(1) شجرٌ لَيْليٌّ يتخلَّلُهُ الثلجُ كأن العتمةَ قد رسمت حَقْلاً فوق حليبٍ يدْفقُ في الضوضاءْ. *** وامرأةٌ، واسعةُ العينين، ستحملُ، مثلَ الجّرةِ، قريتَها النائمةَ على الرأسِ، وقد وقفتْ! إذ أنّ عيوناً تنظرها، أو كاميرا تصطادُ ملابسَها، لكنّ الأقراطَ الفضيّةَ تتراقصُ.. دون حياءْ. *** ورجالٌ منحوتون من الصمتِ، وبين الأقدامِ سنابلُ قمحٍ فارِعةٌ.. قد يتراءى فوقَ رؤوسِ القومِ يمامةُ بيتٍ تَرْقُبُ أحجاراً، أخَذَتْ شكلَ الناسِ المتروكينَ بلا أسمالٍ أو أسماءْ. *** وامرأةٌ أخرى تغفو، والوردةُ تصحو في يدِها، تحضن ضوءاً رَنَّقَ نهرَ مفاتِنها النائمةِ.. وما فتِئَ المشهدُ، من ذَهَبٍ، يسعى بين سفوح القريةِ، في أُفُقٍ لا حدَّ لَهُ في الأرجاءْ. *** وفي قلبِ العتمةِ يمشي رجلٌ مِنْ زَرَدٍ يتصادى، هل كان سجيناً أم أنَّ سلاسلَهُ صَدِئَتْ وهو يدورُ بها في الصمتِ الملغومِ، وقد جعّدَهُ الأسوَدُ، فمضى.. دون دليلٍ في الأرضِ الخرساءْ. *** جدارٌ خطّ عليه الأطفالُ رسوماً قانيةَ اللونِ، تسيلُ من الحيطانِ، ولم يتبقَّ سِوى النافذةِ المرشوقةِ بدمِ الطيرِ، فضاعَ الأزرقُ أو غابَ الصوتُ ورَسْمٌّ من فَرحِ الحِنّاء. *** وأما عازفةُ النّايِ فقد غَفَلتْ عن صوتِ الدّيكِ.. لقد غطّى ما قالته أصابعُها للريحِ.. وخلفَ البابِ الموصَدِ وجهٌ ذو عينٍ واحدةٍ تتلهّى بالظُلْمَةِ! لا أنفَ ولا وجهَ.. ظلالٌ تتلاشى مثلُ الأشباح المفزوعةِ، والنائمُ طفلٌ، يُمْسِكُ ممحاةً سقطتْ من يدهِ، وحروفٌ غامضةٌ دون نقاطٍ تَسْقُطُ مثل لحافٍ ليُغَطّي عُرْيَ براءَتهِ، وقريبٌ منه هلالٌ يعلو، وغيومٌ مثلُ الأطيارِ الوحشيةِ، والموجةُ طاميةٌ، ستطيحُ براقصةٍ رعناءْ. *** وهل هذا كِيْسٌ ممتلئٌ بصفائح تِبْرٍ أم خيمةُ غرباءٍ؟ أم فُسطاطٌ لعَزاءٍ مفتوحٍ؟ ولماذا يصرخ ذاك الوجهُ الغائمُ؟ .. وبعيداً، خلف الالوانِ الكابيةِ، الرُّمّانةُ تركبُ سَرجَ البَرْقِ فتكشفُ زهَرَته السوداءْ.. *** ومَن هذا؟ ولماذا يتلعثمُ؟ هل يحملُ منجلَه أم آلةَ قتلٍ؟ ويَرِفٌّ بجانبه صقرٌ يتوهّجُ! مَنْ هذا الثائرُ؟ هل قتلَ أَمْ اصطادَ؟ وهل ينوي مجزرةً أخرى للغرباءْ؟ *** وامرأةٌ ثالثةٌ تستلقي فوق بساطٍ طرّزهُ النسّاجونَ بكلِّ زُهورِ الغابةِ.. وهنالك مَن يمشي نحو البابِ، ولم يظهرْ منه سوى الكفيّن المعقودين وراءَ الظَهْرِ.. وأقواسٌ هائلةٌ، يبدو أن القومَ أقاموها، لتكون القصرَ الأكبرَ، لكنَّ الأحجارَ العاليةَ تضجّ فراغاً.. أو ثمة ما يتراءى خلفَ الألوانِ الباهتةِ، هل هُمْ بشرٌ؟! كيف لهم أن يبقوا في هذا البَهْوِ الفارهِ! فالدَرَجُ تحطّم وتآكَلَ وتهاوى.. والشجرُ تكسَّرَ من ريحٍ عاتيةٍ ما زالت تعوي في الأنحاءْ. *** وله أسجدُ، وأُقَبّلُ تلكَ الأحرفَ، تشرحُ لي صدري، وتُيَسِّرُ أَمْري، وأكادُ أذوبُ بها ولها، ويقيني أن الضوءَ الأزليَّ سيحفظني من آثامي وشروري، والدمعةُ ساخنةٌ تلمعُ وتُناجي الأسماءَ الأسماءْ. لكنَّ امرأةً تتسلّقُ جدراني وتنامُ على صدري، وتناغي عصفوري.. ماذا أفعلُ، والقبّةُ بيضاءْ. أكادُ أُجنّ بهذا العاجِ.. ارحمني يا مَنْ ترحمُ مفتوناً هامَ.. وما عاد مع القُطْعانِ، وقالوا؛ ارحمْ أشعارَكَ، يا مَنْ ضيّعكَ الحُسْنُ، وغادِرْ كُثبانَ العشقِ عسى أن تمنحَ قيسَ الصوفيينَ الماءْ.. *** وما زال المشهدُ مفتوحاً لمزيدٍ من ألوانٍ تُوقِظُ فينا المُبْهَمَ أو تبعثَ ناراً في الأشياء. (2) العجائبُ لا تتكررْ! فانتَبِهْ! إنْ تبصَّرْتَ فيما يُمَثِّلُه الطينُ، واحرِصْ على أنْ ترى المُتَشابهَ في كلِّ شيءٍ، ولا تتبأّر عميقاً بنرجسةٍ في الشتاء، ولا تركب الأرضَ ريحاً.. فتخسرْ! إنّ العجائبَ ما كان خلفَ الوجوهِ.. وأَكثرْ! (3) قطيفةُ لحمٍ، أصغرُ من كفِّ صبيٍّ، ذات فراءٍ، تكمنُ بين عمودين من النورِ، فكيف لهذا المتكلِّسِ منذُ مئاتِ الأعوامِ، وقد هَرّ اللحمُ عن العظمِ لأنْ يبعثَ عينيه هنالك، حيثُ الموقدةُ الصغرى؟ تحنَّطَ، وتغضّنَ، وتلاشى، لكنَّ النار ستوقظه، فتحرَّكَ، أو حاولَ أنْ يمشي.. فتهدّمَ وتناثرَ والجمرةُ لا تُلقي بالاً للأغراب. *** أساورُ في رُسْغِ البنتِ، وأفعى ترعشُ في الصدرِ، وصوتُ هَسيسٍ للخُلخالِ.. ولا موسيقى كي تُوقِعَها في الموجِ، ولا كفٌّ تشحذُ أردافَ الغزلان، لها نهرٌ يتدفّق فيها، وحصانٌ يصهلُ، وشتاءٌ رعديٌّ يملأ أحشاءَ الميزاب. *** الصورةُ فوقَ الحائطِ؛ جدٌّ يجلسُ، وفتاةٌ تحدسُ، وصغير ينبسُ.. والبلّورُ وفيّاً للألوانِ، ولمّا ينظرُ أيُّ منهم للصورةِ! قد غابَ الجَمْعُ، تفرّق شَملُ المرصوفين، وعادوا من خلفِ الأبوابْ. *** أنيابٌ شائخةٌ صفراءُ، وثمّةَ خيطٌ دمويٌ، يتقاطرُ من شَفةٍ سوداءٍ.. والنارُ ستندلعُ قريباً في الرُّعبِ المهجورِ، لتحرقَ سكّانَ الليلِ.. ويبقى هذا البيتُ خرابْ. *** كيف ستكتبُ فوق السّبّورةِ؟ بيضاءُ تماماً، والطبشورُ تناثَرَ.. والذرّاتُ ستُعشي عينيكَ! وكيف ستقرأُ؟ وعلى مَن سَتُردّدُ أحرفَكَ المَمحوّةَ؟ هل بقيَ الحِبرُ؟ وهل أرجعتَ دَواةَ الدمعِ؟ وهل ما زال لديكَ كتابْ؟! (4) هل لَهُمْ خبرٌ في الحكايةْ.. وأنا المُبتَدأ. لقد شاءَ مَنْ أبدعَ السابحاتِ المجرّاتِ أنْ أتجلّى.. وما زال جبريلُ يفردُ ريشَ الشروقِ، ولكنَّ مَنْ أوغلوا في الحجارةِ قالوا؛ "صَبَأ"! تَقَوَّلَ شِعراً.. أو مَسَّهُ اللهبُ البابليُّ.. وقالوا؛ لقد تاهَ طيرُ السماءِ وَحُقَّ له أنْ يَجيءَ إلى آخرٍ.. بالنبأْ! لقد جحدوا.. ليَ السِبْطُ من قمرٍ فاطميٍّ ليَ الصِّهرُ، من شرقِ نخلِ الحجازِ إلى كَرْمَةٍ في سبأْ.. وليس لِكِسْرَى دمٌ في وريدي.. ولستُ النبيَّ الخَطأْ. (5) سفنُ الصحراءِ استشراقٌ فوقيُّ، في الغالبِ.. لكنَّ القافلةَ هنا ستسيرُ بكلّ حمولتها، والحرّاسُ يخبّون، وفيهم ينتبه النسرُ إذا ما فحّ العربيدُ ولاحَ غبارْ.. وقافلةٌ أخرى تَتْرى، دون ملامحَ، قد ضاعت في العاصفةِ، وإنْ هبّت منذ الفجر، فقد آن لها أن تَصِلَ الآنَ مع الإعصارْ.. ونورٌ خَشِنٌ بين الطبقاتِ يُباعِدُ بين الريح وبين النارْ.. وثمّة ما غاب عن اللوحةِ؛ كلبُ القافلةِ اللاهثُ، والحزنُ على وجهِ الحادي، وضياءُ نَبيٍّ يتَخَفّى خلفَ الأستارْ. *** بركانٌ يصّاعدُ أم تلك جدائلُها الحمراءُ؟ ومَن زاوجَ بين الحِمَمِ الذائبةِ وهذا الشَعرِ الوحشيِّ؟ وأين الجسدُ الجبليُّ، لماذا غابَ وراء ضفائرِهِ الناريةِ؟ كيف احتملَ ضراوةَ هذا المنعوفِ المَوّار؟ أراني مثلَ الرّسامِ.. أحارْ! *** أسماكٌ ذاتُ قوائمَ تمشي في الطرقاتِ، لها ذيلُ عروسِ البحرِ، وعينُ غزالْ، وأُخرى ذاتُ جناحين تطيرُ، وتخفقُ بالقوسِ على الأدغالْ.. ويبدو أن الريشةَ قد أربكها الحالْ، فقد جاءتْ بالبحرِ لتكشفَ بالموجِ الأسرارْ. *** امرأةٌ تتمطّى مثلَ التمساحِ، على جُرْفٍ صخريٍّ، وذراعٌ تعبثُ بالماءِ المغرورِ، وتُوقِفُ بأصابعِها القاربَ، وتخطُّ طريقاً وسط الزُّرْقةِ.. والنورسُ حطَّ على ظَهْرِ المرأةِ.. هذا نصفُ اللوحةِ، أما النصف الثاني؛ فارتفع الماءُ وغَرِقَ القاربُ واهتاجَ الطائرُ.. والتيّارْ. *** وجهانِ بِفَمٍّ واحد! سمراءُ وشقراءُ.. وإلّا قُلنا هذي لُعْبَةُ مرآةٍ.. فالحاجِبُ غيرُ الحاجِبِ، والرمشُ صقيلٌ، وقصيرٌ، فلماذا أطبقتا بشفاهٍ تتوَثَّبُ؟ هل نسيَ الرسّامُ البارعُ أنْ يُغلقَ عَينيّ الرّغبةِ؟ أم أنَّ القُبْلةَ تُضْمرُ ثلجاً في الأزهار؟ *** صورةُ جدّي ما فَتِئَتْ في البيتِ، وما زال فتيّاً، يبتسمُ، ويبدو مَلِكاً ريفيّاً. تجرّأتِ الأعوامُ عليهِ؛ فَماتَ.. ولم تهرمْ صورتُهُ! ..هاجَرَ، واشتعلَ الرأسُ هموماً، شاخَ وناخَ.. وما عادَ إلى الدارْ! .. وما زال اللاجيءُ فوق جدارْ. *** عاريةٌ فارعةٌ واقفةٌ، تحملُ ثَدْيَيْها بيديها، وملامِحُها لا تُنْبئُ عن شئٍ، لكنَّ مُرُوجاً ممرعةً تنهضُ خلفَ الصَّدْرِ، ويسير الجدولُ بحليبٍ بين الأشجارْ.. وأسألُ: مَن هذي الرَّبَّةُ؟ فيقولُ اللونُ: أنا عشتارْ! *** السُّبْحةُ سِلْسِلَةٌ من خَرَزٍ أملَسَ، والمرأةُ تعبثُ بالحَبّاتِ، وتُلْقيها مثلَ الأفعى حول أصابعِها، وتلفّ بها، تُحصيها، وتطقطقُ.. وتعيدُ المَشْهدَ؛ كيف انهدمتْ في الليلِ الأسوار! *** النُوتَةُ نَملٌ حَطّ على ورقٍ، والعازفُ ينظرُ، يطوي الصفحاتِ، ويلهج بأصابعه، فيفورُ اللّحنُ من الجيتارْ. والنوتةُ ما تركتهُ النَّحلةُ للجَوْقَةِ؛ كيف سترسمُ دربَ العودةِ للأوتارْ. والنوتةُ نبضُ الأبْكمِ.. لم يعرفْ كيف يقولُ؛ "أُحِبّكِ" يا امرأةً..! .. فاسَّاقطَ من فَمهِ النَّوّارْ. (6) حبّتانِ من الزجاجِ الأشقرِ البُنّيِّ في وَسطِ المسافةِ، تسكُنانْ! لكنّ عنقودَ البياضِ يقولُ: لا.. هذا زبيبُ النارِ، يدْفقُ بالِّلباءِ إذا ترنّمَتِ الشفاهُ على سواحِلِهِ.. وفَزَّ النائِمانْ. ويقولُ مخمورٌ برائحةِ الحليبِ؛ أنامُ في نَهرِ الخطيئةِ، ثمّ أصحو كَي أُقبِّلَ قُبَّتينِ؛ وحينَ ألْمَسُ نبتةَ الكافورِ أرجعُ.. إذ أُحِسُّ بأنَّ تمثالَ العذوبةِ قد يذوبُ، وإنْ ظَلِلْتُ فَسوفَ أقضِمُها.. ويبقى وَمْضُها بين الثَّنيَّةِ واللسانْ. وأعودُ، أنظرُ.. يا لها من جَمْرةٍ! لكنّها لم تُشْعلِ الثوبَ الذي غطّى جهنّمَ بالحَنانْ. (7) كأنّ لها الآنَ عشرَ أيادٍ، وخمسينَ عيناً، وفيها جداولُ تنبعُ من قلبِها، أو سهولٌ من القمحِ والزّيتْ! لم أَرَها آكِلَةْ.. لم أَرها ساهِمةْ! فهيَ كلُّ الذي كان في البيتْ! والبيت.. حين أعودُ أرى كلَّ ما فيه مَيْتْ! لا صوتَ، لا نارَ، لا ماءَ، لا طيرَ، لا وجهَ، لا إخوةً حول مائدةِ العيدِ، لا أخواتٍ.. فأرجعُ.. يسألني بعضُ دمعي: لماذا أتيتْ؟ أقولُ: لعلّي أرى ولداً كان يغفو وتحضنُه أُمُّهُ النائِمةْ. (8) ما زالت الأشجارُ تُلقي ظِلَّها وغصونَها حولَ الصغيرَينِ اللذيْن تعانقا.. ولرُبّما ناما! ولم يستيقظا، إلّا على صوت المُؤَذِّن للعِشاءْ. ولرُبّما هربَ الصغيرُ، فكان أن فُتِحَتْ شبابيكُ السماءْ. ولرُبّما عادَ الرّعاةُ، ولم يَزَلْ في النّايِ قنديلٌ يَحِنُّ إلى المساءْ. ولرُبّما لمّا أَمُرُّ؛ أشمُّ رائحةَ البنفسجِ في الهواءْ. (9) كان يُؤْنِسُ الطريقَ، مُطرِقاً بما مضى، أو شاخِصاً بنجمةِ النهارِ، أو يردُّ ألفَ "مرحباً" أو السلامْ. لا يحبُّ أن يَرى الرجالَ عابسينْ، بلْ عائدينَ من حقولهِمْ، وفي جبينهِمْ يَراعةٌ.. والطينُ في الأكمامْ. ويكرهُ التشبيهَ في الكلامْ.. لكنّه.. يتوقُ للقصائدِ التي تذوبُ كالغمامْ وتقتلُ اليمامْ.. ويعشقُ الغَزَلْ. وقد يتابعُ الطيورَ في مشوارهِ، وربّما بكى لضَيْعةِ القطوف! والشايُ ساخنٌ أمامَه. "تفضّلوا" يقولُ للذين يقطعون دربَه، كأنه مُكرّسٌ لدعوةِ الوجوهِ، كي يَصُبَّ في كاساتِها أيامَه! وكَمْ سَمِعْتُه يقولُ: هل أنا.. أم أنتمُ الضيوفْ؟ فالضيوفُ يشربون شايَهُم على عَجلْ، ويضرِبُ المَثَلْ. ويكرهُ الصغارَ حين يلعبونَ حولَه، كأنه يريد أن يرى ما لا يُرى في الصمتِ، أو يُبادِلُ الأحزانَ بالأَمَلْ. وكلّما مررتُ قُرْبَه، أُقبِّل اليدين، ثمّ أنحني لأَشرَبَ العَسَلْ! يداه نحلتان.. يهشُّ بعضَ ما يطِنّ قُرْبَ رأسِه، ويَلعنُ الظروفْ.. ولم أعدْ أرى إبريقَه ووجهَه وعنبراً يفوحُ في الكفوفْ! لقد مضى! يقول شارعٌ يبكي على صديقهِ.. قد راح آخرُ الإيقاعْ.. وماتتِ الدُّفوفْ. (10) الصّيادُ على مَهَلٍ يضحكُ.. إذْ أَطْلَقَ طائِرَهُ الباشقَ ليجيءَ بِكلِّ الصُّورِ.. وعادَ سعيداً مثل الماردْ. كان يُصَفِّرُ مبتهجاً.. فلدَيْهِ الآنَ حكاياتٌ للناسِ، إذا ما اجتمعوا حول مَجامِرِه في الليلِ الباردْ. .. وارتَعدَ الشاعرُ! مزّقَ كشكولَ الإيقاعِ، وأيقنَ أنّ المشهدَ قد ضاعَ! فَلم يبقَ له في الناسِ سوى الوَحْشَةِ.. ولهذا؛ إنْ كَتبَ فراغاً.. فَسَيقْرأُ للعَدَمِ الشّاهِدْ. (11) ننظرُ من فَتحةٍ، ثم نسمعُ شَرْحاً عن الحربِ؛ والفارسُ الفذُّ ذو شاربٍ من غَضَبْ! لم يكن "الزِّيرُ" فَحْلاً ولَكِنْ لهُ سيفُهُ.. من ذَهَبْ. كانت الخيلُ باهتةَ الشكلِ، تركضُ عرجاءَ، أو أنّ إيقاعَها ضاعَ ما بين حِبْرٍ قديمٍ وترنيمةٍ من خَبَبْ. ولمّا كَبِرنا اكتشفنا بأنّ الحروبَ التي حولنا مِنْ تصاويرَ صندوقِ وَهْمٍ.. وما من عَجَبْ! فكلُّ المشاهِدِ من حركاتِ الرُّسومِ، وصندوقُنا من