يضحكُ متّكِئاً لا يرى غيرَ صورتِه في الطفولةِ.. كانت يدٌ في يدٍ، وأبوهُ يقودُ خُطاهُ على الليلِ والحربُ تقدَحُ في الرأسِ، والنازحون يخبُّونَ نحوَ الجنوبِ، إلى أن توسَّدَ كابوسَهُ كاملاً في العراءْ. يذْكُرُ أنَّ المخيَّمَ لم يتَّسِعْ قمَراً، فمشوا في الرمالْ، والوحْلُ مأكَلُهُم في الصباحِ مع الحسراتِ، ومشرَبُهم في العِشاءِ. وصادَفَ أنَّ الربيعَ رمادٌ لبعضِ العيونِ، وقد يسرقُ الجَفنُ عينَ الغزالِ، وقد يتوقَّفُ في عتمةٍ من عَماءْ. لم يتزوّجْ إلى أن تجرّأَ بعد الثلاثينَ، من جارةٍ فقدت ساقَها بالشظايا، فكانت بعكّازها تذرعُ الغرفتَينِ، فيعرف، بالصوت، أين تروحُ وأين تجيءُ، كأنَّ المواجعَ بُوصلةٌ للنداءِ. وصارَ له صِبْيَةٌ صاخبونَ، فيهجسُ: يكبرُ أولادُنا، فنعودُ إلى البيتِ. هذا الصفيحُ المؤقَّتُ، لن يحجبَ الدربَ عن قريةٍ بقيَتْ بين أشجارِها للغناءِ. وقد كَبروا كلُّهم، غير أن الدروبَ توزِّعُ مَن هاجَروا في البعيدِ، فظلَّ وحيداً، إلى جانب امرأةٍ في الخواتيمِ، باتَ لهم منزلٌ في الضواحي، وما عادَ يَرْفَعُ فوقَ المآذِنِ صوتَ البلابلِ، قد هدَّموا الجامعَ اللبنيَّ بآخر حربٍ، فصار يُصَلّي وحيداً، وثمَّةَ دمعٌ نبيٌّ يُبَلِّلُ لحيتَهُ بالدعاءِ. وقبل الحروب الثلاثِ؛ تراهُ يُفَكِّكُ أخبارَ مذياعِهِ، ثم يبكي، فقد أدركَتْهُ الرؤى، فالرُعاةُ يبيعونَ أغنامَهم للذئابِ، ولم يبْقَ غيرُ النّباحِ المدجَّجِ، إنْ طاشَ فوق السرابِ على كَذِبٍ، بالعواءِ. يُنادي على كلِّ أبنائِهِ الغائبينَ، فتبكي العجوزُ على خَرَفٍ هَفَّ في عقْلِهِ، غيرَ أنَّ النداءَ اشتياقٌ، ورغبةُ جَدٍّ ليحضِنَ أحفادَه الغامضين، قُبَيْلَ الذَّهابِ إلى غفوةٍ في الفناءْ. تقولُ العجوزُ لجاراتها، ذات عصرٍ، وشَهدُ الغروبِ يذوبُ على أُفُقٍ في الفضاءِ: تزوَّجْتُ، وانتَظَرَ الزوجُ تفاحةَ الرَّحِمِ المشتهاةِ، ولكنها سقَطَتْ في الطريقِ، وبعد ثلاثِ سنينَ، سمِعْتُ مع الفجر زوجي يناجي الإلهَ.. انكسرتُ، ولكنني رُحْتُ للبحر، خاطَبْتُهُ، وانغمَسْتُ بأزرَقِهِ، وارتميتُ على شاطئ النخلتينِ، غفوتُ، ومرّتْ شهورٌ تكوّرْتُ فيها، ابتهجتُ، فَرَبَّتَ زوجي على أمِّ رأسي، وحين تفاجأتُ بالوضْعِ جاءَ المخاضُ بطفلٍ له طلعةُ الشمسِ ما بينَ ماءٍ وماءْ. وقالت: شهدتُ بعينيَّ، في ليلةٍ ذاتِ نجمٍ يتيمٍ، بأنّ غريباً تسلّل للدارِ، قلتُ: سأمنَعُهُ، كان زوجي مريضاً، ويكتُمُ آهاتِهِ في المواقدِ، فتّحتُ بابي، فطالَعَني البحرُ يحملُ باقةَ وردٍ ويضحكُ.. ساءلتُه، فأجاب: لقد جاء سرّاً يعودُ المريضَ، وينْثُرُ سُكّرَهُ للمساءِ. وتسألُ: يا مَن ترى العشبَ بين الأصابعِ، كيف تبرْعَمَ رُمّانُ ناصيةٍ في الجحيم؟ وبستانُ نارٍ تجلّى شقائقَ ضوءٍ؟ وسالَتْ على فضّةِ النورِ أرواحُ مَن صعدوا للخلودِ، وظلّوا على صخرةٍ في السماءْ؟ كان لنا مقعدان من القشِّ، نشربُ شاياً، ويأتي العديدُ من الأصدقاء، نردُّ السلامَ على الذاهبينَ، ويفترشُ البدرُ شارعَنا، ثم نعبرُ في آخرِ الليلِ للنومِ، والصبيةُ اللاعبون على ملعبِ الحربِ.. حتى ترى بينهم قاتلاً لا يموتُ، وبضعةَ مَن سقطوا بالرصاصِ.. ولا زال ليلُ المخيَّمِ يحملُ عصفورَهُ للدماءْ. وأذْكُرُ أني شَغُفْتُ بإحدى الليالي، فألصقْتُ خَدّي على صدْرِهِ، فانثنى مثلَ فَحْلِ الحَمامِ، وفَحَّ على لَفحةٍ من غواءْ.. وتمتَمَ: هل أنتِ سمراءُ مثلُ القرنفُلِ؟ أمْ مثلُ بدرِ التمامِ وصحنِ اللباءْ؟ ضحكتُ، ونِمْتُ، ولمّا يَزَلْ سائلاً عن ملامحِ وجهي، وينْفُثُ فضَّتَهُ في الهواء. أقولُ لَهُ: إن كفّيكَ تعرِفُ خارطَتي، في طرائقها للحنانِ، وتقرأُ ما تحت جلدي، فَصِفْني إذا ما استطعتَ، فقال: أيا عسلاً قد تجمَّدَ في جرّةِ الطّينِ، يا بابَ قلبِ السجينِ، أحبُّكِ من أول الشهرِ حتى بلوغِ الثلاثينَ، إنْ كنتُ داءً فأنتِ الدواءُ.. ويضحكُ، قلتُ: كفى، أنتَ شيخٌ كبيرٌ، وليس لنا فسحةٌ في الشقاءْ.. فيهزأُ منّي: أنا حاصدُ السنبلاتِ اللواتي أمَلْنَ قلوبَ السِّباعِ، وصائدُ قُبّرةِ الأشقياءْ. وكنتُ زرعتُ على مدخل الدار داليَةً، كي يكونَ المخيّمُ أخضرَ، ينقلني للبلادِ، وأنْبَتُّ ريحانةً كي تكونَ الوسائدُ عابقةً بالحَبَقْ. كان زوجيَ يَشْتَمُّ رائحةً حين يعبرُ، ثم يمدُّ يداً في الفراغ، ليقطفَ أوراقَها، غير أنّ الأصيصَ تمرَّغَ في كفِّه أو نَطَقْ. ربّما اختَلَجَ الشيخُ، أو هزَّ رأساً، فقلتُ؛ لقد غصَّ بالمِلْحِ من دمْعِهِ واختَنَقْ. ظلَّ يرمقُني ثمّ عاتَبَني أنّني عُدْتُ، حيثُ الممرُّ الطويلُ إلى بيتِهِ، حين كان يُلاحِقُ بعضَ الفراشاتِ، حتى إذا هبَطَتْ فوق غصنٍ، سترجِعُ كفّاهُ مثل اللهيب.. فَثمّة ما مسَّهُ، فاحتَرَقْ. وألحَظُ أن الكبارَ يموتون، إن سقطوا تحت سُلَّمِهم في البكاء. لقد حرَّمَ البرتقالَ على نفسِهِ، ثمّ أقسم ألّا نُعاقِرَهُ، فأقول له: إنّ أطفالَنا يرغبونَ بِهِ، ثم قد لا نعودُ إلى قريةٍ هدّموها.. فيصرخ، مثل الذي لدّغَته الأفاعي: تقولينَ ماذا؟ .. جنونٌ أصابَكِ، أمْ لوثةٌ مِن هراءْ..! عشرُ حروبٍ، وما فتئَ الشيخُ يصدَعُ نحو الشمالِ، ليجمَعَ أنفاسَ زهرٍ يجنّحُ بين البيوتِ، ويعبُرُ زفّةَ طيرٍ، وتحمِلُهُ ضِحْكَةُ الكَستناء.. كانَ يسألُ عن عَدَدِ الطائراتِ، وعمّا تُسَوّيهِ بالقاعِ، ثمَّ يصيحُ؛ لماذا تغيبُ النياشينُ عن صدْرِها؟ إنّ هذا المقدَّسَ ليس لنا وحدنا! إنه قُبّةٌ للرباط كما كان محرابَ بَسملةِ الأنبياءْ. لا بأسَ من هدمِ بيتٍ وسجنٍ، لكي لا نكون عبيداً، فلا دربَ غير الخيول لنبلغَ ما شاءتِ الأرضُ، أو ما يشاءُ السَناءْ. عشْرُ حروبٍ، ويبقى على مقعدِ الانتظارِ، وإن قصَفوا كلَّ شيءٍ، فلا يتزحزحُ عن مطرحٍ ثابتٍ.. إنْ وصْلتَهُ القنابلُ يبقى على شُرْفَةِ البحْرِ، لا شيءَ في بالِهِ غيرُ عودَتِهِ، أو يموتُ كما الآخرين.. وتبقى العجوزُ.. تقول: سنبقى معاً، أو نروحُ معاً، فليس لديهِ، وليس لديَّ، سوى أن نُعانِقَ في لحظةٍ ما يُجمِّعُنا للبقاءْ. ويوم انتهى القصفُ؛ كان هنالك رأسانِ يحترقانِ، وبعضُ عظامٍ، وعكازتانِ، وشيءٌ كثيفٌ ترمَّدَ وسْطَ الرُّكامِ، وصوتٌ ينادي على الغائبين: تعالوا لغزّةَ، ثم احملونا لنُدْفَنَ حيثُ ولِدْنا، أو احتَشِدوا.. جمِّعوا ما تبقّى من اللحمِ مُحتَرِقاً، وانثروهُ على الموجِ، حتى يُضَفْضِفَ للساحلِ الجبليّ، وتبقى لنا وردةٌ في العَزاء.
لمتوكل طه أو المتوكل سعيد عمر شاعر فلسطيني من مدينة قلقيلية، مواليد عام 958، تلقى الشعر عن والده الشاعر سعيد بكر طه.
حصل على دكتوراه في الآداب، وعلى الماجستير في الأدب ...