافر آلاف الأميال ليكون واسطة خير وسفير وحدةٍ وتضامن بين الإخوة المتقاتلين من أبناء الوطن وحكام المقاطعات. دعا الشاعرُ العجوزُ تلميذَه الأمين الذي يلازمه ويرعى شؤونه أن يشعل المصباح ويوقد المجمرة ويُهيئ الأقلام والأحبار والورق. قال الشاعر العجوز لنفسه: ماذا لو كتبتُ رسالةً وقصيدةً أُرسلهما للإمبراطور تنوبان عني في الحديث إليه! إنّ شتاء هذا العام قارسُ البرد وأشعر بوهن عظامي وضعفي الشديد، ربما لا أظلُّ حيّاً حتى أقابل الإمبراطور. أخذ الشاعر العجوز يستجمع شتات نفسه وشوارد أفكاره ليعيد ترتيبها وتنظيمها على مهلٍ واستغراقٍ في التأمل، وحين سرحت عيناه إلى ركن الغرفة، شدّ انتباهه نسيجٌ متينٌ مُحكمٌ لعنكبوتٍ كبير الحجم، والعنكبوت في جانب يترقب بصبر وتكتُّم وعيون دقيقة شديدة الالتماع، ثم رأى ذبابةً تطنُّ وتحوِّمُ حول النسيج صعوداً وهبوطاً، دوراناً منتظماً وغير منتظم، حتى لامستْ خيوطَ النسيج بجناحيْها فالتصقت بها لا تستطيع الفكاك والحراك، بل كانت كلما تحركت وحاولتْ الخلاصَ ازدادَ التصاقُها والتفافُ النسيج حولها، فتقدّم منها العنكبوتُ بهدوءٍ واطمئنان باردٍ، ليمتصّ دماءَها ببطء قاسٍ متمكّنٍ. غمغم الشاعر العجوز وهو يرى هذه الملحمة الصغيرة: هكذا إذن.. هكذا إذن.. قال التلميذُ الأمينُ: أيحتاج أستاذي شيئاً؟! قال الشاعر العجوز: أنا؟ .. كلا يا بني.. ولكن.. خذ الأوراق والأقلام والأحبار بعيداً، وأطفئ المصباح وغطِّ الجمرَ بالرّماد.. فقد حلَّ موعد نومي.. (6) قلت للرجل الذي يُضرَبُ به المثلُ على شدّة الشّره والطمع وحُمقِ التعجُّل في تحقيق الثراء المفاجئ: لماذا – حقا – ذبحت الدجاجة التي كانت تبيض لك كل يوم بيضةً من الذهب؟! لقد كانت تكافئ جهدك في إطعام الدجاجة ورعايتها، فلك منها كفايةُ الحاجة، وزيادةٌ تفيض فتصبح لك مع الأيام ثروة، فلا أنت تكفُّ عن العمل، ولا الأملُ في الثراء ينقطع، فأصبحت مثلاً يُضرَبُ وحكايةً تُروى: قال الرجل: وهل كنتُ أجهلُ ما ذكرتَ من قول؟ قلت: فلمَ إذن؟! قال: لقد وجدتُ أن أملي في الثراء قد أصبح بين يديّ، وانتظرتُ أن يملأ قلبي ثراءٌ في الأمل، فلم أجدْ حُلماً بثراءِ الآخرين من حولي، ولا أملاً يربطني بمن سيجيئون من أجيال الناس بعدي، وأخذ يطاردني في كل مكان بيتٌ من الشعر يقول: فلا نزلتْ عليّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظمُ البلادا فأحسست بوحشية العزلة تأكلني وتلتهم دوافع الحياة في نفسي، فذبحتها هرباً من أمل الثراء إلى ثراء الأمل. (7) أعرف أنني لم أدّخر جهداً ولا جهاداً، فبذلتُ من طاقتي وقوتي كلّ ما أستطيع، حتى تكون مائدتي حافلةً لك أيها الضيف – بأطيب ثمراتِ العمر. وعلى قدرِ خيالِك ستكشفُ وتعرفُ، وعلى قدرِ كرمك ستأخذ، وعلى قدر دفئكَ ستستريحُ في بيتي الذي لم يعُد لي بل هو لك، كلّ ما أرجوه منك – أيّها الضيف – أن تهيئ البيت للوليمة التي ستعدُّها لضيفٍ آخر سوف يؤنسُك بالزيارة..
ولد الشاعر محمد عفيفي مطر في قرية رملة الأنجب بمحافظة المنوفية في عام 1935م، وتخرج في كلية الآداب قسم الفلسفة، وعمل مدرسًا،ويعتبر محمد عفيفى مطر من أبرز شعراء جيل الستينات ...