خَشبْ. (12) ليس لدى الشمس غير الذي في يديَّ من العطرِ.. من زهرةِ الكستناءْ. وليس لنا في الرياحِ سوى ما تصادى من الإنكسارِ وعودتِنا للهَباء. وليس لنا الآنَ إلاّ التبصُّرُ في الهاوياتِ، لنحفظَ بعضَ الذي ظَلَّ من دَمِنا في العراءْ.. وأنّ نكسر الغولَ والصمتَ والمحفلَ البابليَّ.. لتبقى لنا الأرضُ قُدْساً ومهداً ومملكةً للضياءْ. (13) يُمَسِّدُ أوراقَ التِّينةِ، يلثمُ بُرْعُمَها، ويُعانِقُها حتى يتَّحِدا.. في الصيفِ؛ سيحملُ سَلّةَ قَشٍّ تشهقُ بالحَبِّ العسليِّ، ويمضي بِغرورٍ هشٍّ.. فتَضِجُّ البلدةُ بالأيتامْ. *** خمسُ بناتٍ أمضينَ الليلةَ في السَّكَنِ المهجورِ، وأحضرنَ نَباتاً سِرّياً وشراباً يحرقُ، وخَلَعنَ غلالاتِ الغيمِ.. ولمّا أصبحنَ؛ تذكَّرنَ أصابعَ سَفّودٍ، وشفاهاً وصلتْ لنخاعِ الظَهْرِ.. وأَجْمَعْنَ على تكرارِ الّلُعبةِ.. دون كلامْ. *** العبثُ ضروريٌ حتى نَصِلَ إلى بستانِ الشيطانِ، ونخرجَ دونَ التفّاحةِ، ونرى آدمَ في الفردوسِ، يُراقِبُ مَنْ راحتْ، دون أفاعيها، للأحلامْ. (14) يمضي نحو الأشجارِ العاريةِ، تماماً مثلَ أميرٍ مهزومٍ، دون حصانٍ.. لم نلْحظْ منه سوى الأكتافِ، وخيطِ دمٍ يتبعُهُ.. والدائرةُ السوداءُ هي الصوتُ الباقي من معركةٍ خاسرةٍ أو رابحةٍ.. فسواءٌ بسواءْ.. فالنصْرُ هزيمتُهُ الحمقاءْ. (15) امرأةٌ تبحثُ عن "إيغون شيلي" كي يرسُمَها! ترغبُ أن تبدو عاريةً، ولهذا أبْقَتْ عانتَها في البَرِّ، وجاءتْ بطيورٍ تحتَ الإبِطَيْنِ، وألقتْ بالحمّالةِ في الريحِ.. و"شيلي" ينظرُ، ثانيةً، في لوحاتٍ ناقصةٍ.. ما الناقصُ يا "إيغون"؟! ثمّةَ ألمٌ.. لا يظهرُ في العينين! *** سبايا بسلاسلَ.. عاريةٌ لا تخجلُ من كَشْفِ الصدرِ أو الفَخِذَين! والفنانةُ؛ عيناها السوداوان تغطّي فتحةَ نهديها.. ولهذا؛ لم يَنْتَبِهَ الرّائي أن الرّغبةَ في الشفتين. (16) لا أجملَ من جسدٍ عارٍ! فلماذا تتكوّمُ أجسادُ النسوةِ، دون حراكٍ، وتخبّئُ أقبيةَ الأموات؟ ولماذا تُصْلَبُ إحداهنَّ وتبدو حَلماتِ المذبوحَةِ مثلَ مناقيرِ الحَيّات؟! وكيف لهذا العابثِ أنْ يذهبَ للعاداتِ السرّيةِ، وله أكثرَ من عشرين عرايا؟! ولماذا تُخْجِلُنا الّرغباتْ؟
لمتوكل طه أو المتوكل سعيد عمر شاعر فلسطيني من مدينة قلقيلية، مواليد عام 958، تلقى الشعر عن والده الشاعر سعيد بكر طه.
حصل على دكتوراه في الآداب، وعلى الماجستير في الأدب ...