أما زلتِ تحبينني؟ لو كان حبي حنجرة لعمّ القارات نشيد الفرح لشيللر كما لحّنه بيتهوفن، ولتنهدت رئة الليل خلسةً على أرصفة الفوضى الباهرة. ولكن حبكِ صار سوراً، واغتلتِ الحوار! كيف أحاورك والأصوات موصدة؟ أنا بحاجة للانفراد بذاكرتي، لغاية في نفس "يعقوبة". أتأمل ذكريات السنة القادمة، والعالم المبني للمجهول، وحين تمطر داخل محبرتي، أكتب زمننا الآتي بالأثير فوق الريح. هل أحببتِني ذات يوم، ذات أبدية دامت لحظة حب؟ لا لوسامتك أحببتكَ، لا لنهرَيْ العسل واللبن في شفتيك، لا للجمر اللاهب في مواطئ قدميك، لا لموسيقى "التام تام" التي تقرع طبولها داخل دورتي الدموية حتى تمسك بيدي فأغرق في ذلك العناق الملتيس الملّقب بالمصافحة. أحببتكَ لأني حين أخطو إلى عينيك أمشي في غابات السر. ما الذي شدّكِ إليَّ؟ أحببتُ ازدواج شخصيتك. لم تكن لتتستر على حقيقية بدهية هي أننا جميعاً "الدكتور جيكل" و "المستر هايد" في آن وبدرجات متفاوتة؛ ثم إنين لست أفضل منك، وفي أعماقي قبيلة نساء يتعايشن بصعوبة! لعلّي أحببتكَ لأنك الغموض، لأنني لا أعرف من أنت، أعرف من ليس أنت! أحببتكَ لأنك الركض المستمر خلف شارات الاستفهام المشعة، لأنك الزلزال لا التثاؤب، لأنك الرجل لا يُحصى، لأن الثلج لا يستطيع أن ينسى آثار خطاك حتى بعد ذوبانه، لأنك حقول تستعصي على الحصاد. لقد حلّق بي حبك ذات يوم وأصبت بدوار المرتفعات. مأساتي أنني لا أبوح بحبي إلا بعد أن ينقضي. هل تحقدين عليّ؟ ها هي أيامنا تنمو وتزدهر بعد الفراق، وتتبدى مفاتنها عبر ثياب الذكريات. حبي لك لؤلؤة تقرّ بأنها كانت حبة رمل، قبل أن تغزل حولها ضياءك القمري. قبل حبك / الطعنة، كان حرفي مبة رمل في صدفة منسية قرب قاع البحر. النسيان خيانة عظمى! ألا تكرهينني؟ ارتكبت الحياة والحرف ولم أعاقر الكراهية، لكنني أتقنت فن اللامبالاة. ثمة لحظات أركل فيها الكرة الأرضية بقدمي ككرة قدم ولا أبالي. أراقبها تتدحرج على السلالم المظلمة لتدخل في مرمى الفتور. أقوم بدور حارس المرمى وأنا أتثاءب! أكرر: ألا تكرهينني أحياناً؟ أكرهك دائماً لأنني أحبك. ففي كل حب كبير مقدار هائل من الكراهية. لماذا؟ ربما كي يقدر المرء على أن يتعايش مع نفسه ونرجسيته، وربما من أجل بقائه، فلا حياة بلا حد أدنى من الحرص على الذات... والحب تشجيع على نهب الحبيب لنا. لماذا هجرتني؟ لأنني أحببتكَ كما أنت بكل نجومك وثقوبك، وأحببتَ أنتَ ما سأكون عليه بعد أن تُدخِل تعديلاتك على تضاريسي الروحية، وتُدخلني في قوالب مزاجك. لقد أحببتَ فيَّ امرأة أخرى تريد أن تصنعها من "مواديّ الأولية" وعناصري. لقد زرعت مخبريك في شبكتي العصبية، ووضعت عدّداً على دقّات قلبي، وصرت تحصي عليّ أصواتي وأمواتي ومصابيح روحي وتذكاراتي. وماذا في ذلك؟ ألم تكوني حبيبتي؟ كنتَ مثل أحمق يحاول تعليم السنونو استعمال البوصلة، أو يحلم بلعب دور مهندس الصوت داخل صدفة بحرية، أو دور قائد الأوركسترا لسمفونية الموج الجامح. الحب عندك مرادف للقفص لا الأجنحة! وهل يدهشك ذلك؟ أنا رجل شرقي حتى رؤوس شاربيّ وخنجري. لم يعد ثمة ما يدهشني، حتى إذا جاءت فراشة ولسعتني كعقرب. كل شيء صار يبدو لي مألوفاً! ولكنكِ أحببتِ أبجديتكِ أكثر من حبك لي.. لماذا لا تعترفين بذلك؟ الكتابة طوق نجاة، وحبك بحر الأخطبوط وسمك القرش. الكتابة مظلة، وحبك عواصف مفاجئة. الكتابة آخر قوس قزح في جعبتي، وحبك سماء معبّدة بالإسفلت. ولكنك تقترفين أحياناً كتابة ما وراء الخطوط الحمر والأسلاك الشائكة المحرّم تجاوزها. ثمة فارق بين الكتابة بماء الذهب والكتابة بماء الروح! ألا تخافين؟ حين سقطتُ سهواً على هذا الكوكب، اكتشفتُ أن حقوقي لا تتعدى حق الأكل والشرب والإنجاب والموت، فقررت أن أضيف إليها حقّي في الطيران! أكتبُ.. أكتبُ، وآخر الليل تتحوّل الورقة البيضاء فجأة إلى حقل شاسع من الثلج وأنا أنزف وحيدة في وسطها... ريثما أفرك القلم السحري ويأتي جنيُّ الكتابة من القمم ليسامرني. ألا تخافين الوحدة؟ أخاف الرضوخ للخوف منها. لست مهجورة، لكنني هاجرة لكل من حولي ريثما أجد أبحدية تقنعي. ألا تخافين الموت وحشةٌ؟ لقد جرّبت الموت ولم يضايقني كثيراً. ألا ترى أنني سجينة داخل جثتي؟ وحده الموت يطلق سراحي، صلتي بموتي شبه ودية لا تخلو من الفضول من طرفي. أكرر: حين أموت، أوصيك أن تكتب على قبري: "هنا ترقد امرأة ماتت غرقاً في محبرة!".
غادة أحمد السمان كاتبة وأديبة سورية.ولدت سنة 1942م، في دمشق،ضمن عائلة شامية عريقة. والدها أحمد السمان الذي كان رئيس جامعة دمشق كما استلم منصب وزير التعليم السوري لفترة قصيرة، ووالدتها ...